بورتريه سيدة   رواية  لمايكل غورّا

بورتريه سيدة رواية لمايكل غورّا

ترجمة: عباس المفرجي
العمل الأدبي الإنساني العظيم لهنري جيمس " بورتريه سيدة " (1881)، قصة فتاة أمريكية ملهمة ((تتحدى قدرها))، هي الأكثر تفضيلا بين كتبه عند القرّاء. يضعها نقّاده وكتّاب سيرته في مركز حياته وعمله. هي نقطة تحوّله. من كونه مؤلفا واعدا، تخصص في الكتابة عن الأمريكيين في اوربا (" ديزي ميللر "، " الاوربيون "، " الأمريكيون ")،

أصبح كاتبا شهيرا، مهما، معترف به ’’ سيدا ‘‘ للوعي، لنفاذ البصيرة الثقافية، للدعابة، للرقة والعمق. لكن أيضا يمكن النظر الى " بورتريه سيدة " كنقطة لاعودة. بعد ذلك جاءت روايات تحليل إجتماعي غير سائغة، لاشهرة لها. (" البوسطنيون "، " الأميرة كاساماسيما ")، والتورّط المنحوس في المسرح، وروايات تسعينات القرن 19 المربكة، المعقّدة بغموض (" ما عرفته ميسي "، " العمر المربك "). تبدأ ايزابيل آشر مفعمة بالأمل، مستقلة وطموحة، وتنتهي ((راسبا في مطحنة))، أسيرة شَرَك ومحررة من الوهم. قصة حياة جيمس أيضا يمكن أن تُقرَأ ككوميديا فائرة تنتهي الى حزن تراجيدي.

يقارن كتّاب سيرة جيمس دائما ايزابيل وروايتها بحياته الخاصة. لاحظ الجميع أن الموت المبكر لابنة عمه الحبيبة المفعمة بالحياة، الذكية، ميني تمبل، حين كانت في الرابعة والعشرين من العمر وهو في السابعة والعشرين، كان مصيبة عظيمة حثت على إبداع ايزابيل. كما يقول مايكل غورا، ((مستقبلها غير المعاش تواصل في رأسه)). يقول ليون ايدل، أن جيمس وضع في ايزابيل طفولته الخاصة به وتوقه الى الحرية في اوربا، لكن أيضا غلبرت أوزموند، البارد والمغترب التقليدي (الذي ارتكبت ايزابيل خطأً كبيرا بزواجها منه) هو بورتريه لما كان سيصبح عليه جيمس ((لو كان سمح للتنفُّجية أن تسود البشرية)). الموضوعان الحقيقيان للرواية هما ((الأنانية والسلطة)). يعتقد فريد كابلان أن رواية ايزابيل هي ((كابوس)): خلف الوصف المتكلف للعادات والشخصية... عالم " بورتريه سيدة " هو عالم متوعد، وغالبا مميت من القمع والإبادة، حيث لا أحد سعيد، لا أحد في مأمن.))
في حقل حاشد بالتفسيرات البيوغرافية، يجادل غورا بأن " بورتريه " هي ((نقد للإستثنائية الامريكية)). المفارقة التاريخية عن الامريكيين هي أنهم يؤمنون بمساواتية جمهورية – الجميع خلقوا سواسية – وبحرية السعي، على نحو تنافسي، الى السعادة الفردية. ايزابيل (المغادرة امريكا، الرافضة للورد انكليزي لطيف ولبوسطني عاقد العزم، مختارة اوزموند لأنها تعتقد أنه مستقل) تصرّ على وجوب أن تكون حرّة كي تكتب حبكتها الخاصة بها. إنها لن تكون محَجَّمة بما يحيط بها – ملابس، بيوت، نقود، تقاليد. إنها تؤمن بـ ((استقلالها الخاص بها، عزلتها المخولة الخاصة بها: إيمان، وحلم سيتحديان كل تجربتها التالية.)) كما تلمّح لها مدام ميريل، في حديث عن حدود الذات، ((اكتفاء ذاتي كامل هو مستحيل)). في اوربا، تتعلم ايزابيل ((أن حياتها الخاصة كانت مسبقا محددة)). تكتشف أن بالنسبة لها، كما لأمريكا، لا وجود لشيء اسمه ’’ بداية جديدة ‘‘ أو ’’ عالم جديد ‘‘. طرق أخرى لقراءة ايزابيل – كامرأة فتية خائفة من التجربة الجنسية، كبريئة واقعة في أيد فاسدة، كإفراز لهيام جيمس بأوربا، كتجسيد للعزلة – تحتل مكانا ثانويا في هذا التفسير السياسي.
حتى لو كانت هذه القراءة مثار جدل، فإن غورا يوفق فيها بطريقة مثيرة الى حد بعيد. قال جيمس عن " بورتريه سيدة "، إنها ((حجر زاوية واحد صغير)) نشأ في ((بناء كبير))، كبير كاف في شكله بالنسبة له ((لخلق ضجة)) حول ايزابيل آشر. غورا، متتبعا ذلك التلميح، أنشأ ((ضجة)) حول صنع جيمس لروايته، كي يروي لنا ((لا فقط ما يحدث في الرواية نفسها، بل أيضا قصة كيف نجح جيمس في كتابتها)). إنها سيرة لرواية يتم من خلالها الكتابة عن روائي.
غورا حذِر، مع ذلك، من أخطار مزاوجة الحياة والفن على نحو صرف. لماذا اقتفاء أثر رحلة مؤلف عبْر أمكنته؟ لماذا محاولة مطابقة شخصيات على أناس واقعيين؟ لأن، كما يقول هو، الفرق بين الأصول والإبداعات ((يمكن أن يعَّد مرشدا لخبرة فنية)).
الأمكنة تهمّ كثيرا في هذه الرواية، وغورا يقتفي أثرها بحرص، عبْر باريس، لندن، فلورنسا، فينيسيا وروما، متعقبا المواقع التي كتب فيها جيمس "بورتريه سيدة "، والنماذج المحتملة لشخصياته، كما بالنسبة للبيت الانكليزي حيث تبدأ الرواية، والفيلا الرومانية المعتمة لأوزموند. وهو يُظهر لنا جيدا كيف أن الفصول الأولى في الغاردنكورت تطلق إحساسا من ((ترفيه مهذب))، أو كيف أن ظمأ ايزابيل للحرية معبّر عنه حين تسير وحيدة في شوارع ضبابية ندية للندن تشرينية، أو كيف تتماثل مع ((الحزن الرائع)) لروما.
ينشغل غورا أكثر بمعالجة الرواية للوعي. جيمس يغيّر على نحو جذري ما يمكن للأدب الروائي عمله لإعطائنا، لا فقط قصة فتاة بإحساس عال بذاتها والتي ترتكب خطأً كارثي، بل توضيحا عن كيف ((أن الحياة داخلها لها دراما خاصة بها)). كقرّاء روايات، نحن اعتدنا على هذا الآن، لكن جيمس هو من واحد من الكتّاب الذين جعلونا نعتاد عليه. في الفصل الشهير حيث تجلس ايزابيل قرب الموقد مستعيدة حياتها الزوجية، ((غيّر هو إحساسنا ذاته بما يُعَّد حدثا في الأدب الروائي)). تلك الجرأة الروائية، ترافق، على نحو متناقض ظاهريا، موارباته، تحفظه الجنسي، ((مزيجه المميز من الكبت والتسامي)). ((لحظات من رفض، أحداث لم تقع))، ثغرات في الزمن، أشياء لم تقال، هي ما تلهب مخيلته.
يتنامى لدينا شعور واضح بتطوّر هذه المخيلة، حين يوجز غورا تعليم الطفولة ((المشوّش)) لجيمس، علاقته التنافسية مع أخيه ويليام، اختياره لـ ((الهواء المتكاثف)) لأوربا، رد فعله على وفاة والديه، جنسانيته، قراره الإمتناع عن الزواج وسمعته المتنامية. لا شيء من هذا هو جديد، لكنه عومل على نحو قوي. غورا مهتم بشكل خاص بعلاقة " بورتريه سيدة " بالأدب الآخر – بهاوثورن، بجورج اليوت، بالروائيين الفرنسيين، بتورجنيف – ويبحث جيدا في ظروف النشر، واستقبال الرواية والتنقيح الأخير الذي أجراه عليها.
يفضل غورا طبعة نيويورك من عام 1906 لرواية " بورتريه سيدة "، لأنه يجدها أكثر ايروتيكية، أكثر دراية، أكثر طبيعية. أحد الأمثلة هو عودة ايزابيل الى الغاردنكورت، بعد ست سنوات من بداية الرواية، كي تكون الى جانب إبن عمها الحبيب رالف توتشيت قبل أن يموت. تطوف في أرجاء المنزل، في نسخة 1881، ((تصبح خائفة، وحتى مرتعبة)). في نسخة 1906، تصبح ((فَزِعة كما لو أن الأشياء حولها بدأت تبدو واعية، ترقب همّها بكشرات بشعة)).
ذلك التوكيد على الهمّ والتراجيديا يقلل من الإبهار الهزلي للرواية. إيجازات غورا للحبكة تفوتها بعض المؤثرات الرائعة. لا يوجد هنا الكثير حول الصحفية الامريكية الباسلة هنريتا ستاكبول وصديقها الحميم مستر بانتلنغ، أو أخت اللورد واربورتن الخنوعة، أو سخافة أخت اوزموند، الكونتيسة جيميني. ولم يفسح مجالا للعلاقات الثانوية في الرواية – على سبيل المثال، صداقة رالف مع واربورتن – التي بحد ذاتها تموج بالحياة، والتي جعلت القصة المركزية لايزابيل حتى أكثر قوة.
تركيزه على حياة الرواية الداخلية المسكونة بالأرواح، مدين بالفضل الى رواية كولم تويبن الجميلة عن جيمس، " السيد "، التي يثني عليها غورا في كتابه. أحيانا، يبدو كما لو أنه يحاول أن يكتب مثل الروائي: ((وهكذا تبددت السنون وهاهي تقف...)) ((الرجل العجوز في الجاودار يجرّ قلمه عبْر السطر...)).
لكن هذا هو انتقاد طفيف وُجِّه الى نجاح غورا في اجتذاب الرواية ومؤلفها الى مثل هذا التركيز المكثف الحيّ. قال جيمس، ((لا شيء هو كلمتي الأخيرة عن اي شيء)). وكل قرّاء الرواية يشعرون، كما يقول غورا، بأن ايزابيل آشر سيكون لها ((حياة ما خلف الكلمات المثبتة على الصفحة)). تحية تقدير لكتابه الذي جعلنا نشعر بالحياة بعمق شديد، بسبب الرواية وشخصياتها ومؤلفها. إنه يستحق ان ينتهي بكلمات جيمس الرائعة، ((حقا، هناك الكثير جدا قوله)).
عن صحيفة الغارديان