الرهانات الاجتماعية والأخلاقية للتكنولوجيات الجديدة.. وادي السيليكون يجتاح العالم..

الرهانات الاجتماعية والأخلاقية للتكنولوجيات الجديدة.. وادي السيليكون يجتاح العالم..

يعيش العالم اليوم عصر الثورة الرقمية بامتياز. ولا شك أن أهم رموز التكنولوجيا الرقمية في الحقبة الراهنة يتمثّل في «وادي السيليكون» الذي يمتد على مسافة 40 كيلومترا في جنوب شرق سان فرنسيسكو بولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأميركية. هذا فضلاً عن أنه غدا مرادفاً في الأذهان لمركز التجديد التكنولوجي الأكثر فاعلية على الصعيد العالمي.

وعن السطوة التي يمارسها وادي السيليكون على العالم اليوم يقدّم اريك سادان، الكاتب والفيلسوف الفرنسي ذو الشهرة العالمية في مجال دراسة تأثيرات الثورة الرقمية وتكنولوجياتها المتقدمة على البشر والمجتمعات والحضارات، كتابا جديدا تحت عنوان «وادي السيليكون يجتاح العالم» ويشرح فيه واقع «توسع الليبرالية الرقمية دون قدرة مقاومتها»، كما جاء في عنوانه الفرعي.

إن المؤلف يطرح مجموعة من الأسئلة ويحاول بالتالي تقديم إجاباته عنها. أسئلة مثل: ما هي المخاطر التي يمكن أن تترتب على «إخضاع العالم لمتطلبات وادي السيليكون؟ ومَن يسيطر على المعطيات الخاصة بالمستهلكين؟ وما هي الضوابط القائمة اليوم بصدد ذلك؟ وكيف يمكن للبشر الحماية من التكنولوجيات الذكيّة؟ وما هو التوازن المطلوب بين تقدّم التكنولوجيات والرقابة الإنسانية عليها؟»... الخ.

يشرح المؤلف بداية أن وادي السيليكون، الذي يستمد تسميته من مادّة السيليكون الضرورية كأحد مكونات الصناعات الإلكترونية، يرتبط في المخيلة العامة للبشر اليوم بأنه المركز - المحرّك لمسار التطور والتجديد الرقمي في العالم أجمع. ويمثل بالتالي «نقطة جذب» حقيقية لآلاف المجموعات والشركات العاملة في القطاع الرقمي على المستوى العالمي.
ويحدد اريك داسان القول إن هناك اليوم نحو 6000 مجموعة تعمل في قطاع التكنولوجيات الرقمية. ويشير إلى أن «عدداً منها قد نالت شهرة عالمية مثل آبل وغوغل وسيسكو وفيسبوك وتويتر.. وغيرها من المجموعات التي غدت بسرعة كبيرة في موقع مسيطر في السوق العالمي».

ويشرح أن وادي السيليكون قام منذ الأصل كـ«أحد المراكز الأساسية للرأسمالية»، لكنه تحوّل خلال الثلاثين عاماً الأخيرة إلى نوع من «المنظومة الليبرالية التكنولوجية» التي تمدّ نشاطاتها لتطال العالم أجمع. ويشرح ذلك بأن العالم اليوم يعيش مرحلة جديدة «رقمية» تسمح بالرقابة في جميع الاتجاهات وفي جميع الميادين دون استثناء. ونقرأ: «إن الليبرالية التكنولوجية غدت تتحرّك وتعمل بحريّة كاملة ودون أيّة عوائق».
ويرى المؤلف أن هذه «الإحاطة» التكنولوجية بمختلف مناحي الحياة والنشاطات ستؤدي إلى رصد مختلف سلوك البشر. هكذا سيكون بمقدورها أن تقيم ما يسميه المؤلف «صناعة الحياة» الهادفة تحديداً إلى جني أكبر المكاسب من مختلف نشاطات الإنسان وتصرفاته. وبالتالي محاولة ممارسة الضغط المستمر على «القرارات الإنسانية» باسم البحث عن «أفضلها». وما يعتبره المؤلف في عمقه نوعا من «نكران حق الحريّة الفردية».

ويعتبر المؤلف أن وادي السيليكون «يجسّد رمزاً فريداً للنجاح الصناعي في عصر الثورة الرقمية». وهذا النجاح كان وراء قيام «عمالقة الصناعة الرقمية». والإشارة بهذا الصدد إلى الأرباح «الخيالية» التي تحققها المجموعات المعنيّة بذلك ما يعطيها أدوات كبيرة للسيطرة المتعاظمة على خيارات البشر وعلى طريقة تفكيرهم حيال العالم المحيط بهم.
وهذا لا يشكل معضلة كبيرة أمام المجتمعات فحسب، ولكنه يمثّل أيضاً على وجه خاص مشكلة ذات علاقة مباشرة بالنمط الحضاري الذي يرتسم بوضوح في الأفق، كما يشرح اريك سادان. ويوضّح أن الخطر لا يستهدف الجنس البشري بوجوده، ولكن يستهدف بالأحرى «قدرة الإنسان على اتخاذ القرارات وقدرة الحكم على الأشياء بحريّة وبوعي كاملين».
ومما تمّ نقله عن رئيس مجموعة «ميكروسوفت» قوله: «التحدي الذي يواجهه الإنسان هو أن يستعيد سلطته على البيانات الخاصّة به». ويشير المؤلف بهذا الصدد أن عمالقة «وادي السيليكون» يتابعون جمع البيانات عن البشر وأعمالهم وحركاتهم.. ولكنهم يحاولون بالوقت نفسه «طمأنة الضمائر».
ومن الأفكار التي تتردد في تحليلات هذا الكتاب تأكيد المؤلف بأشكال مختلفة أن «الليبرالية التكنولوجية الوليدة» التي تتوسع وتمتد دون التمكّن من مقاومتها تشكّل، بفعل القوة المتعاظمة التي تكتسبها التكنولوجيات الرقمية، أحد مكامن الخطر على حياة البشر بعيداً عن إعطاء الكثير من الاهتمام لـ«احترام الحياة الخاصّة للبشر وحرياتهم الفردية».

والإشارة أنه يوجد في وادي السيليكون العديد من الشركات والمجموعات التي تقوم بـ«رصد» و«التقاط» و«تسجيل» أغلبية الأفعال والحركات التي يقوم بها المستهلكون. ذلك دائماً تحت حجّة «تحسين أدائها». لكن المؤلف يحذّر من «المخاطر» التي تتضمّن عليها هذه «الليبرالية التكنولوجية».

وبهذا المعنى يحذر من «ذهنية وادي السيليكون» من حيث هي «مشروع لاستعمار العالم». ذلك أنه، أي وادي السيليكون، لم يعد يدل على مجرّد «موقع جغرافي» فحسب، ولكن أيضاً على «مركز لمحاولة السيطرة» على العالم. والإشارة أنه يعتمد بذلك على عدد كبير من الصناعيين والجامعيين ومراكز الأبحاث.. هذا فضلاً عن أصحاب القرار السياسيين.

لكن المؤلف يرى أن مثل هذا السلوك قد يتطوّر إلى نوع من «النمط الحضاري الجديد» القائم على «التنظيم الرقمي» لخيارات المستهلكين في المجتمعات المعنيّة به. ويرى أن هؤلاء المستهلكين عليهم أن يقاوموا من أجل المحافظة على «حرية قراراتهم».
ويشرح مؤلف الكتاب ما يسميه «الرهانات الاجتماعية والأخلاقية» للتكنولوجيات الجديدة، فيؤكد في هذا السياق أنه من الواضح تعاظم دور التكنولوجيات الرقمية في المجتمعات اليوم. وبالتالي ينبغي التفكير جديّا بظاهرة «بروز» هذا العالم الجديد وضرورة «استقراء النتائج التي تترتب على ذلك».

عن البيان