الخفة تفكك الأشياء وتتولى وظيفة القص

الخفة تفكك الأشياء وتتولى وظيفة القص

من ناظم السيد
يقوم كتاب باتريك زوسكند، الصادر مؤخراً عن دار الجمل بترجمة كاميران حوج بعنوان ثلاث حكايات وملاحظة تأملية، علي الخفة كشرط للقص أو للسرد، أي ان الخفة تدخل في بناء الحكاية وليست مجرّد تنويع خارجي. بهذه الخفة يمتدُّ الحدث ومنها يستمد قدرته علي المتابعة والمراكمة. والخفة المقصودة هنا هي معادل للضحك بمعني من المعاني.

هذا الضحك الذي اعتبره ميلان كونديرا جزءاً أساسياً من بنية الرواية في كتابيه النقديين خيانة الوصايا و فن الرواية كما ضمّنه معظم كتبه كما يظهر من أحداثها وكما تشي عناوين من مثل كتاب الضحك والنسيان، المزحة، خفة الكائن التي لا تطاق و غراميات مرحة.

بالطبع، ثمة اختلاف بين هذين الروائيين، إذ يبدو الضحك عند كونديرا أداة لتفكيك القيم والبديهيات وللنقد السياسي بينما يأخذ عند زوسكند بعداً درامياً في هذا الكتاب تحديداً، ذلك أن هذه الملاحظة الشخصية لا تنطبق علي كتابات هذا الروائي من خلال روايتيه السابقتين العطر ـ قصة قاتل و الحمامة.
الكتاب الذي بين أيدينا يختلف كثيراً وإن كان يحتفظ بذلك التأمل المتوتر الذي ظهر في رواية الحمامة. لنقل إن ضحك زوسكند هو نوع من المفارقات المأساوية كما يبدو في الحكاية الأولي بحثاً عن العمق.
حكاية فنانة تشكيلية شابة يمتدحها أحد النقاد لكنه يأخذ عليها عدم العمق في رسوماتها. لا تفهم الشابة هذا النقص فتروح تفتش عليه في كتب النقد وفي المعارض وفي الأكاديميات لتنتهي أخيراً مدمنة علي الكحول والأدوية قبل أن تمزّق أعمالها وتنتحر. لكن بعد انتحارها نقرأ رثاء للناقد نفسه، رثاء متلعثماً وغامضاً يشي بوجود عمق عند الفنانة التي باتت ميتة الآن. في الحكاية الثانية الصراع يصوّر المؤلف صراعاً في لعبة الشطرنج بين عجوز مترهل ورث الثياب ما زال يربح علي خصومه منذ نحو تسع سنوات من غير خسارة واحدة. أما الشاب الغريب علي الحاضرين فقد بدا واثقاً بالنصر. أو هكذا خُيّل للأشخاص الذين تحلقوا حوله متمنين له الربح شامتين بالعجوز.
وفي نهاية الحكاية يربح العجوز الذي لا يثير حماسة الآخرين بطريقة لعبه الباردة والمدروسة رغم أنه، أي العجوز، تمني في داخله أن يخسر أمام هذا الشاب ليستريح من عناء الربح الذي يحمله طوال سنوات وسنوات. الحكاية الثالثة بعنوان وصية المعلم موسارد التي يخبر فيها سبب إصابته بمرض الصدفية.
والسبب هو اكتشافه نهاية العالم. ونهاية العالم بحسب المعلم ستكون بسبب تصدّف الأرض أو إصابتها بالصدف كما حصل للقمر من قبل. وكان موسارد قد اكتشف ذلك مصادفة من خلال وجود الصدف علي اليابسة الذي ينشأ من المياه الجوفية وليس بسبب أزمان جيولوجية سابقة كانت فيها البحار والمحيطات تملأ الأرض كلها.
ويعطي موسارد مثالاً علي نظريته تحوّلات الفرد البشري من الطفولة إلي الشيخوخة، أي من طفل طري العظم واللحم إلي عجوز يشبه الصدفة في تحجّرها قبل أن يموت ويتحول إلي صدفة كاملة، أي إلي هيكل عظمي. الحكاية الأخيرة وهي الملاحظة التأملية التي وردت علي غلاف الكتاب بعنوان فقدان الذاكرة الأدبية، وفيها يحاول أحد القرّاء أو الكتّاب معرفة الكتاب الذي غيّر حياته، لكنه ينسي الكتاب والروائي معاً.
ومن نسيان قصيدة إلي نسيان شاعر إلي نسيان جمل إلي نسيان ما بدأه في أول الحكاية نجد أنفسنا أمام قصة تتنامي بالنسيان وحده بلا حدث.

بالطبع، ثمة قراءات غير العبث والخفة والضحك الأسود لهذه الحكايات الأربع. في القصة الأولي هناك امتداح ضمني للشباب وسخرية من النقد التشكيلي الحديث (وغير التشكيلي). في الحكاية الثانية هناك صراع بين الشيخوخة والشباب، بين القديم والجديد، بين الكلاسيكية والحداثة، بين المتانة والتهوّر، بين الحكمة والمغامرة، بين النصر والمتعة، وكل ذلك من خلال لعبة الشطرنج التي يتبارز بها عجوز وشاب. في الحكاية الثالثة هناك العبث بالعلوم الطبية والفلكية والجيولوجية والأنتروبولوجية. في الحكاية التأملية الأخيرة ثمة تكرار لنظرية العلاقة بين القراءة والكتابة من جهة والذاكرة من جهة أخري، أو بين الثقافة ومصاردها.
في كل حال، ما يبدو لافتاً في كتاب ثلاث حكايات وملاحظة تأملية أن زوسكند فقد ذلك الانفعال والقدرة علي البناء والبحث الذي يميّز الرواية وتنويع الأصوات ورسم الشخصيات وصناعة الحدث والإدهاش، أي كل تلك العناصر التي زخرت بها رائعته الشهيرة العطر ـ قصة قاتل التي تحوّلت إلي فيلم عرضته الصالات السينمائية قبل فترة قصيرة. لكنه في الوقت نفسه احتفظ بذلك الفانتازم الذي يتكرر في أعماله، فانتازم يقع علي تخوم الواقع من غير أن يدخل في مخيلة سحرية أو ميثولوجية. هذا الفانتازم الذي ينشأ من رُهاب ما ومن خليط حياتي وأدبي من دون أن يغدو أسطورة كما عند ماركيز علي سبيل المثال. ذلك أن هذا الفانتازم ملتزم بتأمل الواقع وبتفكيك الحياة وليس بالجنوح الأسطوري.

عن ا لقدس العربي