هكـذا عـرف  العــراقيــون  الاحزاب قبل  تأسيس الدولة العراقية سنة 1921

هكـذا عـرف العــراقيــون الاحزاب قبل تأسيس الدولة العراقية سنة 1921

فلاح حسن كزار
يعدّ انقلاب الاتحاديين عـام 1908نقـطة هامـة فـي مـسار التحـولات السيـاسية في العراق، إذ لاقت استجابة كبيرة من المثــقفين وكبار الشعــراء، ورجـال الـدين، عندما أعلنت عن أهدافها ومناهجها، ولاسيما حيال الــشعوب العــربية المـنضوية تحــت سيطرتها، لذلك، انظم أفراد النخبة العــراقية (الأنتلجنسيا) المــدنية والعسكــرية امثال طالب النقيب، وعبدالمحسن السعدون، وياسـين الهاشمـي،

وغيــرهم إلى فــروع جمعيـة الاتحـاد والتـرقي، في بغداد والحلة والموصل والبصرة، اعتقاداً منهم أن تلك الجمعية هي المعبّر الحقيقي عن آمال العراقيين وطموحاتهم في تحقيق حياة ديمقراطية، إلا أن تلك الآمال سرعان ما تبددت بسبب السياسة الخاطئة التي انتهجتها الجمعية وأفصحت عن نواياها الحقيقية وتنصلت عن وعودها للعرب، واتبعت سياسة دكتاتورية،

عند ذلك أدرك الوطنيون العراقيون أنه لابد من الانتماء إلى حزب جديد يعبر عن طموحاتهم المشروعة، وبدأت محطات نشاطهم السياسي تتسع، لذا شهدت بغداد وعدد من المدن العراقية الأخرى تنظيم مجالس خاصة استهدفت معالجة قضايا سياسية واجتماعية وأدبية مختلفة، فظهرت عدة أحزاب منها، (الحزب الحر المعتدل) وله فرعان، أحدهما في البصرة، تأسس في آب عام 1911، والآخر في بغداد تأسس في أيلول من العام نفسه، إذ ضم نخبة اجتماعية ودينية بارزة أمثال طالب النقيب وعبدالرحمن النقيب. وتأسس حزب (الحرية والائتلاف) في عام 1911، وله ثلاثة فروع في (الموصل، وبغداد، والبصرة)، وانظم إليه كل من "محمد توفيق، وخير الدين العمري الذي أصبح فيما بعد رئيساً لبلدية الموصل، وعبد الله باشا، ومحمود معتوق النعمة، وأحمد باشا الصايغ، والمحامي سليمان فيضـي، وشكري فاضل أفندي ومحمـود الطبقجلي وحمدي الباجة جي.
شهـــدت مدينــة البصــرة نشاطـاً سياسيـاً ملحـوظـاً لاسيـما بعــد تأسيــس طالـب النقيــب (جمعيـة البصــرة الإصلاحيـة) عــام 1913، إذ استطاع تـلك الجمعية أن تفعّل نشاطـها في منطقتـي الفرات الأوسط، والمنطقة الجنوبية، وتحصل على تأييد بعض شيوخ العشائر فيها.
وفــي بغــداد أسســت جمعــية (النـادي الوطنـي) عـــام 1912، وضـــمت عـدداً مــن الطلبـة منهــم مــزاحم الباجة جـي، وإبـراهـيم ناجــي وبهجــت زينـل، فضــلاً عـن انضمــام عــدد مــن الضــباط إليهـا أمـثـال يوسـف عـز الــدين وتحسيــن العسكــري وصبيـح نجيب وعبدالحميد الشالجــي وعبـداللطيف الغلامي، وضمت الجمعية الصـحفيين إبراهيم حلمــي العمر ورزوق عنــام. وعبدالمـجيد كنة، وحمـدي الباجة جي وثابــت الســويدي، والأخوين محمـد رضا الشبيـبي والشاعر محمد باقر لشبيبي.
وأسست أحزاب سريـة في العراق قبل الحرب العالمية الأولـى، مثلهـا "حزب العهد" الـذي كان مقـره في الأستـانة ولـه فرعـان فـي ولايتـي (بغداد والموصل)، وضم عدداً من الضباط منهم تحسين علي وعبدالغفور الشالجي ومولود مخلص وعلي جودت الأيوبي، وعبد الرحمن شريف، وعدداً من المثقفين، منهم المحامي حمدي الباجة جي والصحفي إبراهيم حلمي العمر.
وشهد العراق تأسيس عدد من الجمعيات السياسية السرية، مثل الجمعية القحطانية وجمعية العلم الأخضر في الموصل، وجمعية اليد السوداء، وتلك الجمعيات هدفت إلى تحقيق كيان عربي مستقل.
ومما تجدر الإشارة إليه أن تلك الأحزاب والجمعيات السياسية التي أسست في العراق آنذاك، لم تستوعب مشاكل المجتمع، بسبب تركيبة قياداتها التي تمثل في الأغلب "الأعيان ورجال الدين والملاكين والتجار" فضلاً عن ذلك فإن نشاطها كان محدوداً في مدن العراق الكبيرة مثل (بغداد والبصرة والموصل)، ولم تتوغل إلى أوساط الريف الذي يشكل سكانه ثلثي سكان العراق.
لقد أسهمت أحداث الحرب العالمية الأولى 1914-1918 في بلورة الوعي السياسي في العراق، فتم تشكيل احزاب وجمعيات سياسية أكثر نضجاً من تلك الأحزاب والجمعيات التي شهدها العراق قبل الحرب، فتأسست جمعية النهضة الأسلامية، التي ضمت عددا من رجال الدين البارزين، منهم الشيخ عبدالكريم الجزائري والشيخ محمد رضا الشبيبي وشعراء كبار منهم محمد باقر الشبيبي وعلي الشرقي وأحمد الصافي النجفي، فضلاً عن وجود عدد من رؤساء العشائر البارزين منهم حمادي زوين وعلوان الياسري وعبدالواحد الحاج سكر وشعلان أبو الجون، وهؤلاء يمثلون كبار الملاكين في الفرات الأوسط.
وأما جمعية حرس الاستقلال التي تعد أول تجربة عراقية دعت لبناء الدولة العراقية() بعد الاحتلال البريطاني لبغداد في 11/آذار/1917، إذ شعر الوطنيون بضرورة تأسيس جمعية سياسية سرية تعمل على إنقاذ البلاد من الاحتلال البريطاني، فتأسست في نهاية شباط عام 1919، وضمت هيئتها التأسيسية الملاكين والتجار البارزين ورجال الدين من ذوي السمعة الطيبة منهم السيد محمد الصدر الذي يمثل (طبقة علماء الدين والملاكين)، كما ضمت ضباطاً في الجيش منهم محمود رامز، والمحامي بهجت زينل، وعلي البازركان، وجلال بابان، وعارف حكمت، والحاج محي الدين السهروردي، وعبد الغفور البدري، والشيخ محمد باقر الشبيبي، وجعفر أبو التمن()، الذي كان يتمتع بمكانة اجتماعية في بغداد، ولاسيما في الأواسط التجارية، واقتصر نشاطها على بغداد ومدن الفرات الأوسط ومنها النجف والحلة والشامية، ويعزى ذلك لوجود الطبقة المثقفة في بغداد، وتمركز رجال الدين في المناطق الأخرى، فضلاً عن إدراك زعماء الجمعية أهمية منطقة الفرات الأوسط لقضيتهم، لاسيما إنهم كانوا على علم بتدهور العلاقات بين زعماء العشائر والإدارة البريطانية، فعملوا على تعزيز صلاتهم مع هؤلاء الزعماء مستثمرين حالة الاستياء العشائرية بسبب سياسة الاحتلال المنافية لتقاليدهم.
وفــي عــام 1919 أسســت جمعيـــة العهــد العراقيــة، التــي مثلت امتداداً لجمعيــة العهـد التـي أسســها عزيز علــي المصــري في استانبول عام 1913 وكان للجمعية فرعان: الأول فـي بغـداد، والثانـي فـي الموصـل، وضمــت الجمعـية عــدداً مــن المثقفيـن العراقيـين، منهـم الصـحفي قاسـم العلـوي، والمحــامي حســن رضا، وعـلاء الدين النائب، وسعـيد ثابت الـذي وصفـه المـؤرخ عـبد الرزاق الحسني بأنه كان خطيباً متنوراً. وضمت الجمعية عدداً من التجار والوجهاء والضباط ومنهم أمين زكي.
قدمت النشاطات السياسية الحزبية الآنفة الذكر نفعاً كثيراً للأمة العراقية، وهي تهيئة أرضية مناسبة لانطلاق المواجهة المصيرية التي توجت بثورة عام 1920، من خلال نشاطاتها التي شغلت مساحة واسعة من العراق، وكثفت عن تحركاتها في منطقة الفرات الأوسط وبغداد.
يتضح دور الأحزاب والجمعيات السياسية في العراق في المدة (1908 – 1921) في إنضاج الوعي السياسي لأبناء البلاد وإعدادهم في تحمل المسؤوليات حتى تحقيق الاستقلال الناجز، وكان ذلك في مقدمة أهدافها، من غير أن تأخذ بالحسبان تنفيذ إجراءاتها الاجتماعية والاقتصادية، ولكن مع ذلك فإن الحقيقة التاريخية التي لا يمكن إغفالها، إن هذه الأحزاب والجمعيات أسهمت في انضاج الوعي الوطني والقومي لدى العراقيين الذين عبروا في مظاهرات عديدة عن استنكارهم ورفضهم الاحتلال البريطاني، وتوجت مجهوداتهم في قيام ثورة الثلاثين من حزيران عام 1920، التي تعد علامة مميزة في تاريخ العراق المعاصر.
وعلى الرغم من فشل الثورة عسكرياً إلا أنها أحدثت نقلة نوعية في الأوضاع السائدة في العراق آنذاك، إذ بّرزت كتل اجتماعية واتجاهات سياسية متنوعة مثلت أحزاباً وشخصيات دينية واجتماعية، بعضها معارض للوجود البريطاني وبعضها الآخر مهادن له، غير أن بريطانيا أدركت قوة الاتجاه الوطني المعارض لوجودها قبل تتويج الأمير فيصل ملكاًُ على العراق، فحاولت جاهدة فرض سياستها الجديدة القائمة على الإدارة غير المباشرة في أعقاب ثورة 1920، واعتمدت على المناورات والخداع والتضليل والعمل على شق فئات الشعب الوطنية بعضها عن بعضها الآخر، من خلال تقريب بعض شيوخ العشائر وإغداق الأموال والهبات عليهم، واتباع سياسة التقسيم الطائفي والمذهبي، وأشار إلى ذلك أحد التقارير البريطانية المؤرخة في تشرين الأول عام 1918، وبيّن كيف أن الإدارة البريطانية سعت إلى خلق نعرات طائفية بين أبناء البلد الواحد، إذ أكدت في تعاملاتها ووثائقها بتجديد فقرة فيها تسمى (الطائفة)، فحاولوا إثارة مشاعر المسيحيين وربطهم بإدارتهم، فضلاً عما فعلوه مع القومية الكردية، إذ وعدوهم بالحكم الذاتي، وأخذت السلطات البريطانية تسند سلطتها في الألوية للأشخاص الموالين لها، محاولين تفكيك العراق إلى وحدات مجزأة مرتبطة بها، لاسيما في جنوب البلاد، ثم ترويجهم شائعات بأن المسلمين يريدون تكوين حكومة إسلامية بحتة، وإبعاد اليهود والنصارى عن البلد، لدفع هؤلاء للمطالبة ببقائهم في العراق لحمايتهم من ما أسموه (التعصب الإسلامي).
وعلى الرغم من كل تلك المحاولات، إلا أن العراقيين ظلوا متمسكين بوحدتهم وتضامنهم على اختلاف مذاهبهم، ولاسيما بعد أن تعضدت مشاركتهم في احتفالات المولد النبوي والمآتم الحسينية والاجتماعات التي عقدت في دور بعض السياسيين والجوامع التي أكدت حقيقة هامة هي نقاوة أبناء العراق، فهم أبناء جلدة واحدة متماسكون حيال من يهدد وجودهم ومصيرهم.
لاشك أن تلك الاجتماعات أقلقت السلطات البريطانية لما تضمنته من خطب حماسية وقصائد وطنية زادت الجماهير حماساً للوقوف بوجههم، لاسيما بعد ازدياد عدد المجتمعين يوماً بعد آخر، وللحيلولة دون استمرار عقد تلك الاجتماعات، أصدرت السلطات البريطانية بياناً منعت بموجبه عقد المواليد النبوية في ليالي الجمعة، إذ عدّتها مصدراً لإثارة أفكار الناس ضد الحكومة، ولبث روح العداوة لهم، فحذرت القائمين عليها بأشد العقاب إذا لم يأخذوا الإذن من الحاكم العسكري السياسي البريطاني بذلك، ونشرت بعض الصحف البيان الذي يشير إلى ذلك.
هكذا يتضح بأن المدة ما بين الأعوام 1918-1921 تميزت بنمو الحركة الوطنية العراقية وتشعبها ونضجها السياسي، ويفسر ذلك - بلا شك- الجو العام لظروف ما بعد الحرب من جهة، والتعسف البريطاني في تطبيق إجراءاته الإدارية من جهة ثانية. ولما كانت خطة الحكام السياسيين البريطانيين استعمال الشدة والإرهاب، أخذ العراقيون يفكرون بوجوب خلاص البلاد من تلك التبعية البغيضة، وأخذوا يجتمعون سراً لدراسة الأمر واتخاذ ما يجب اتخاذه من التدابير اللازمة لمواجهة البريطانيين، فعقدت الاجتماعات في الحضرة الكيلانية وجامع الحيدر خانة والصحن الكاظمي الشريف، فما كان من السلطات البريطانية إلا أن قامت بحملة اعتقالات شعواء ضدهم، ونفت بعض القادة إلى جزيرة هنجام.
لم تتوقف نشاطات الحركة الوطنية في العراق على الرغم من كل الإجراءات التعسفية لحكومة الانتداب، وظلت تطالب بحقوقها المشروعة، فما كان أمام مجلس الوزراء في الحكومة العراقية المؤقتة إلا ان طالب في جلساته المنعقدة ما بين 22/تشرين الثاني/1920 و17/كانون الثاني/1921 من المندوب السامي البريطاني أرنولد. تي. ولسن"Arnold.T.willson" إعادة المنفيين إلى وطنهم بعد أن يؤخذ تعهد خطي منهم بحسب ما يراه المندوب السامي، وبالفعل أوعز بعودتهم وإطلاق سراح بعض المعتقلين في شباط عام 1921، وأكدت المس بيل(ذلك في رسالة لها مؤرخة في 13شباط 1921، إذ قالت "..كان هذا الأسبوع معروفاً بعودة حوالي عشرين أو أكثر من المنفيين الذين نفاهم ولسن إلى هنجام".
ورحبت بعض الصحف الوطنية ومنها صحيفة الاستقلال بعودة الوطنيين المنفيين إلى الوطن، وطالبت بإرجاع جميع المتبقين منهم، وطالبت في الوقت ذاته الحكومة بإطلاق حرية الصحافة وتطبيق قانون المطبوعات العثماني إلى أن يسن قانون غيره، وإطلاق حرية الاجتماعات وتشكيل المكونات السياسية بصورة رسمية، وهذه المطالبة تعد أول دعوة لتشكيل الأحزاب السياسية بصورة رسمية في البلاد.

عن رسالة (حزب النهضة العراقية)