في ذكرى رحـيل المـعلـم والصـديـق.. مـؤرخ الصحافة العراقية فائق بطي

في ذكرى رحـيل المـعلـم والصـديـق.. مـؤرخ الصحافة العراقية فائق بطي

ليث الحمداني
كنت قد بدأت كتابة مقالتي لهذا الشهر عن دخول جريدتنا (البلاد) عامها الخامس عشر ناوياً تضمينه استذكارات مريرة عما قدمته (البلاد) (للغير) من الأفراد والمؤسسات وموقف هذا (الغير) من البلاد!! ولكنّ خبراً حزيناً فاجأني، هو خبر وفاة أستاذي وصديقي مؤرخ الصحافة العراقية فائق بطي في العاصمة البريطانية، مما جعلني أهمل المقال الذي كنت قد بدأت كتابته، لأكتفي بموضوع واحد في مقالتي (أكثر من موضوع).

فـ لفائق بطي الصحفي والمعلم والصديق ديْن في رقبتي ورقبة العشرات من أبناء جيلي الذين عملوا معه فقد تعلمنا منه الكثير.

وقبل أن أتطرق لـ جريدة (البلاد) العراقية، تلك المدرسة الصحفية التي تخرج منها العشرات من رواد الصحافة العراقية، سأتحدث عن أستاذي وصديقي الراحل.
عرفتُ فائق بطي أواسط الستينات، كانت جريدته التي ورثها عن أبيه رائد الصحافة العراقية روفائيل بطي (البلاد)، قد لفظت أنفاسها على يد انقلابيي 8 شباط، ولكنها ظلت هاجسه اليومي، فما أن يدورالحديث عن الصحافة حتى يحدثك فائق عن حلمه بإعادة إصدار (البلاد). ولكثرة ما حدثني عنها عكفتُ على دراسة مجلداتها المتوفرة في مكتبة المتحف العراقي يومها. ولشدة إعجابي بها وبأسلوبها وضعتُ تصورا أوليا لمشروع دراسة عن الجريدة لم تتم للأسف الشديد.
كان فائق قد جرّب حظه في التجارة أكثر من مرة وفشل، فالصحفي الحقيقي لا يمكن أن يكون تاجراً. يومها كان قد استقر في مشروع طباعي صغير هو (مطبعة التقدم) التي كانت تقع في عمارة الإخوان في شارع السعدون قرب فندق بغداد. كانت المطبعة تتخذ شقة في الطابق الأرضي من المبنى مقراً لها، والمفارقة أن البناية نفسها كانت تضم مكتباً هندسياً للشيوعي العراقي البارز إبراهيم علاوي الذي رحل قبل فترة قصيرة، وكان صديقا لفائق.
في (مطبعة التقدم) تعرفتُ على بعض أصدقاء فائق وفي مقدمتهم الصحفيون الرواد مجيد الونداوي والدكتورة سلوى زكو وجعفر ياسين وإبراهيم إسماعيل والطباعي يوسف عويد. ولأن فائق لم يكن (تاجراً) لم تستمرالمطبعة طويلا في وقت أصبح فيه أصحاب المطابع يومها من (المترفين).
كان فائق في كل ما كتبه في الجريدتين مدافعاً عن الحريات ومطالباً بعودة الحياة الحزبية للعراق، وكنا نتواصل بانتظام، ولم يغادره حلمه بإعادة إصدار (البلاد) في مناخ من الحريات لم يتحقق للأسف, وحين صدرت جريدة (طريق الشعب) بعد إعلان الجبهة الوطنية بين الحزبين الشيوعي والبعث كان فائق رئيسي المباشر في العمل. التقينا يوم إصدار العدد (صفر) من الجريدة. كنا ساعة اللقاء أربعة، فائق بطي وفخري كريم ورواء الجصاني وأنا، والتحق بنا جمال العتابي وسامي العتابي يومها تسلمت منه ماكيتات العدد التي كانت من إعداد الفنان الراحل محمد سعيد الصكار وانتقلنا الى (مطبعة الحكومة) حيث كان بانتظارنا الشاعر ابو سرحان (ذياب كزار) ومظهر عبد العباس ومحمود حمد.، ولم نفترق حتى غادر فائق العراق. كان حريصاً على أن يقدم لنا تجربته الصحفية الغنية، وظل منكباً على مشروعه الكبير تدوين تاريخ الصحافة العراقية الذي كان قد بدأه في الستينات، وبلغ أوجه نهاية الستينات حين أصدر، بتشجيع من الصديق الطباعي فتح الله اسطيفان عزيزة صاحب مطبعة الأديب البغدادية، (الموسوعة الصحفية) التي أصبحت مصدراً أساسياً للباحثين والدارسين في تاريخ الصحافة العراقية. واستمر فائق في دراساته عن تاريخ الصحافة.
في السنة الثانية من صدور (طريق الشعب) انسحب فائق من العمل التنفيذي إلى مبنى هيئة التحرير وسلمني أغلب مهامه في تنظيم العلاقة بين التحرير والمطبعة، وكنا نلتقي بشكل يومي في بناية هيئة التحرير الواقعة في شارع السعدون قبل ذهابي اليومي إلى المطبعة.
ورغم التجربة الثرية لـ (طريق الشعب) ظل فائق يستذكر باعتزاز تجربته وأسرته في جريدة (البلاد)، خرج فائق مع من خرج بعد إجهاض تجربة الجبهة من قبل حزب البعث الحاكم، وتنقل ما بين الولايات المتحدة حيث تستقر أسرته وسوريا وإنكلترا، واستقر به المقام في إنكلترا لفترة غير قصيرة عمل خلالها في صحافة الحزب الخارجية، قبل أن ينتقل إلى كردستان العراق بعد أن انغمر في العمل الحزبي.
انقطع تواصلنا لسنوات حين مُنعتُ من السفر مع عدد كبير من الصحفيين والأدباء، وعاد تواصلنا حين أرسل لي من لندن مع صديق مشترك مسافر هديته (الوجدان)، فكتبت له رسالة بيد الصديق نفسه معاتباً: (يافائق يبدو أن ذاكرتك ضعفت في روايتك لتاريخ صدور العدد التجريبي الصفر من طرق الشعب، فرد معتذراً مع هدية أخرى).
كانت فرحتي لا توصف حين اتصل بي الزميل والصديق إبراهيم الحريري أواخر التسعينات ليبلغني بأن (فائق) في طريقه إلى كندا وتحديداً إلى مدينة (لندن-أونتاريو) حيث أقيم. ووصل فائق فعلاً وكان لقاءً مؤثراً انسابت خلاله الدموع، ورغم سنيّ المنافي والتعب والهزة التي تعرض لها بفقد وحيده رافد في حادث سير، كانت البسمة والمزاح لا يفارقانه. اجتمعنا في بيت الصديق عصام الصفار على ما أذكر، فائق بطي وزميل معه من الولايات المتحدة وإبراهيم الحريري وثامر الصفار وعصام الصفار والفنان فراس البصري وكاتب السطور. كانت زيارته دعوة لنا للعمل على تطوير جريدة (صوت الاتحاد) التي كان يصدرها الاتحاد الديمقراطي العراقي في الولايات المتحدة وكندا.
خلال اللقاء لمستُ طموح فائق الكبير لإنجاح المشروع، وطموحه الأكبر بالعودة إلى العراق. أخبرته بانني أعتزم إصدار جريدة في كندا باسم (البلاد) بدعم من الجمعية العربية - الكندية فمازحني قائلاً: شنو بكيفك تاخذ اسم البلاد؟
غادر فائق إلى الولايات المتحدة ومنها إلى سوريا وكردستان العراق، ومات مشروع تطوير جريدة (صوت الاتحاد) بسبب قلة الإمكانات وعدم التفرغ. واستمر تواصلنا عبر الهاتف بفترات متباعدة.
بعد عام 2003 تواصلنا من جديد، وكان فائق يتنقل بين لندن وبغداد وأربيل أحياناً، وحين عدتُ إلى بغداد في العام 2004 ذهبتُ إلى جريدة (المدى) بحثاً عن أحبة وزملاء، منهم فائق، ولم أجده. جلستُ طويلاً عند الزميلة د. سلوى زكو حيث التقيتُ بالزميل سهيل سامي نادر وعدد آخر من الزملاء المهنيين. كان فائق يومها في لندن، اتصل بي في جريدة (طريق الشعب)، واتفقنا على أن نلتقي حين عودته إلى بغداد، ولم يتحقق اللقاء لأنني عدتُ أدراجي خائباً من الواقع العراقي إلى وطني الثاني الذي منحني الأمان، كندا. وظل الهاتف وسيلتنا للتواصل في فترات متباعدة. اتصل بي مرة من مشيغان ليبلغني بأنه بصدد إصدار كتاب عن الصحافة العراقية في المنفى يستعرض فيه تجارب الصحفيين العراقيين المحترفين في المنافي، وطلب مني إرسال نماذج من الصحف التي يصدرها عراقيون في كندا، وفعلاً أرسلتُ له ما أراد من نماذج من الصحف ومن بينها (البلاد)، جريدتنا. فاتصل بي حين تسلمها مهنئاً وسألني: أصررت إذن على اسم (البلاد)، فقلتُ له: فعلت ذلك تيمناً باسم (البلاد) التي أصدرها والدك الراحل روفائيل بطي، التي تعدّ واحدةً من أعرق المدارس الصحفية العراقية، وكان لك الفضل في تعريفي بها. فكتب فائق عن جريدتنا (البلاد) عدة صفحات أعتبرها شهادة مهنية من صحفي أفنى عمره في المهنة.
فائق بطي لم ينسَ (البلاد)، جريدته وهو في السبعين، فقد أخبرني مرةً من أربيل، وكان برفقته الزميل الراحل طارق ابراهيم شريف، أنه سيعيد إصدار (البلاد) قريبا، ولكن فائق رحل ولم يحقق حلمه، فالمشكلة كانت تكمن دائماً بالتمويل وفائق آخر من ينجح في التجارة.
رحم الله فائق بطي الرائد والمؤرخ الذي خسرته الصحافة العراقية.