مشاهدات وكوميديات..مسرح تورغينيف.. تصوير واقعي لتفاصيل الحياة الروسية

مشاهدات وكوميديات..مسرح تورغينيف.. تصوير واقعي لتفاصيل الحياة الروسية

بغداد/ أوراق
نصوص وقراءات ولمحات عن سيرة وتجربة الأديب الروسي إيفان سرجييفيتش تورغينيف يضمها كتاب تحت عنوان (إيفان تورغينيف ـ مشاهدات وكوميديات) الصادر عن دار (المدى) للثقافة والنشر بترجمة الاديب الراحل غائب طعمة فرمان. مبيناً انه كتب خلال الاربعينات وبداية الخمسينات عدة مسرحيات اتسمت اكثرها باتباع تقاليد غوغول الواقعية، وكانت اشهرها مسرحية (شهر في القرية)،

ومعظم مسرحياته من النوع الاجتماعي النفسي تهتم بتصوير الطباع البشرية وبساطة الحبكة ووضوحها مع غنى الحدث الداخلي وحدة المواقف النفسية.. أنهى تورغينيف دراسته الثانوية على أيدي مدرسين خصوصيين، والتحق بجامعة موسكو في العام 1833 درس فيها عاماً واحداً بكلية الآداب، ثم انتقل إلى جامعة بطرسبرغ حيث درس اللغات الأجنبية، وأنهى دراسته الجامعية باكتساب حاسة التذوق الأدبي. سافر إلى برلين في العام 1838 لإتمام معارفه بالتاريخ والفلسفة، وتعرَّف على فلسفة هيغل، وعند عودته إلى موسكو تابع دراسته للحصول على ماجستير بالفلسفة، وكان يداوم على حضور الندوات الأدبية ويكتب الشعر. ورغم حصوله على ماجستير في الفلسفة من جامعة بطرسبرغ إلا أنّه لم يسلك الطريق الأكاديمي، فقد غلبت عليه موهبته الأدبية، فاتجه إلى الكتابة، وتعرف على الأدباء الروس مثل بيلنسكي ونيكراسوف ودوستويفسكي. تولَّع إيفان بحب الأدب والقراءة وتذوق اللغة الروسية عن طريق بونين العامل في منزل العائلة بالقرية. الإضافة إلى أنّ مكتبة سباسكي التي كانت زاخرةً بأمهات كتب الأدب الفرنسي والأوروبي.. قوبلت أعماله المسرحية من قبل معاصريه بفتور شديد، وكان النقاد يعترفون بالقيم الفنية لكوميدياته لكنهم كانوا ينكرون كلياً صلاحياتها للتمثيل على المسرح، وكان هذا الرأي مقبولاً من جهته حتى انه كتب في مقدمة الطبعة الأولى من مشاهد وكوميديات: مع انني لم اعترف لنفسي بالموهبة المسرحية، فلم أكن سأنزل على رجوات السادة الناشرين ورغبتهم في طبع مؤلفاتي كاملة قدر الامكان اذا لم اكن اعتقد ان مسرحياتي التي لا تصلح للمسرح يمكن ان توفر بعض المتعة في القراءة.. وفي عام 1871 ذكر تورغينيف بانه منذ عشرين عاماً لم يكتب شيئاً للمسرح فقد صار يظن انه ليس ميدانه.. ولكن خلال السبعينات والثمانيات مثل عدد من مسرحياته على مسارح روسية وأوربية بنجاح كبير، ومع ذلك فان النقاد المسرحيين ظلوا كالسابق ينكرون صلاحيتها للتمثيل على المسرح، حتى جاء الاعتراف بها واسعاً نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين. ووجدت مشاهد وكوميديات مكاناً وطيداً لها في برنامج المسرح الروسي، واعترف النقد بما يستحقه تورغينيف الكاتب المسرحي كفنان تجديدي كبير يرى ان المسرح يجب ان يتميز في المقام الأول بالأصالة، ويعكس الحياة الروسية عن صدق. وكان بظهوره في مسرحياته الأولى كمحطم للقواعد القديمة يسعى الى تصوير عالم الانسان الداخلي، ويتجه الى البحث عن طرائق لرسم الواقع فنياً تمكنه من اظهار الانفعالات الانسانية كما هي في الحياة. وفي مذكراتها تشير الممثلة الروسية ماريا سافينا انها منذ صباها مولعة بقراءة مسرحيات تورغينيف حتى تعرفت عليه عام 1879 بعد اختيارها لتمثيل اشهر مسرحياته (شهر في القرية) وقد دعته لمشاهدتها فانبهر في تمثيلها، وبحسب تعبيره اكتشف فيها بطلته التي صار يتمثلها بين اعماله فهي ليزا في رواية عش النبلاء ويلينا في رواية في العشية وآسيا في رواية آسيا، ومن خلال تمثيلها لبطلات رواياته صارت ماريا سافينا الممثلة الروسية الأولى التي جسدت شخصية ليزا على نحو لم يبرزها به احد. وقد كتبت تقول: انا نفسي أقر بانني قد قمت ولربما لأول مرة في حياتي بمهمتي بلا شائبة.. وتعد علاقته بها من اكثر الصفحات شاعرية وضياء في حياته حتى سنواته الأخير، فقد كانت رسائله اليها تعبير عن قوة عاطفية وصدق عميق كأنها مقطوعات نثرية، وهي كانت تزوره في سباسكويه وتعوده في باريس وهو مريض يشارف على الموت. وتبين ماريا سافينا انها جسدت شخصية فيروتشكا فاثارت اعجاباً هائلاً وتحمس الجمهور لرؤية المؤلف على خشبة المسرح، فابرقت بذلك تدعوه للحضور. وتقول ماريا: تقدم مني فاتحاً عينيه على سعتهما، وتناول كلتا يدي وقادني الى المصباح الغازي واخذ يمعن النظر في وجهي. لم يصدق ان فيروتشكا الشخصية التي كتبها يجدها حية امامه بما تملكه من موهبة. فلم يكن امامها وهي تسمع كلماته الا ان تعانقه وتقبله بقوة. وفي نهاية العرض خرج للجمهور على خشبة المسرح وقد اتخذ التصفيق طابعاً عاصفاً، وحينها تعب تورغينيف من الانحناء.