فائق بطي، أكان عليك أن تغدر بي وتتركني وحيداً؟...

فائق بطي، أكان عليك أن تغدر بي وتتركني وحيداً؟...

فخري كريم
لم يبق في دنياي ما يلملم أحزاني، ويستبقي ليَ بعضاً من نباهة اليقين ورجاحة العقل وإستنارة الفكر لأتكئ عليها وأستدل بها على ما بقي من طريق، أتت الريح السوداء على معالمها....
فقد رحل فائق بطي في منفاه ، وكأنه برحيله رفع رايتي البيضاء أمام عتاة الفسق السياسي ووكلاء لصوص المال العام، ومُنَفِّرينا من مواصلة إشاعة الأمل، وإدعاء القدرة على الاستمرار في النزال في مواجهة الخديعة والرياء، والتلفع برداء الإيمان المشبوه..

رحل فائق حسرةً على عراقٍ ملتاعٍ ممزق الأوصال تتنازعه طغم " الطوائف المستباحة " المغلوب على أمرها، بعد أن اغتصب إرادتها أدعياء الوصاية على حقوقها، في لحظة إنحدارٍ لم يسبق لها مثيل .
رحل فائق بطي وهو يرى ببصيرته كيف صار الوطن الذي لطالما تغنّى باسمائه ومعانيه الحسنى، مرتعاً خصباً للرثاثة وتبديد الآمال، وإنحسار ما تبقى من طاقةٍ للصبر على المكاره والسكوت على اغتيال حُلم أجيالٍ عاشت على وعدٍ بجنة على الأرض يتسيّد فيها سواد الناس...
رحل فائق مُنهَك الوجدان، وهو الذي كرّس حياته لتصبح مفازة وجدانٍ يستضيء بها معذبو ارض السواد و " تميمة " تقيهم عسف الإستبداد وعقوق أشباه البشر ..
في أول مرة التقيته عام 1960 رأيت فيه عالمي الذي يتكوّن .
كان مفعماً بالحيوية ، متألقاً يفيض بالبساطة الصادقة، تشع من محيّاه جسارة على التفاؤل والأمل . وفي هنيهةٍ عابرةٍ صار لي توأماً، أخاً لم تلده أمي .! ومذّاك لم يفارقني روحاً، رغم التباعد القسري الذي تحّكم في مسارات ومصائر كلٍّ منا..
وخلافاً لسيّرٍ أثيرة كثيرة، تظل لفائق بطي فرادة التعبير عن سيّرٍ لم تتيسر لنا، وقد غُلِبنا على أمرنا بعد أن أغتيل وطننا وجرّدتنا رثاثة الحاضر من أي حَولٍ على إيفاء بعضٍ من حقوقهم ...
ليس الموت بحد ذاته مرادفٌ للعدم، فالوجود بتجسيده لكينونتنا، مجرداً، معزولاً عن وعيٍ لمعنى الكينونة وتناقضاته وسرها المخبوء في المطلق، موتٌ عبثي . وليس من شفاعةٍ لتجاوز عقدة كلكامش دون الإرتقاء بوعينا الى مستوى المفهوم الانساني للوجود باعتباره بطولة بحد ذاتها تبحث لها عن موضوع ..!
كان من الممكن أن يكون مصير فائق بطي، مثل مصائر رعيلٍ متفانٍ إستعصت أجسادهم على الإنزلاق الى الوهن تحت صنوف التعذيب في أقبية البعث وقصر النهاية ومسالخهم الممتدة حتى نهاية الطاغية، على إمتداد سلطته المستعادة في 1968 الذي يكفي لتجريمه دون رحمة ما قام به من إستباحاتٍ صبيحة ٨ شباط 1963، لكن حظوظنا العاثرة حالت دون انضمامنا الى قافلة أولئك الشهداء، وحماية وجداننا من تداعيات مرحلةٍ صار الوطن فيها مكبّاً للأحلام والمرتجيات ..
تعثرت حظوظنا نحن أبناء جيل الخيبة.
وقد تكون مواجع الخيبة على حُلمٍ مضيعٍ، أشد وقعاً من أهوال التعذيب والسجون. وليس كالمواجع من الأحساس بالتسبب في ضياع عراقٍ كان على إمتداد عقودٍ مرفأً تعقد عليه شعوب المنطقة الآمال بالتحول الى قدوة في التغيير وواحةٍ للحرية والرخاء .
وأشد ما يحزّ في النفس، أن هذا الوجع كان رفيق فائق في رحلته الأخيرة مع المرض. وقد لا يكون هو وحده حبيس هذا الوجع، وليس هو حكرٌ علينا نحن بقايا جيل الأمل الذي بددته الخيبة والرثاثة، فشعبنا المبتلى يلملم هذا الوجع وهو يشعر بمدى نكران الجميل لدى حكامه الذين جاء بهم الى كراسي السلطة، دون أن تٌستثار ضمائرهم على ما هم فيه من ضيمٍ وقهــــــرٍ وحرمان ..
على مدى أكثر من ستة عقود ظل فائق أميناً على خياره الإنساني. تخلّى منذ شبابه، حين وجد نفسه على مفترق طرق عما كان ميسوراً له من حياةٍ رغيدة مستقرة، وهو إبن وزيرٍ وطني، وأختار مشقة الإنخراط في العمل الوطني، فصار شيوعياً عن وعيٍ وتعاطفٍ مع المحرومين، مثل العديد من ابناء ذلك الجيل الذين تخلوا عن توارث ما كان عليه آباؤهم، فاستباح الطغاة واللصوص احلامهم المضيئة..
برحيل فائق بطي، سأبقى مشدوداً الى المعنى الذي شكّل وجدانه وأضاء طريق حياته ...
لكنني أخشى أن هذا الرحيل سيضعني أمام خيار العودة عما اخترته وفائق سوية وحمل الراية البيضاء، لعل الناس الذين نتحسس أوجاعهم يعيدون الينا بعض الأمل المضاع بالانبعاث من رماد اليأس..!

** نشرت افتتاحية للمدى بتاريخ 26/1/2016