بغداد.. كما تصورتها وكما رأيتها

بغداد.. كما تصورتها وكما رأيتها

د. زكي مبارك
قبل الرحيل إلى بغداد بأيام أوصاني صديق عزيز لعله الدكتور طه حسين فقال: ستقدم بغداد وأنت كاتب معروف؛ فيقبل عليك الصحفيون، فيسألونك كيف رأيت بغداد؟ فإن فعلوا فاحذر يا دكتور زكي أن تصرح بشيء، لأنك موظف في حكومتين، ومركزك دقيق.

وقد صح ما توقع ذلك الصديق، وكنت عند نصحه الثمين، فلم يظفر مني الصحفيون العراقيون بشيء غير التلطف المقبول، ولكن محرر الهلال سيظفر بما لم يظفر به الصحفيون العراقيون؛ لأن بعد الدار لم يصرفه عني، فكتب يسألني كيف تصورت بغداد؟ وكيف رأيت بغداد؟ وللهلال على قلمي حقوق، فلأتوكل على لله،
ولأخرج مرة واحدة على ذلك المركز الدقيق.
على أنني لا أتوقع أن يغضب العراقيون من بعض ما سيقع في هذا الحديث،لأن الصدق لا يغضب عقلاء الرجال، وإنما يغضبون من التحامل البغيض الذي تمليه الضغائن أو الأهواء.وليس من الإسراف أن أصرح بأنني لست من الغرباء في بغداد، فأنا أغار عليهاكما أغار على القاهرة أو الإسكندرية أو سنتريس، لأنها في قلبي وفي نفسي من الحواضرالعربية التي يغار عليها العرب والمسلمون في جميع الممالك والشعوب، وفي نيتي — وأناصادق — أن أجاهد في سبيل بغداد حتى تبلغ ما هي أهل له من الحضارة والعمران،وتحمل مصابيح الثقافة كما كانت في عهود الخلفاء، ولن أترك هذه المدينة حتى أضع في صدور تلاميذي وأصدقائي بذور الشوق إلى الحياة العالية — حياة المدنية الصحيحة التي تعشق الأنوار وتبغض الظلمات — فلا يبقى في بغداد شارع ولا بيت إلا وحوله ملائكة أطهار يسمون به إلى مناط الجوزاء، ولله بالتوفيق كفيل.
أما بعد، فقد كنت أفهم جيدًا أن بغداد أدت واجبها بعنف يوم شاء لها الطالع السعيد أن تسيطر على المشرقين والمغربين، وكنت أفهم جيدًا أنها في غفوة الراحة بعد ذلك النضال العنيف، فلم يكن يخطر ببالي أن أراها كالقاهرة أو باريس، ولكني مع ذلك كنت أنتظر أن أجد آثار المدينة التي أقامها العباسيون، وهنا أصرح والأسى ملء الفؤاد أن آثار الغطاريف من بني العباس لم يبق منها إلا رسوم ضئيلة هي في مغازيها ظنون
في ظنون، وكذلك قضت المقادير بأن لا يبقى شيء من قصور الخلفاء والوزراء والأمراء الذين سيطروا على العالم نحو ثلاثة قرون، وكانت أيامهم مواسم الدنيا وأعياد الزمان.
وقد سألت عن السبب في ضياع تلك الآثار فحدثوني أن نهر دجلة الغادر الصوال كان يطغى من حين إلى حين فيطمس ما يشاء من القصور والبساتين، وقد شاء له عدوانه أن ينقل بغداد من مكان إلى مكان، فهي اليوم في بقعة غير البقعة التي اختارها المنصور على أيامه السلام، فإن شئتم وصف بغداد القديمة فارجعوا إليها في الكتب، فقد كان المؤلفون القدماء يدركون بغير وعي صريح أن مدينتهم سيأتي عليها يوم لا
يعرفها فيه غير قراء الأخبار والأساطير.
وكنت أتصور أن بغداد لا تزال فيها بقايا من تقاليد الزخرف البراق الذي عرفه الخلفاء، فوجدتها مدينة لا تعرف غير خشونة الحقائق، ورأيت الوزراء مجتمعين في قصر ساذج لا يعرف معنى للتصاوير والتهاويل التي تعرفها بعض القصور في بعض الحكومات، وقد دهشت حين زرت وزير المعارف، وكان أول من رأيت من الرجال يوم وصلت إلى بغداد، فقد رأيتني أمام وزير المعارف فقط أمام المنطق والعقل، ولم أر في
غرفته شيئًا يدل على ذوق الترف في فهم المعاش، وكذلك كان الحال حين زرت رئيس الوزراء، فقد رأيتني أواجه رجلًا يمثل أدب النفس، وذلك كل حلاه وهو رئيس الوزراء.
وكذلك يمكن الحكم بأن دور الحكومة في بغداد هي مواطن أعمال لا مواطن استقبال. كنت أتصور بغداد قد تأثرت بالمدنية الحديثة فأصبحت كالقاهرة فيها حي قديم وحي جديد، فلما وقعت عيني عليها رأيتها مدينة شرقية من جميع النواحي، ورأيتها لم تأخذ من المدنية الحديثة غير الإضاءة، وتوزيع الماء على البيوت، وفيما عدا ذلك تعيش بغداد عيشة القاهرة قبل جيلين، فتجد فيها الأسواق والخانات على نحو ما كانت القاهرة في عهد المماليك، والشبه كبير جدًا بين سوق الفحامين في القاهرة وسوق الشورجة في بغداد، ولا أكتم القارئ أن بغداد تفتنني من هذه الناحية أشد الفتون،وفي « ألف ليلة وليلة » ففي أسواقها ملهاة للنظر والذوق، وفي خاناتها تذكير بأحاديث مساجدها العتيقة ما يذكر بدعابات أبي الفتح في مقامات بديع الزمان.
وقد ثارت نفسي ثورة عنيفة يوم رأيت بغداد، وهممت بأن أقترح على رئيس الحكومة العراقية هدم هذه المدينة وبناءها من جديد، ولكن لم تمض أيام حتى رأيت التطور يأخذ مجراه، فقد شرع الناس في الهجرة إلى الضواحي وأخذوا يشيدون منازل جديدة على الطراز الحديث، فإن زرتم بغداد بعد عشرين عامًا فسترونها كالقاهرة تنقسم إلى قسمين عظيمين: قسم جديد، وقسم حديث.
على أنني أصبحت أتمنى أن لا تبيد بغداد القديمة، فلأسواقها جاذبية، ولدروبها الضيقة ملامح من الحسن الأصيل، وهي فوق ذلك صورة من المدينة الشرقية التي يحرص عليها أستاذنا الدكتور منصور فهمي أشد الحرص، ويتمنى لو يعود إليها الشرقيون أجمعون!
وكنت أتصور دجلة نهرًا صغيرًا لم يأخذ عظمته إلا بفضل أخيلة الشعراء، فلما رأيته أخذت مني الروعة كل ما أخذ، وتمنيت لو جاء شعراء مصر فرأوه وعرفوا أن في الدنيا نهرًا يشابه نهر النيل، إن دجلة هائل جدًا، وهو حين يساير بغداد يقرب من النيل في الاتساع، ولا يمتاز عليه النيل إلا بمزية واحدة هي قوة تدفق الماء، أما دجلة فله مزايا كثيرة أظهرها قيام النخيل على جانبيه، وحرص أهل بغداد على إقامة المنازل
والشرفات بحيث تواجه منظره الجميل.
وقد بحثت عن الجسر الذي قال فيه ابن الجهم:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث ادري ولا ادري
اعدن لي الشوق القديم ولم اكن
سلوت ولكن زدن جمرا على جمر

بحثت عن هذا الجسر، ولم أجده، فوا أسفاه، وإنما وجدت جسرًا سموه جسر مود وهو اسم قائد من قواد الإنجليز الذين دخلوا بغداد فاتحين. “Maude” فيا رئيس حكومة العراق تفضل وسمّ الجسر الجديد (جسر بن الجهم) مراعاة لخواطر الشعراء.
وهدوء الماء في نهر دجلة يجعله من أصلح الأنهار للملاحة النهرية، ولكني بعد الدرس رأيت الملاحة في دجلة تنعدم أو تكاد، فقد تمر ساعات وساعات ولا تقع العين على سفينة واحدة في ذلك النهر الميمون الغدوات والروحات.
أما الفلك الصغيرة التي يمتطيها اللاهون والعابثون فلا تزال على العهد الذي عرفه الشاعر المفضال أبو نواس، ولكن قلما يغني فيها الملاحون كما كانوا يفعلون في الأيام الخوالي، وقد ساهرت النجم ليلتين على شاطئ دجلة لأسمع غناء الملاحين، ثم انصرفت وقد كادت أذني تصم من سكون الليل. وحملني حب الدنيا على التفكير في بناء بيت على شاطئ دجلة فعرفت أن المترالمربع يباع بنحو دينارين، وكذلك عرفت أن أهل بغداد يعرفون قيمة الأرضعلى شاطئ ذلك النهر الجميل.
وكنت أنتظر أن تكون بغداد مدينة يغلب عليها اللهو واللعب والمجون، فرأيتها أعجوبة الأعاجيب في الجد والنشاط، ولقد زرت نحو عشرين مدينة من المدن العالية فلم أرمن صور الجد والاهتمام والمصابرة معشار ما رأيت في بغداد، فحيثما نظرت رأيت ناسًا يعدون إلى أعمالهم عدو الظليم، وشهدت الناس يغدون ويروحون وعلى وجوههم أمارات الجد الرزين، والمدارس في بغداد هي اليوم مصانع لسبك الرجال، ويندر أن تجد شابًا يضيع وقته على نحو ما ترى في بعض مدارس القاهرة أو مدارس باريس.
والبغداديون يمتلكون مدينتهم تمام الامتلاك، فهم السادة الأعلون، ولا يسود في مدينتهم من الأجانب إلا عدد قليل، وسيكون من حظهم في المستقبل أن يقولوا نحن حضرنا مدينتنا ولم يساعدنا على تحضيرها واغل من العالم القديم أو العالم الجديد.
ولقد شهدت آثار هذا الجد حين رأيت تلاميذي في دار المعلمين العالية، فهم شبان أذكياء تكفيهم اللمحة، ولا أحتاج في تفهيمهم أدق المشكلات إلى أدنى عناء.وكذلك يحدثني الأساتذة المصريون الذين يدرسون في كلية الحقوق فهم يشهدون بأن تلاميذهم فوق ما كانوا ينتظرون، وأنهم يفهمون أدق المشكلات بقليل من البيان.
وكنت أنتظر أن تكون بغداد ميدانًا للجدل والصيال على نحو ما كانت في عهود المتكلمين، فكانت كما انتظرت، فهي اليوم تزخر بالأدباء والمفكرين الذين يملأون الأسمار بأجود ما تجود به العقول، ويكفي أن يكون فيها رضا الشبيبي وزير المعارف،وطه الراوي مدير التعليم، فهذان الرجلان يصوران ما امتازت به العقلية العراقية في قديم الزمان.
وأشهد صادقًا أني ما صادفت رجلًا من المفكرين في بغداد إلا انتفعت منه أجزل انتفاع، ولا رأيت كاتبًا ولا عالمًا إلا تذكرت الجاحظ وابن العميد.وجملة القول أن بغداد في عهد البناء، والتجارب القاسية التي مرت بها ستجعلها في حرز من تقلبات الأهواء، فمن كان في ريب مما أقول فلينتظر قليلًا، فستأتي هذه البلاد بالأعاجيب، وسيرى الساعون بالنميمة أنهم كانوا واهمين.
إن العراق ينفض عن عينيه آثار السبات القديم، ويتلفت إلى المستقبل تلفت الليث جاعت أشباله، ويقبل على الحياة إقبال الأفعوان المهتاج، ويضطرب في الدنيا كما تضطرب الوحوش الضواري في غسق الليل، فمن كانت له عند العراق حاجة فليؤجلها قليلًا، فإن العراق لا يفكر اليوم إلا في شيء واحد: هو أن يكون أمة تحكم وتستطيل.
قد تسألون: وكيف يحيا المجتمع في بغداد؟ وأجيب بأني رأيت في بغداد لونين من الحياة:
أما اللون الأول: لون الجد، فهو ما حدثتكم عنه، وأهل بغداد من هذه الناحية جبابرة عتاة، وفيهم من يصل النهار بالليل في سبيل الرزق، وفيهم من لا يأوي إلى فراشه إلا وفي صدره غرض مبيت مدفون.
أما اللون الثاني: لون الهزل، فهو يتمثل في المراقص والقهوات، وما أزعم أنني قادر على وصف المراقص، لأني زرت مرقصًا واحدًا مرة واحدة، وذلك المرقص يعطي صورة صحيحة، لأنه فيما سمعت كثير الأشباه في بغداد، ومادة اللهو في هذه المراقص لا تعتمد على الجمال العراقي، وإنما تعتمد على الجمال الأوروبي، فالراقصات في تلك المواطن من المتاع الذي تجلبه السفن والسيارات لإيناس اللاهين من الشرقيين،
واللحظة التي قضيتها في ذلك المرقص نبهتني إلى كثير من المعاني، فقد رأيت من السامرين من يقول: إن ذلك الفتى الذي يراقص تلك الشقراء هو ابن الشيخ فلان الرجل الصالح الذي لا يعرف غير المسجد والبيت، ففهمت من ذلك أن بغداد تنقسم إلى جيلين يختلفان أشد الاختلاف: جيل الشباب، وجيل الكهول، ومعنى ذلك بعبارة أوضح أن الفتيان الذين يرقصون الرقص الإفرنجي في بغداد ليس لهم في ذلك
المعترك أعمام ولا أخوال.
وأحببت أن أرى الملاهي البغدادية الأصيلة، ولكن الصديق الذي أثق به في بغداد نهاني عن ذلك، أفيكون معنى هذا النهي أن البغداديين يرون ملاهيهم القديمة مما تعافه الأذواق؟
أما القهوات فكلها من طراز قهوات حيّ الحسين، ويندر جدًا أن يشرب فيها غيرالقهوة والشاي، وربما كان من الحق أن نقرر أن البغدادين لا يشربون الخمر أبدًا على قارعة الطريق، كما يتفق ذلك لأهل القاهرة والإسكندرية وبورسعيد، فهم من هذه
الناحية عقلاء، ومع أن الحانات تظل في الأغلب مرخاة الستائر مغلقة الأبواب لا يهتدي إليها غير العابثين، فقد قرأت في الصحف العراقية كلمات يقترح كاتبوها أن توصد أبواب الحانات إيصادًا مطلقًا في ليالي رمضان.ومع أن البغداديين يتحفظون في شرب الخمر فهم يسرفون في شرب الشاي إلى حد الإدمان، ويتفق في أحوال كثيرة أن ينقطع الرجل عن الحديث، فإذا سألت عرفت فهم من هذه الناحية « خرمان » أنه لم يشرب الشاي منذ ساعتين، وأنه من أجل ذلك يشبهون الفلاحين في الجيزة الفيحاء، فمن أهل الجيزة من لا يدرك ولا يعقل إلا إذا أسعفته بكأس من الشاي الأسود البغيض.
عن كتاب (وحي بغداد)