الرجل الذي اخترع فيدل كاسترو

الرجل الذي اخترع فيدل كاسترو

عرض ومناقشة: فاتن صبح
يعتبر فيدل كاسترو بالنسبة للكثيرين قائداً متطرفاً بحماسته مهووساً بذاته مؤمناً بما لا يقبل الشك أن مصير حياته راسخ، خلافاً لأهوائه السياسية والاقتصادية المتقلبة التي تحددها البراغماتية لا العقيدة.
ففيدل كاسترو كما يصفه هنري ريستون رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركية ربما القائد الأهم الذي قدمته أميركا اللاتينية منذ حروب الاستقلال في مطلع القرن التاسع عشر، وكان الزعيم الأكثر نفوذاً في تحديد شكل تاريخ كوبا.

وقد أحدثت ثورته تحولاً بالمجتمع الكوبي وكان لها التأثير الأطول في المنطقة بشكل يفوق أية نهضة شهدتها أميركا اللاتينية في القرن العشرين.
يصف المحللون فيدل كاسترو بأنه زعيم الثورة المتحمس الذي جلب الحرب الباردة إلى النصف الغربي من الكرة الأرضية عام 1959، وتحدى الولايات المتحدة في عقر دارها لقرابة نصف قرن كقائد كوبا المطلق، الذي أربك 11 رئيساً أميركياً ودفع العالم إلى حافة الحرب النووية.
أمسك كاسترو بزمام السلطة أكثر من أي زعيم عالمي باستثناء الملكة إليزابيث الثانية، وتحوّل إلى شخصية عالمية فاقت أهميتها في القرن العشرين، أهمية توقعه من رئيس دولة في جزر الكاريبي في جزيرة لا يتجاوز عدد سكانها 11 مليون نسمة.
على الرغم من مرور أعوام على تدهور صحته، قاد كاسترو ما كان يأمل أن يشكل استمرارية الثورة الشيوعية، قبل أن يتنحى في العام 2006 إثر تأزم صحته. وقد نقل العديد من صلاحياته لأخيه الأصغر راؤول، وقدم استقالته الرسمية كرئيس للبلاد بعد عامين.
ويشكل كاسترو ربما القائد الأهم ربما الذي قدمته أميركا اللاتينية منذ حروب الاستقلال في مطلع القرن التاسع عشر، وكان بحق الزعيم الأكثر نفوذاً في تحديد شكل تاريخ كوبا، وقد أحدثت ثورته تحولاً في المجتمع الكوبي وكان لها التأثير الأطول في المنطقة على نحو يفوق أية نهضة شهدتها أميركا اللاتينية في القرن العشرين.
وقد اتسم إرث حركة كاسترو في كوبا والعالم بسجل شكل مزيجاً من التقدم الاجتماعي والفقر المدقع، والظلم العرقي والاضطهاد السياسي، والتقدم الطبي وحدّ من المأساة المقرونة بالظروف التي أحاطت بكوبا مع دخوله هافانا كقائد عصبة منتصر عام 1959.
وقد جعلت تلك الصورة من فيدل رمزاً للثورة على امتداد العالم، ومصدراً ملهماً لعدد من الزعماء الذين حاولوا تقليده، حيث اعتبر الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز كاسترو والده الروحي إيديولوجياً. ولم يستطع أداؤه المتعثر كأوتوقراطي هرم على رأس اقتصاد متهالك تقويض سماته أو تشويه صورته كقائد ثوري.
وفوق كل شيء كان هوس كاسترو بالولايات المتحدة وهوسها به، الإطار الأبرز الذي رسم ملامح حكمه، وقد صوّرته واشنطن بعد اعتناقه الشيوعية شيطاناً وطاغية وحاولت مراراً إزاحته عن السلطة، لاسيما من خلال اجتياح خليج الخنازير عام 1961، وفرض حصار اقتصادي استمر عقوداً، ووضع مخططات اغتيال تآمرية كثيرة، واللجوء أحياناً إلى خطط غريبة كالانتقاص من سمعته من خلال دس السم له وجعل شعر لحيته يتساقط.
وقد جعل تحدي كاسترو للقوة الأميركية منه منارة المقاومة في أميركا اللاتينية وسواها، وأصبحت لحيته الشعثاء الطويلة وسيجاره الكوبي الطويل، وزيه العسكري الأخضر رموزاً للتمرد في أرجاء العالم.
ساهم فهم فيدل لقوة الرموز الثورية لاسيما على التلفاز، في استعادة ولاء العديد من الكوبيين حتى في أسوأ مراحل الحرمان والعزلة التي عاشتها بلاده، وقد عزيت تلك العزلة بصورة روتينية إلى أميركا والحظر الذي تفرضه.
ومكنته إجادته لفن الخطابة عبر آلاف الخطابات التي غالباً ما كانت تدوم ساعات من تعبئة الكوبيين بمشاعر الكراهية ضد أميركا، وتركهم في حالة جهوزية دائمة للتصدي للحصار سواء أكان عسكرياً اقتصادياً أو إيديولوجياً قادماً من الشمال.
ظهر كاسترو في مئات الأحاديث الصحافية، وأثبت قدرات عالية في تجيير أصعب الأسئلة لصالحه، واشتهر في حديث لإحدى المجلات عام 1985 بردّه القوي على سؤال المحاور كيف يجيب على وصف الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان له بالطاغية العسكري، بالقول: دعنا نفكر في السؤال، إذا كان وصف الديكتاتور يعني الحكم بقوة المراسيم، فإن بإمكاننا أن نجادل ونتهم أي قائد بأنه ديكتاتور.
وأعاد الكرة إلى ملعب ريغان بالقول: إذا كانت قوته تتضمن أياً من أوجه الديمقراطية الوحشية كأن يمتلك القدرة على إصدار أوامر بشن حرب نووية، فإني أسألك، من منا الأكثر ديكتاتورية، رئيس الولايات المتحدة أم أنا؟.
بعد قيادة قواته للإطاحة بالطاغية الكوبي فولجنسيو باتيستا، تحالف كاسترو حينما كان في الثلاثينات، مع الاتحاد السوفييتي واستعان بالقوات الكوبية لدعم الثورة في أفريقيا وجميع أنحاء أميركا اللاتينية.
وأدى استعداده السماح للسوفييت ببناء قواعد إطلاق صواريخ من الأراضي الكوبية إلى احتدام في العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في خريف العام 1962، وكان يمكن أن تتصاعد تلك الأزمة إلى مستوى حرب نووية بين البلدين. وظل العالم بأسره يعيش حالة من التشنج والخوف من المواجهة استمرت 13 يوماً قبل أن تحلّ المسألة سلمياً.
واجه كاسترو مع انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، واحدة من أصعب التحديات المتمثلة بالاستمرار بمعزل عن الدعم الشيوعي. وتحدى توقعات تشير إلى موته السياسي، حيث كان يلجأ تحت التهديد إلى توجيه سهام الاتهامات المعادية نحو الولايات المتحدة. ولما أوشك الاقتصاد الكوبي على الاندثار، شرّع كاسترو الدولار الأميركي، الذي كان يعارضه منذ الخمسينات.
إلا أنه عاد وحظر استعماله بمجرد أن عاد الاستقرار للوضع الاقتصادي، بعد بضع سنوات. دأب كاسترو على مضايقة رؤساء الولايات المتحدة على امتداد نصف قرن، محبطاً جميع محاولات واشنطن باحتوائه، وظلّ وفياً لروح التحدي، ونبذه للغرب حتى حين خفت صوته وتحوّل إلى همسات رجل عجوز.
خضعت شخصية كاسترو وصورته على امتداد رحلة حكمه الطويلة إلى عدد من التحولات، بدأت مع انطلاقة مسيرته كرجل ثوري في سييرا مايسترا شرق كوبا. فبعد وصوله إلى سواحل البلاد في كانون الاول 1956، على متن يخت زائد الحمولة برفقة تشي غيفارا و80 من الرفاق، اتخذ فيديل دور المقاتل في سبيل الحرية، فخاض حرب عصابات أغضبت باتيستا، الذي استولى بانقلابه على السلطة عام 1952 منهياً فترةً وجيزة من الديمقراطية.
وغدا باتيستا مرتعباً من كاسترو الفدائي الشاب وقدراته الخطابية التعبوية، على الرغم من قلة عدد مقاتليه وضعف تسلحهم، وأمر جيشه بقتله. وبالفعل أكدت صحف العالم في كانون الاول 1956 خبر مقتل فيدل، ليطل بعد ثلاثة أشهر فقط في عدد من المقابلات التي بثت الروح في حركته النضالية، وغيرت وجه التاريخ.
بدأت عملية الفرار حين اتصل موالون لكاسترو بمراسل من صحيفة نيويورك تايمز، هيربرت ماثيوز، لترتيب إجراءات المقابلة. واصطحب بعض المناصرين الرجل إلى أعالي الجبال بصفته أحد المتمولين الأميركيين. وكتب ماثيوز متعاطفاً مع الرجل والقضية، فوصف كاسترو الذي كان لا يزال في الثلاثين من عمره وهو يخرج من بين أشجار الأدغال استعداداً للحوار: كان رجلاً بحق مهيباً بقامته الفارعة وبشرته السمراء ولحيته الكثة.
وصورت المقالات الثلاث كاسترو بأنه شخصية رجل لا تقاوم، أمامك شخص مثقف متفانٍ، رجل يتحلى بالمبادئ والشجاعة والقيادي المتميز. وأضاف ماثيوز: تتملكه أفكار قوية عن الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وضرورة إحياء الدستور، وإجراء الانتخابات. ودانت حكومة كوبا ماثيوز وأكدت أن المقالات مجرد فبركات.
إلا أن الأخبار عن نجاة كاسترو أعادت الحياة لحركته النضالية، ورفعت مستوى الدعم له في كوبا والعالم. وتبدّت الأشهر القليلة التالية عن تحوّل آخر بشخصية كاسترو بالنسبة للرأي العام، حيث جلب 500 من أتباع باتيستا وقدمهم إلى محاكمة قصيرة قبل إصدار حكم الإعدام بالرصاص بحقهم.
أحكم فيدل كاسترو السيطرة على البلاد بسطوة ورمزية سطّرت أول أيام دخوله الظافر لهافانا عام 1959، وأتم انقلابه الناجح على الرئيس الكوبي الأسبق فولجنسيو باتيستا بإلقاء الخطاب الرئيسي الأول في العاصمة أمام عشرات آلاف المعجبين.
ودخل دائرة الضوء منذ أن ظل يخطب بحماسة حتى الفجر، قبل أن يتم إطلاق الحمامات البيضاء في سماء البلاد إيذاناً باستتباب السلام في كوبا، وحين حطت إحداها على كتفه، هتف الشعب «فيدل»، فكانت تلك العلامة الأولى بالنسبة للكوبيين الخائفين من الحرب بأن الزعيم المغوار الملتحي الشاب مقدّر له أن يكون منقذهم.
لم يكن لدى عدد من المحتشدين أدنى فكرة عما كان يخطط له كاسترو لكوبا، وقد كان سيد المظاهر والغموض يعتقد نفسه مخلص أرض الأجداد، والقوة الضرورية المخولة سلطات علوية للسيطرة على كوبا وشعبها. وقبض كاسترو على مقاليد الحكم كالطاغية فتحكم بكل جوانب وجوه الجزيرة، وكان القائد الأعلى للبلاد. ارتبطت باسمه الكثير من الأخبار والتفاصيل.
كتدخله شخصياً في اختيار ألوان الزي الموحد للجيش، والإشراف على برنامج إنتاج أفضل أنواع حليب الأبقار، كما كان يحدد شخصياً أهداف مواسم الحصاد، ويرسل بأوامر منه أعداداً لا تحصى من الناس إلى السجون.
إلا أن بقاءه هو وحكومته الاستبدادية في السلطة لهذه المدة الطويلة يعود لأسباب تتجاوز الاضطهاد والخوف.
صرح في مقابلاته أكثر من مرة أنه يشبه دون كيشوت مصارع الأهوال الحقيقية والمتخيلة، وأنه دأب على مرّ عقود في الإعداد لاجتياح آخر لم يحدث للجزيرة الكوبية. وتمسكاً بمزاياه الشخصية، صوّر كاسترو إقصاءه عن الساحة العالمية بأنه أحد مؤشرات القوة.
وعلى الرغم من قلة ظهوره ظل كاسترو مصراً على عدم ثقته بالولايات المتحدة، ولم تكد تمضي أيام على زيارة أوباما غير المسبوقة إلى كوبا هذا العام، ردّ كاسترو مشككاً بخطواته لإحلال السلام، ومؤكداً أن كوبا لا تريد شيئاً مما تعرضه أميركا.