قراءة في رواية (العطر)

قراءة في رواية (العطر)

زيد الشهيد
في تجليه شكلاً فنياً يمتص نسغ التأثير ليؤثِّر يسعى الخطاب الروائي إلى خلق الدهشة ونثرها كعطر يتسلل في فضاء الوسط القرائي اعتماداً على ذات منتجة تحتدم بنار الخلق لتشيع في فيوض رغبة القراءة ؛ وكلما تقدمت تلك الذات نحو مرابض اللامألوف أو ارتقت إلى تخوم اللامعقول تمكنت من حيازة كسب الإعجاب، وأثارت ذائقة المتطلعين إلى التغيير، أو المنادين به صناعةًً لأدب عظيم. ذلك أن (الأدب العظيم يحف باللامعقول)،

حيث الخروج على القوانين السائدة ليس بدافع الإساءة إليها بل بضرورة تجاوزها، كونها قوانين لم تعد تلبّي رغبات أو تتماشى مع مَن يمتلكون الخيال ويتَّصفون بجرأةٍ لا تأبه للعاديات والتحذيرات، منطلقين من أنَّ (ليست هناك قوانين في نهاية المطاف مع كل ثراء ومهارة وجرأة خيال قرون كثيرة تقبع خلف أحدهم.)..

إنهم حملة رسائل التغيير ممّن لا يتوانون عن الخلق الذي يبدو للوهلة الأولى غريباً ومحيراً باعثا على الرفض ولا يتراجعون عن مساحةٍ قفزوا إليها محملين بغيوم الإصرار على التقدم. فهم يرون أنَّ (الحقائق لا تكفي، لأنَّ الحلم يعمل) حسب قول باشلار، والمخيلة جياشة لأن تأتي بالمثير تجاوزاً على الحقائق حتى لتغدو بعد حين من القراءة أن الأحلام ذابت في بوتقة الحقائق أو أن الحقائق غدت من نافلة الأحلام. هكذا هو الأدب لا يقر التثبت على قوانين تنغرز في ارض معرفية لا يمكن تجاوزها، ولا يتوقف عند حد. إنه المتحرك أبداً إلى أمام فلا يستقر ؛ لكأنه يميد على أرض هشة تتطلب منه عدم الاستقرار. وتلك من مميزات حيويته وصفات كونه متجدد يتوازى وزيادة الوعي دون أن يفقد البعد الإنساني. توازي يتكرس ليصل إلى مضارب التأثير في المتلقي جاعلاً منه ذات متابِعة متحفزة. تدخل المحظور أو تقتحم ما ليس له تأثير في حقبة ما فتجعل منه مؤثراً وفاعلاً. وبذلك تتحقق الدهشة ويتمخض الإعجاب، وتروح الذائقة تعوم على لذاذة من مد متعوي يقر بحفاوة العمل الأدبي وجماليته وسحره.

يحق لهذا الكلام أن ينطبق على رواية (العطر) للكاتب الفرنسي " باترك زوسكند "فهذا الخطاب السردي الذي كتبه مؤلفه العام 1985 يأخذ مداه من مفردة العطر التي تشكل هيمنة كاملة على مجريات الأحداث، جاعلاً كل ما تحت هذه الهالة السحرية غير المرئية رهنٌ في تأثيرها الغاوي والفاعل كتأكيد لأهمية حاسة الشم في حسم المديات الحياتية للإنسان على أنَّ " للعطر قوة إقناع أقوى بكثير من الكلمات. " ص91
خطاب يفجِّر ثورة الحواس ويقدم حاسة الشم لتكون شفرة مهيمنة في الخطاب وباعثة على ولادة أحداث تحقق نجاحاً أدبياً وتتحول إلى الفن السينمائي فتدفع إلى حيازة جائزة الاوسكار بفيلم يحمل اسم الخطاب الروائي (العطر)!.. وإذا كانت حاسة اللمس قد وظِّفت كثيراً في الأعمال السردية حيث الأصابع تتحرك لتجوس المخمل الوثير في تلك الستارة أو ذاك الفراش، وتمر الأنامل على ذلك الخد أو تلك البشرة من الجسد ؛ وإذا كانت للعين حصة الأسد الكبرى في التعبير السردي خصوصاً أو الأدبي عموماً، وإذا كان السمع أخذ حيزاً لا يستهان به في الوجود الأدبي وأن (الأذن تعشق قبل العين أحياناً) فإنَّ حاسة الشم ظلت مهملة لا يأتي ذكرها إلا كأكسسوار مزوِّق في الوصف ولم يسبق أن تحفزت لتتقدم على أخواتها الحواس فتصبح مادة عمل كبير قفز ليكون في مقدمة الأعمال الأدبية. ولعل الرائحة الواسطة بين باعثها ومتلقيها قد تناولها بودلير في واحدة من أجمل قصائده (نصف عالم في شَعر امرأة) (3) حيث رجاؤه في أن يشم رائحة شعر الحبيبة التي يتوجه إليها، والتي سنتناولها لاحقاً، لعل هذه الرائحة هي التي ألهمت زوسكند. ومن بودلير التقط شفرة الرائحة لتكون مفجرة واحدة من أجمل الروايات التي تتناول موضوعاً غريباً عماده الرائحة.
خطاب العطر الروائي

يذهب الروائي غائراً إلى النصف الثاني من القرن الثامن عشر زمناً، وإلى باريس الفرنسية مكاناً ليجعل منهما حاوية لأحداث خطابه الروائي فيروح يقص علينا كيف ولد بطل روايته (جان بابتيست غرينوي) لقيطاً في عهد شاعت فيه النتانة وانتشرت في أحياء باريس (الشوارع تنتن بالروث، الأفنية الخلفية تنتن بالبول، سلالم البيوت تنتن بالخشب المتعفن وفضلات الجرذان، والمطابخ تنتن باللفت الفاسد وشحم الحملان. من الردهات، التي لا تهوّى، كانت تنبعث رائحة الغبار المتعطن. من المخادع رائحة الشراشف المدهنة، رائحة الأسرة النابضية الرطبة ورائحة المباول الحادة اللذيذة. كانت المداخن تنشر رائحة الكبريت، المدابغ، رائحة القوليات النفاذة، المسالخ، رائحة الدم المتخثر. كان الناس ضواري ينتنون بالعرق والثياب القذرة: من أفواههم تنبعث رائحة الأسنان النخرة، من معداتهم تنبعث رائحة عصارة البصل، ومن أجسادهم، إن لم يعودا في ذروة الشباب، رائحة الجبن العتيق والحليب الحازر ورائحة الأورام السرطانية. كانت الأنهار تنتن، والساحات تنتن، والكنائس تنتن، الأكواخ كذلك، والقصور.) ص8
يعكس الاستهلال الذي جاء بهذا التوصيف المثير للواقع ذكاء صانع الخطاب في توريط المتلقي لمتابعة الأحداث ومعرفة مجريات حركة الشخوص وفحوى الرواية، وقوة الإقناع الذي يجعله (يجعل المتلقي) يصدِّق أنَّ ما جاء كان واقعاً في ذلك العهد البعيد وعليه أن يحفِّز المخيلة لرسم الشيئيات والحيثيات والصورة بكاملها ليكون تحرِّكُه مع مجريات السرد مقبولاً ومثيراً، وأن النتانة التي كانت شائعة وسائدة في كل مكان هي التي حفَّزت شم احدِهم ليكون بطلاً لخطابه، بل أزاد على ذلك ليكون هجومه السردي على المتلقي أكثر أسراً واشد سطوة حيث جعلَ ولادةَ بطلِه وسط هذا الاحتدام من الرائحة وفي أكثر ألاماكن نتانة من مجموع أماكن النتانة التي وردت أعلاه. فقد ولد جان بابتيست غرينوي في شارع " اوفيرس (حيث جاء لامه العاملة في احد دكاكين بيع السمك المخاض، وكانت لحظتها تقشر حفنة من السمك. " وكان السمك الذي أقسمت الأيمان على انه اصطيد صباحاً من نهر السين نتناً إلى درجة أن رائحته غطت على ريح الجثث. إلا أنها لم تشعر لا برائحة السمك ولا بريح الجثث، فقد كان انفها محصناً تحصيناً منيعاً ضد الروائح، وعلاوة على ذلك تعاني ألماً في بطنها قتل فيها كل إحساس بالانطباعات التي يتركها العالم الخارجي في الحواس.) ص9
و " تكورت تحت الطاولة ولدت هناك كما فعلت أربع مرات من قبل، وقطعت حبل السرة بسكين تنظيف السمك. وفي اللحظة التي صرخ غرينوي قادماً إلى الحياة ذهبت الأم راحلة إلى الموت.
ترك صانع الخطاب بطله يعيش على هامش الحياة. ولكي لا يتعاطف معه المتلقي أعطاه صفة القبح القادم من ملامح هلامية ؛ لكنه لم يتعمق في توصيف هذا القبح. لأن هذا ليس له تأثير على مجريات الأحداث، وليس للجمال أو نقيضه حاجة في توظيفه فللرواية مسارٌ آخر غير هذين المنحيين.
يتشرب البطل مما لدى الحياة. تعطيه لمن يهبط في فضائها ويمشي على أديمها كمحصلة بشرية تعيش اليومي، لا على طموح مفترض بل على أبجدية أبدية تبدأ بالصباح والظهيرة والمساء يتخللها عمل وغذاء ؛ وليل فُرض للنوم... هكذا كانت حياة جان بابتيست غرينوي الذي يشكّل لولب القص، وما حوله لا تتصيرر إلا تأثيثات تكمِّل مجريات السلوك وعوامل مساعدة لاكتمالية الأحداث. فكل ما يرد من هذه التأثيثات (زمكانية وشخوص) تمر ولا تعود. كل واحدة منها تأخذ حيزاً من البعد الروائي والسرد وتنتهي حيث أحداث الخطاب لا تتم في مكان واحد إنما عبر ترحالات يتنقل عبره غرينوي من مكان لمكان. وفي هذه الأمكنة تنبثق شخوص سرعان ما تختفي من وجه الحدث لتبرز وجوه أخرى... فمن الأم العاملة في تنظبف السمك في حارة (ديزوينوسانس) وهي أسوأ حارات باريس نتانة ورداءة وسحق إلى المرضع (جان بوسي) التي عهدت الكنيسة إليها بإرضاعه وتنشئته، إلى (مدام غايار) التي تسلمته لتتولى مهمة إرضاعه بعد أن تخلت جان بوسي عنه معلنة هلعها من هكذا رضيع نهم يستحوذ على الحليب الذي في ثدييها ويسرق حصة أطفال يشاركون الرضاعة في الثديين، إلى الدباغ (غريمال) الذي كان في حاجة إلى عمال صغار حيث رمته مدام غريمال لتتخلص منه، إلى (بالديني) الذي صارحه غرينوي برغبته العمل لديه في محله الكبير ومصنعه الشهير في إنتاج العطور، إلى المركيز تاياد اسبيناس صاحب نظرية " محفز الموت الترابي (التي تقول " أن الحياة تتطور على ارتفاع معين عن الأرض، لان الأرض ذاتها تطلق على الدوام غاز عفن اسمه محفز الموات يعطل الطاقة الحيوية ويؤدي بها في النهاية إلى الشلل الكامل. ولهذا تسعى جميع الكائنات الحية للابتعاد عن الأرض، أي تنمو مبتعدة عنها ولا تنمو فيها، ولهذا فهي ترفع أسمى أجزائها في جهة السماء، فترفع الحبوب السنابل وتحمل سوق الأزهار الوريقات والإنسان رأسه، ولهذا عليها أن تعود إلى الأرض إذا غلبها العمر ودمرها الغاز المميت، وهي تتحول بدورها بعد الموت إلى الغاز بفعل العفن.) ص 152، إلى (آرنولفي)، وهي أرملة " تدير محلاً لإنتاج وبيع العطور، وأخيراً (أنطوان ريشي) والد الضحية الخامسة والعشرين التي كانت خاتمة ضحايا غرينوي في مهمة تحقيق مأربه لاكتمال مشروعه العطري الذي وجد نفسه مساقاً لإنجازه بناء على حاسة محفّزة ميّزته عن البشر وقادته في النهاية إلى حتفه مقطعاً عظاماً وشظايا لحمية.

وعبر هذا الانتقال من شخص إلى شخص كان الانتقال معه أيضاً يتم من مكان إلى مكان. وفي كل مكان يترك هذا المخلوق الغريب والغامض حدثاً يحفر بصمة على جسد الخطاب لترتسم نافرة في ذاكرة المتلقي. فمن (ديزينوسانس) جوار المقبرة التي بين شارعي (اوفيروس) و(دو لا فيرونري) في باريس حيث ولد، إلى مجمع (سانت ميري) للقطاء خارج باريس حيث عهد به إلى مربية رفضته لأنها صارت ترتعب من إرضاعه " فقدت عشرة أرطال من وزني رغم أني آكل طعام ثلاثة. " ص13، إلى محلة (فوبروغ سانت أنطوان) في الضفة الثانية خارج باريس، إلى شارع (دو مرتيرين) قرب النهر حيث الدباغ غريمال، إلى جسر (أوشانج) حيث بالديني يعيش بمحله الفخم وسط باريس، إلى مدينة (اورليان) جنوباً، إلى الجنوب عمقاً اعتماداً على " بوصلة انفه التي مكنته من تفادي المدن، القرى، المستوطنات " ص128 حيث جبال (أوفيرني)، إلى الشرق مدينة (بييرفور) حيث احتضنه المركيز تاياد اسبيناس، إلى ميناء (لوغرو دي روا)، إلى مدينة (غراس) " عاصمة إنتاج وتجارب الطيوب والمواد العطرية الأخرى كالزيوت والصوابين التي لا يشق لها غبار. " ص176، إلى جزر (ليرين) حيث دير (سانت هونورا) الحصين مكان آخر فتاة تمكن منها، وأخيراً إلى (ديزينوسانس) جوار المقبرة التي يجدها تعج بـ ((أنواع الرعاع، اللصوص، القتلة، العاهرات، الفارين من الجندية واليافعين اليائسين من الحياة)) ص261 حيث الحتف الذي ينتظره.

الخطاب وخلفية صانعه

لم يعتمد صانع الخطاب على مخيلته في صنع الأحداث وتفاصيلها فقط في مساره السردي إنما اعتمد على خلفية ثقافية تعبر عن إلمامه الكبير والواسع بصناعة العطور وعرف جزئيات صناعتها والتعامل مع مواد وأدوات الصنع. فعلى امتداد جسد الرواية يتفاقم إعجاب المتلقي وهو يرى إلى الروائي يسكب معلوماته الوفيرة ومفرداته القاموسية لصناعة العطور القادمة من الدهون والشحوم والمعاجين والأعشاب في عمليات التسخين والعصر والتقطير والتبخير، بالأدوات الداخلة في مراحل التصنيع (آنية البخور من النحاس الأصفر، قوارير وبوتقات كريستالية مع سدادات صقيلة من الكهرمان)، مع دوارق (وأوعية وصناديق مغلقة بالشمع وشبكات ساخنة في الظل.) ص104 إضافة إلى عشرات الأسماء القاموسية التي تتعلق بهذه الصناعة سواء أسماء الأعشاب أو الدهون أو عمليات التقطير. فهناك على سبيل المثال (قطَّر النحاس، الخزف، الجلد الحبوب، وحجر الصوان، قطَّر التراب الخالص. قطَّر دما وخشبا وسمكا طازجاً. قطَّر شعره وقطَّر أخيراً الماء) و(زيت زهيرات القراص وبذور الرشاد / ماء عطرياً من لحاء شجيرة بيلسان طازج وأغصان الطقسوس..) ص108 وانتزاع الروائح الطيبة من (الصعتر والخزامى وبذور الكمون)ص109 و (هرس نوى اللوز المر في المعصرة، سحق حبوب المسك، فرم بصيلات العنبر بالفرامة أو برش جذور البنفسج) ص103 وأيضاً (دهون الشعر، المعاجين، المساحيق، الصوابين، المراهم، الصرر العطرية، شحوم الشعر، ملمعات اللحى، نقطة الخال ولصقات التجميل،حنى مياه الحمام، اللوسيون، الغسول، أملاح الاستنشاق، خل المراحيض) ص54 وهكذا!

وفي خضم هذه الأبجدية الهائلة من الروائح ومنتجات الروائح كان غرينوي يعيش حالة الهوس في التعامل مع الروائح. اكتشاف ما لم يكتشفه من قبل، وإنتاج ما يريد إنتاجه حتى لو تطلب الأمر التعدي على الآخرين بارتكاب فعل القتل وهو ما بدأه ولمَّا يزل شاباً يافعاً عندما أجهز على فتاة حتى الموت ليمتص عطرها دون الاهتمام بجمالها، فهو (لم ينظر إليها، لم ير وجهها البض الذي يغطيه النمش، لم ير فمها الأحمر، عينيها الخضرائين المتلألئتين، فقد شد عينيه وهو يخنقها وكان كل همّه إلا يخسر ذريرة واحدة من عطرها.) ص50

كان على صانع الخطاب أن يغدق على غرينوي صفة الشهوانية الجسدية فيذهب به إلى انتهاك عذرية الفتيات اللائي يقتلهنَّ! كان عليه أن يُظهر شبقاً معجوناً بالهوس القادم من جمال أجساد الفتيات وعذريتهن! كان عليه أن يمارس سادية مشاهدة الفتيات يتعرين أمامه ثم بعدها يرتكب فعل القتل. لكن صانع الخطاب نحا بعيداً عن توقع المتلقي، آخذاً به إلى بقعة لا تدنو من الإحتمالية بأن جعل جُلَّ مراد بطله استخلاص الروائح إلى أخر ذرة من الأجساد المنتجة لها، ووجهه صوب تكريس ذات لا تعيش إلا على رائحة ؛ ولا تصرف الفكر ينشغل إلا بالبحث عن رائحة، ومن ثم العمل على استنشاقها لتشبع تلك الذات بما عطشت من اجله مثلما توجه صانع الخطاب إلى النأي عن استخلاص الروائح بغية جمع ثروة كما يُخيّل للمتلقي أن يتوقعه، ولا لسادية تبعث على تلذذ البطل في قتل ضحاياه، أنما وجهه ليكون شخصاً عادياً يعيش حياة دون الفقر، وبذات هادئة تبتعد عن التشفي. لكأن حاسة الشم التي يمتلكها هي التي تقوده لضمان استمرارية قدرتها على التواصل قديرة مكينة، لا تضاهيها حاسة شم أخرى لأي مخلوق. حاسة لم تدفعه إلى أن يكون عنصراً يُشار إليه بالإعجاب، أو بالحسد، أو بالكبرياء إنما جعلته إنسانا هامشياً لا يُعتد به ولا ينظر إليه على أنه مفجِّر أحداث، ومغيِّر أقدار، ومُحدث انعطافات تنحو بالمجتمع منحاً يتفاوت ومساره الاجتماعي السائد. فظل على امتداد مسار الرواية شخصاً يصنع الأحداث ولكن تحت ظل الهامشية (فلم يخطر على بال احد أنه مُرتكب فضائع أفعال القتل)، مرتدياً أردية البساطة وسالكاً (أمام مرؤوسيه في العمل) سلوك المخلوق المثابر المطيع الذي تصل بعض سلوكياته غير المقصودة إلى اعتباره أبلهَ، بليداً لا يصلح إلا ليكون عاملاً يصرف يومه بالمُجهد من الوظائف، وبالضئالة من وقت الارتياح.

وكان العطر كمرائي يحقق غرينوي من خلاله نواياه في الوصول إلى ذوات الذين أمامه ليطيح بعاطفتهم ويتركها أسيرة رغباته (كانت نساء السوق، إذا شممنه يدسسن له الجوز والخوخ الجاف في جيوبه، لأنه يبدو في أعينهن جائعاً وعاجزاً)) ص193، مثلما استخدم روائح تماهيه عن الناس وتجعله يتمظهر بما ينوي فعله لتجسيد مآربه، فالروائح (يبدلها حسب الطلب كالثياب، والتي سترته عن عيون الناس وتركته في سراب المجهول.) ص193

العطر في زوسكند.. العطر من بودلير
يبدو أن العطر يدخل في جزئيات الحياة الباريسية.. مفردة تتراغى بهياجها حتى لتغدو هاجس كل فرنسي. فيه ومنه ينطلق ليس السارد في التوصيف فحسب بل الشاعر في التعبير أيضاً. العطر لدى الباريسي يدخل منمنمة حياتية تضمخ يومه وتشبع عاطفته، تبرمج رغبته للحياة وتضمخ أمنيته بالأمل. وبودلير الشاعر الذي يعيش " سأم باريس " يتوه في موج العطر وهو يناجي الرافلة على سيل كلماته وخميلة روحه (دعيني استنشق طويلاً، طويلاً، رائحة شعرك. دعيني أُغرقُ فيه كل وجهي، كالضمآن الذي يغرق في ماء نبع، دعيني ألوح به بيدي كمنديل فواح بالعطر، كي انثر ذكريات في الهواء. آه لو تدرين بكل ما أرى! بكل ما أحس! بكل ما اسمع في شعرك! روحي تسبح على العطر مثلما تسبح أرواح الآخرين على الموسيقى.) (4)، فيعيد إلينا اتجاه باتريك زوسكند في اختياره للعطر ليكون شفرة خطابه الروائي. وليعلمنا أن العطر باريس بكل غوايتها ودلالها وفتنتها وسحرها وحتى انحطاطها ونتانة بعض من دروبها وأزقتها وأحيائها في زمن ما من قرون ولّت. بودلير يدفع بمناجاته للتعاضد مع زوسكند ويقف إلى جانبه في إعطاء تلك الأهمية الكبيرة للعطر ليكون الشفرة الأولى في الخطاب أو هو نفسه كان المحفِّز لزوسكند أن يخلق من العطر خطاباً روائياً محيراً يدفع إلى التساؤل كيف استطاع هذا السارد أن يفجر هذه المفردة ويوظفها في رحيل سردي ساحر امتزجت فيه الواقعية السحرية بالخيال المحلق بالمكان المتجسم بأحياء باريس وأماكن مترامية في فرنساً، وبذلك الخيال الذي يدفع إلى التناص لشخص غرينوي وهو يهرب من واقع المدن إلى ذلك الكهف ليعيش فيه متوحداً مع ذاته فقط، وينأى عن كل ما هو بشري. يرى باللمسات البشرية وأنفاس البشر تلويثاً للطبيعة ؛ وما الطبيعة إلا النقاء ؛ وما البشري إلا من صميم التلوث وأبجديته التي دمّر من خلالها مدهشات الطبيعة وهتك الصفاء، سارقاً جذل العصافير وانطلاقة الحمام، مطيحاً بهيبة الزروع اليانعة ومكرّساً افرازات المدن الفاغمة. لا يلتقي السكون إلا ليزرعه بالضجيج، ولا يحاور النور إلا ليرشقه بالعتمة. فترتسم تأثيرات التناص على الروائي معيداً إلى الذاكرة القرائية حياة روبنسن كروزو الذي عاش في جزيرة نائية خلق من خلالها مبررات الحياة الطبيعية. وإذا كان كروزو وجد نفسه مجبراً على العيش في الجزيرة النائية فإن غرينوي اندفع إلى جبال (أوفيرني) وذلك الكهف الذي على سفح واحدة من تلك الجبال بمحض رغبته رغم أن كليهما تاقا في النهاية إلى الخروج من قوقعة العزلة إلى مدار الحياة الاجتماعية. اندفع بدافع داخلي تمثل بكرهه للبشر، أولئك الذين لم ير منهم غير إعاقة حياته التي يفترض أن تعاش كما يعيشها الغير ممن لهم أسرة وكيان. لذا يستطيع المتلقي اكتشاف ثمة توازٍ في حياة غرينوي يتمثل الإفصاح به عندما كبر واستخلص ما يمكن استخلاصه من روائح تمثل بعضها في إبداء الناس عطفاً ومودة له، يقابلها امتعاض وازدراء منه تجاههم.

(1) فالتعاطف معه تجلى ساعة الإعداد لإعدامه في ساحة (غراس) ولهفتهم بدافع الانتقام للتشفي منه بعدما جرَّعهم الهلع بقتل بناتهم بخفة تقرب من السحر والخيال إذ نثر قطرة واحدة من العطر الذي جمعه في قارورة المُبتغى تلك اللحظة فأحالهم من موتورين ناقمين إلى محبين رائفين، يغدقون عليه حنانهم ومودتهم ويرون فيه الشاب الذي ينبغي أن ينال العطف الأبوي لدى الآباء ممن كانوا يتجمهرون في ساحة الإعدام، والامومي من الأمهات اللائي ثكلن بقتل بناتهن وتمنين أن يرين القاتل مقطوع الرأس يُشوى بالنار السعير المُعدّة له منذ الصباح، أو ممَّن تخيلن بناتهن يقعن بيد هذا السفاح القاتل، وكذلك العطف الأخوي من الذكور والإناث ممن يقاربونه العمر. فباتوا يشعرون وهم يبصرونه ينزل من العربة التي احظروه فيها مرتدياً قفطاناً أزرق ملاكاً وليس مجرما قاتلاً فـ (حلّت فيهم المودة، الرقة، الحب الطفولي " و " لم يرغبوا في مقاومة مشاعرهم.كانت حالهم بكاء لا يستطيعون الوقوف بوجهه، نحيباً مكبوتاً طوال الوقت، يتصاعد من القلب ويسحق كل مقاومة، يسيحها ويموهها. صارت الناس ضعيفة، مذابة الروح والجسد، أمواهاً وغمراً، لا تشعر إلا بقلوبها علقة تخفق في الباطن وسلموها، كل واحد منهم، كل واحد منهنَّ بيد الرجل الصغير في القفطان الأزرق ليفعل بها ما يشاء، فهم أحبوه.) ص245

(2) أما البغض من جانبه عليهم فتمثل لحظة أبصرهم في خنوع ودعة وابتذال يستنجدون عطفه فابتسم ابتسامة (شماتة قبيحة وهازئة، تعكس كل نصره وكل احتقاره) ص247 ؛ و(ود لو يكنسهم عن وجه الأرض) ص249، و (تمنى لو يلاحظوا كم يكرههم) ص249. إنه شعور إعادة التقدير لذاته المسحوقة وتشفيه من محبطي حياته.
الخطاب.. الخاتمــة
وفي دورة الحياة المليئة بالأمكنة وبالأحداث والجرائم ضرب صانع الخطاب ضربته الذكية عندما جعل الحاضنة الجغرافية التي ولِد منها (ديزوينوسانس) هي نفسها التي تؤرخ لاختتام حياته... مخلوق جاء من رحم النتانة والفساد يتقرر مصيره في نفس الرحم النتن الفاسد، لكأنه أراد تذكرينا بأسطورة سيزيف التي تتمحور على دوامة الجدلية الوجودية وإن كان الموضوعان يتفاوتان في دلالاتهما ومدلولاتهما مثلما أراد الإشارة إلى تأثير العطر في حياة المخلوقات ولا سيما الإنسان الذي يجعل منه شفرة لترجمة حامل العطر حيث حاسة الشم التي تشكل أيقونة تمييز بين مجمَّع للنتانة وحقل للورود.

إنَّ البحث عن شفرة ودلالة هذا الخطاب لا تبتعد كثيراً عن تأويل أن بعض الناس تسيرهم أقدارهم المدونة على صحائف تاريخهم حتى قبل أن يولدوا ؛ وأنَّ هذا العطر ما هو إلا صورة متماهية للقدر الذي وجد غرينوي حياته مساقةً بلا إرادة منه لملاحقته بتأثير حساسية الأنف الذي جعله يمتلك كل مقومات التحاور مع متواليات العطر بمسمياته الوفيرة ويدرك أن الناس في محصلة المسار الطبقي تعيش على هامش الغواية التي تفعل فعلتها على الآخرين والتي قد يستخدمها إنسان يحمل مبررات الغواية ليجعل من هؤلاء الناس دمى تتحرك بمشيئته، وتتحول أحجار شطرنج ينقلها أنى يشاء ليضعها على أي مربعٍ يشاء.