عام على رحيله.. الساعات الاخيرة قبل المغيب

عام على رحيله.. الساعات الاخيرة قبل المغيب

سعاد الجزائري
الناس حولي تنام بهدوء وانا ادخل لحظات وداع لا عودة فيها..
مازالت عيناه تبحث عنى..وحينما يجدني بين زحمة الالم والاحتضار..يفتح فمه فتتفتت الكلمات كما يتفتت قلبي وروحي انذاك.. اشعر بما هو فيه..بل كنت اموت قبله..فهل شعر بجزعي ووجع رحيله عني. لقد انتزع قلبي وتركني دون نبض..

احداهما قالت: فليباركه الرب...ارعبتني العبارة..
وضعوه على كرسي وحملوه ملفوفا بغطاء نحو الطابق الاسفل..ركضت قبلهم لاصعد سيارة الاسعاف..لكن الشاب قال: ستأتين وقريبتك معي في السيارة الاخرى.. سألته: لماذا..انا عادة اكون معه في السيارة..رد: الافضل ان تكوني معي..رده بارد..لا شعور فيه..حتى بكائي لم يكن ذا اهمية بالنسبة له..وحينما توسلته ان اكون معه لانه يحتاجني..رد، دون ان يدري وقع كلماته علي: ان وضعه سيء جدا.. فعرفت سبب وجود السيارة الاخرى..

لا ادري..او اشعر بما حصل لي، لكني اتذكر حينما وصلنا المستشفى..ولاول مرة لم ادخل معه..بل وضعونا في غرفة صغيرة واغلقوا الباب.. ثم جاءت امرأة محجبة..لا اعرف لماذا شعرت انها عراقية..دخلت الغرفة وقالت: وضعه سيء وقد لا يعيش..فتوسلتها ان لا تقول ذلك.. لكنها تلفظت كلماتها ببرود الذين تعودوا رؤية الموت يوميا..وربما حينما سمعت الاخبار من القنوات العراقية والعربية، عرفت لاحقا انها شهدت رحيل ابو الوجدان.. وعميد الصحافة العراقية.. فتبجحت يومها امام عائلتها انها كانت معه حتى لحظاته الاخيرة..لكني على يقين انها لم تذكر بإنها لم تعرف من هو.. وتعاملت مع رحيله كما يرحل اي سكير او مدمن مخدرات..وليس مع شخص كتب بمؤلفاته وموسوعاته تاريخ الصحافة العراقية..وعلى كتبته اعتمدت نسبة كبيرة من رسائل واطروحات الماجستير والدكتوراه الاعلامية.. قالت جملة (وضعه سيء) بطريقة تخلو من اي عاطفة..رغم انها عرفت اننا من العراق. لاحقا عرفت انها عراقية فعلا.. بل كانت الانكليزية اكثر تعاطفا منها..لم اعرها انتباها بل انتظرت للحظات بعد مغادرتها، ثم فتحت الباب وبدأت ابحث عنه..دخلت غرفة الطوارىء..واجهتني ستائر ورقية زرقاء تقسم الغرفة بين وجع ووجع..

بين انين وصراخ..
بين صمت وكلمات مبعثرة..
بين رحيل وبقاء..
اقتحمت الصمت الموجع، وبدأت ابحث عنه في الغرفة، كانت الوجوه متشابهة..يبدو ان الالم يجعلنا نشبه بعضنا.. واخيرا وجدته.. شاحبا، صامتا كعادته..لم يفرح بقدومي كما تعودته..
وجدت وجها اخر.. اعرفه ولا اعرفه..يريدني واريده..لكن لا نعرف كيف.. وجها ينتمي له لكن لا لون فيه..بحثت عن اشراقته..تنقلت بين الستائر، علني اجد بينها روحه التائهة فأعيدها الى مكانها..الى جسده..الى جسدينا..شعرت ان ضياعي وتيهي بدأ منذ تلك اللحظة..كان صامتا..وشحوبه بهي وكأنه لوحات القرون الوسطى..اتجهت نحوه، ولاول مرة لم ينظر نحوي..فقد تعودته ينظر باتجاهي، حتى وان لم اكن امامه..ينتظرني بعينيه وقلبه كما انتظره انا..كان ساكنا..وجهه مختلف..له وليس له..هو لكنه ليس هو..
بهذه اللحظة اسرعت نحوي ممرضة كبيرة بالعمر..وسألتني: من انت؟ نظرت بوجهها ولم اقل شيئا..لانها عرفت من دمعي ومن وجعي..اننا روحا واحدة..وقلبا يتوجع لان نبضه..سيتوقف عندي قبله.. سألتني: هل تريد قسا او اي رجل اي دين..قلت: اريده هو! لانه انقى واصفى روحا من هؤلاء..انه الصلاة والعبادة بأنقى صورها...
سألتها: اريد ان اتحدث معه فهل يسمعني..قالت بحنو وعطف: حدثيه..

امسكت بيده..قبلتها.. وقلت:
حبيبي.. لا تتركني لوحدي.. اخاف غدر الزمن، لم يرد على توسلي، لكن يده ارتعشت وشعرت بضغطة خفيفة ثم ساد السكون.. وبقيت وحيدة..انتظره يأتي بأحلامي.