ميشيل فوكو وتقويض الفرضيات

ميشيل فوكو وتقويض الفرضيات

د. نادية هناوي سعدون
كان اغلب نقاد المدرسة التقويضية معارضين للفكر النقدي الغربي السائد في اوروبا والولايات المتحدة الامريكية فكرستوفر نوريس مثلا انتقد هشاشة العمل النظري في التطبيقات ما بعد البنيوية وما بعد الحداثية وكيف أنها تنتهي بغثها وسمينها إلى اختزال الأنظمة المعرفية إلى مجرد العاب خطابية لا تبنى إلا بواسطة اللغة وفيها.

أما جاك دريدا فانه رفض النقد التقليدي أو النقد الأرسطي وأنكر أن يكون للنص أي هوية مستقرة أو أي مصدر.

وتابعه في ايطاليا بنديتو كروتشه وماريو فابيني. أما في ألمانيا فكانت جماليات التلقي والقراءة لروبرت ياوس وولفانغ ايزر هي السائدة..
وتبنى جيفري هارتمان أسلوبا مشاكسا وغير مباشر يدعو للضيق. بينما حاول الامريكي بول دي مان على الأخص أن يفكر في مفارقات منهج النقد الجديد.
ومع دريدا وجاك لاكان ورولان بارت توفرت أجواء نشر ثقافة ما بعد حداثية تحاول أن تهمش المركز وتمركز الهامش بمثالية طوباوية عاجية.
ومثلما كان المنظرون والمفكرون التفكيكيون لا ينظرون إلى المسلمات بمنظار التأييد والقبول كذلك لم تكن النصوص الكبرى ذات الصيت العظيم لتستثير ميشيل فوكو.
فهو يهتم بالمفاهيم وتاريخها ويسعى الى اكتشاف حقولها وعنده ” ان عالم المفاهيم والرموز لا ينجلي كليا ليمنحنا حضوره الوضاء في تمام الشفافية والوضوح.. الا ان ذلك التباعد ذاته هو ما يجعل عملية التأويل ممكنة وتلك المسافة وما تتطلبه من عنت وجهد.. هي التي ترفع القراءة الى مرتبة تجعلها فنا من الفنون “
وهو يعول كثيرا على مناقشات سوسير في دراسة علاقة الدليل بالمجتمع لكن باقصاء الالسنية كعلم ولهذا كان فوكو اقرب الى نيتشه منه الى سوسير..
ويبدو إن اهتمام فوكو ليس موجها إلى القسمة بين دال ومدلول بل ان اهتمامه موجه للملفوظات والخطاب وكيفية إنتاجه بما يسميه الحاجات المفهومية التي لا تتعلق فقط بالموضوع بل بمعرفة الظروف التاريخية التي تحدد نوعية فهمنا وإدراكنا لوضع تاريخي معين وهو ما يتطلب بالضرورة معرفة الواقع الذي نعيش فيه أي معرفة الراهن..
وكتابه (إرادة المعرفة) بلورة جينالوجية نسابية للآليات والتقنيات العاملة في الواقع زمانيا ومكانيا لاسيما العلاقات بين المعرفة والسلطة والجسد ليساءل الحقائق والسلطات كاستراتيجيات تفكك المعرفة بوصفها معزولة عن السلطة مؤمنا بالفرضية القمعية التي تعتبر أن الحقيقة تتعارض جوهريا مع السلطة.
وهو يرفض الجدليات الثنائية فلكل علاقة ثلاث دلالات او اكثر ولو تناولنا علاقة الملفوظات بالمرئيات للاحظنا أن الأولى لا تعمل إلا في صلب الكثرة الخطابية والثانية تعمل في كثرة العوامل غير الخطابية وفي نفس الآن تتفتح الأولى والثانية على شكل ثالث من الكثرة هو علاقات القوى (السلطة) التي تخترقهما معا من خلال كثافة المفاعيل وانتشارها..
وهي مما يتنافى والمعرفة المتشكلة من تكوينات تاريخية من وضعيات ووقائع من طبقات رسوبية متكونة من كلمات وأشياء من الأبصار والقول مما يروى ومما يقال
وبين الفكر والرغبة والكلمة تندس السلطة لتمرر اسمها ومعناها من خلال ما اسماه ميشيل فوكو الفرضية القمعية..
ويعرف فوكو القمع على انه ليس مجرد منع بل هو إقصاء وإسكات وإعدام ما يجب قمعه بمجرد محاولة ظهوره وهو حفر اركيولوجي في الشكل الذي به تأتى لمنطوق الجنسانية أن يصنع أجسادنا من خلال لعبة المعرفة والسلطة.
ويوجه اهتمامه إلى الأبعاد الأساسية للواقع الإنساني الراهن وهي ثلاثة الحقيقة السلطة الأخلاق.
والقمع هو ما يحرم الموضوع من ماديته والذات من قدراتها، بل انه ما يمنع المعرفة كعلاقة.. ويذهب فوكو إلى إن هذا التعاضد والتآزر بين ملفوظة القمع وصورة التبشير يحملهما المثقف الشمولي الذي يتكلم باسم الإنسانية والحقيقة والمستقبل فهو حامل راية الحق وبشارة الغد المشرق وهو صاحب الحق في شمولية المعرفة وهو الوكيل الشرعي للكلية والمراسل الكفء للمطلق حيث يقوم التفلسف كفكر شمولي تأسيسي أو كقوة كشف تحمل معايير القيمة والدلالة وهو الذي يقول الحق ويمتلك الحقيقة ويجسد الشمول.
وهذا ما يجعل فوكو قلقا ازاء الخطاب وارادة المعرفة وارادة الحقيقة فيتبنى بعض الفرضيات ازاء مفاهيم بعينها التي يجد فيها ترابطا بين الجنسانية والرأسمالية وصعود النظام البرجوازي ويتشكل هذا الترابط في فضاء الخطاب التقويضي من السلطات والمعارف والرغبات..يقول فوكو في كتابه نيتشه الجينالوجيا والتاريخ:” إن المعرفة لم تخلق لآجل الفهم وإنما لأجل التكسير والحسم “.
وفي كتابه(ارادة المعرفة) يتوجه الى السلطة والمعرفة لا بصورة ثنائية بل كمفهومات ابستمولوجية اي ” مجمل العلاقات التي قد تربط.. بين الممارسات الخطابية التي تفسح مجالا لاشكال ابستمولوجية ولعلوم ولانظمة معقدة “
وهو يميز بين الخطاب والفكر فليس الخطاب وعيا او لغة تضاف لها ذات بل هو ممارسة من الترابط والتتابع.. عبر البحث في البنى والعلاقات والممارسات ويلتفت بكل دهشة واهتمام الى نص لكانط.. ليرى فيه فاتحة لما يتعودها الفكر الفلسفي وذلك لاهتمامه لا بالعام والمطلق بل بالحدثي والتاريخي..
ويبقى ميشيل فوكو كمنظر لمرحلة نقدية فلسفية ما بعد تقويضية وكناقد جينالوجي يعي تمام الوعي انه غارق في نتاج الممارسات التي يدرسها..وانه ليس متحللا من وزرها البتة …