يحيى الشيخ: الأسلوب قــبر واســـع للفــــنان

يحيى الشيخ: الأسلوب قــبر واســـع للفــــنان

حوار: علي المندلاوي
في معرضه الاخير الذي اقيم على قاعة الكوفة وسط العاصمة البريطانية لندن فاجأ الفنان يحيى الشيخ المطلعين على تجربته الفنية الغنية التي تكاد تقترب من نصف قرن من الزمن بخروج لافت على التقنيات التي عرف بها، والخامات التي اشتغل عليها في بغداد وموسكو وطرابلس، واخيرا في منفاه المريح في النرويج، حيث اكتشف خامة تجربته الجديدة التي اطلق بها صيحة روحه الملونة. هنا حوار معه:

* لماذا الصوف؟!
ـ بين اللوحة التقليدية والمشاهد مسافة، وهذه المسافة لم توجد بسبب موضوع اللوحة أو اسلوب رسمها، وانما بسبب مادتها غير المعروفة لديه، فخامة اللوحة تقف حائلا دون الفتها، وبالنتيجة فإن اللوحة تحولت الى سطح مستبد بمادته. في الصوف الفة، وعلاقة الانسان بهذه المادة لصيقة، فهو يستعملها في ملبسه وبيته وبيئته. انها مادة طبيعية تعلن عن نفسها، وتكشف عن خصوصيتها في اللوحة كما لو انها شكلت نفسها بنفسها.
ان ازمة الفنان الدائمة هي: بأية لغة يصوغ افكاره، وفي اعمالي الجديدة (إشراقات) تركت للخيوط المغزولة الحرية في التداخل والتشكل على عكس الجرافيك، حيث كان عليّ ان اخرج الاشكال عنوة من سطح المعدن ثم معاملتها بالاحماض والمواد الاخرى لاحصل على اللوحة من خلال الاحبار الملونة التي تنقل الشكل المحفور الى الورق من خلال الضغط.
في هذه العملية جانب كبير من الميكانيكية التي تنعكس على شكل اللوحة، وهو ما بدأت بالنفور منه.
ولذلك، وعندما وقعت عيناي على مادة اللباد الصوفية في النرويج، حيث اقيم وادرس الفن،ادركت بأني وجدت ضالتي، وبالفعل حققت أول اعمالي بهذه المادة قبل تسعة أشهر فقط!
* ولكن الا ترى بأن اختلاف الخامة انحرف بأسلوبك في الرسم؟!
ـ انا ابحث عن الجمال، واصنعه. فكرة الاسلوب هذه لم اهضمها لحد الآن، واعتقد بأنه قبر واسع للفنان! هذا لا يعني بأني انكر وجود بعض الثوابت، لكن ذلك لم يمنعني من ان اكون تجريديا، وتعبيريا، وواقعيا. خلاصة القول: لم امنع نفسي من عمل ما يستهويني.
اذكر بأني كتبت في معرض التقديم لأحد معارضي في ليبيا عام 1996: «أنا واقعي لم يؤطرني الواقع بتفاصيله، وتعبيري تخلص من تشنجات التعبيرية وضجيجها الداخلي، وسريالي فقد الثقة بأحلام السوريالية». لهذا اعتقد بأني فنان لعدة صفات، واحدى صفاتي احساسي العميق بأني ممسوس بالشعر، وربما لهذا السبب ابني بعض اعمالي الفنية كما تبنى القصيدة.
* قضيت شطرا كبيرا من حياتك في شمال افريقيا، وتحديدا في ليبيا. كيف وجدت انعكاس البيئة الجديدة عليك، وعلى تجربتك الفنية؟!
ـ وفرت ليبيا لي امكانيات كبيرة لعل اولاها امكانية ان اكون كادرا علميا في احدى جامعاتها. وكفنان وفرت لي عزلة كنت بأمس الحاجة اليها، وكمناخ وبيئة وضعت ليبيا الكيانات البيئية كلها تحت عيني كما لو كانت تحت ميكروسكوب. وفي هذا المناخ انتجت مجموعة «ذاكرة العشب» التي وصفت بأنها بحث في النبات. في ليبيا زرت الصحراء بكثرة، خاصة منطقة غدامس، وهناك تجلت لي الحكمة الصينية التي تقول «كن بديهيا تلق بك البديهة».

* تجربة يحيى الشيخ الفنية جزء من تجارب الفنانين العراقيين، كيف تقيم الانجاز البصري العراقي الحديث.
ـ اتكأ الكثير من الفنانين العراقيين المعاصرين على موروث من سبقهم من الفنانين الرواد، ولا اعني بهذا الجانب الشكلي لهذا الموروث الحديث، وانما الجانب الفلسفي والفكري للفن العراقي. آخرون استفادوا من وجودهم في الخارج، واستطاعوا ان يعمقوا تجربتهم الشخصية. ومن خلال متابعتي لتلك التجارب اجد بأنهم حملوا اصالتهم معهم، وعبروا عنها بأشكال مختلفة.
* ماذا تقصد بالأصالة؟
ـ اعني بها عدم السقوط في الشائع من التجارب المتداولة، وحمل التقاليد التي آمن بها الفنان، سواء كانت موروثة أو من ابتداعه الخاص، ولكنها لا بد ان تكون مؤطرة بالصدق، وبكل ما يربط هذا الفنان ـ الانسان بوعيه وتاريخه وجذوره. وهنا لا بد من التنبيه الى ان من السذاجة القول بأن الفنان نقي، فالفنان الاصيل باعتقادي هو الفنان الذي يعلن عن ينابيعه، الاصالة ليست ان تكون جديدا كل الجدة، الاصالة ان تكتشف لغة جديدة تجسد بها الاصول السابقة. التقوقع في الحضارة التي تعيشها فيه شيء من الشوفينية.
* وماذا عن التجارب اللافتة في الفن التشكيلي العراقي والعربي؟
ـ هناك تجارب استندت الى مواد لم يتعرف عليها الفن العراقي المعاصر، هذه المواد فجرت طاقات الكثير من الفنانين، لكن بعضهم سرقته المواد الجديدة، والبعض الآخر استطاع ان يوازن، لكن التجارب الجديدة بشكل عام مشرفة، وهي بعيدة عن شراك السوق الرأسمالية.
واذا توسعنا عربيا، فإننا نرى بأن الفن العربي ظل رهينة للوضع الاجتماعي والسياسي في المنطقة. هذا الوضع عرقل وطمس مواهب، وغير مصائر فنانين وحجب امكانيات، وعطل طاقات كبيرة، ولا شك بأن الدور الاكبر يعود لكثرة التناقضات ولاسلوب حكم الدكتاتوريات الجائرة.
* كيف تنظر الى تأثير العمل الفني في الانسان في العالم العربي، وايضا الاوروبي؟
ـ الانسان العربي مضطهد ومسلوب الحرية، ولا يكاد يجد لقمة العيش، مثل هذا الانسان لا يمكن ان تتوفر له الروح النقية لكي يستقبل العمل الفني، وان توفرت له الفرصة لمشاهدة اعمال فنية. العمل الفني يحتاج للاسترخاء. المواطن الاوروبي تأسس حضاريا وثقافيا، واشاع الفن في الحياة العامة، وهو بالتالي يستقبل العمل الفني بشكل سلس، ولا يجد ما يعيقه سوى قدرة الشراء.
* وما هو البديل؟
ـ البديل هو وجود العدالة الاجتماعية، ولا انادي بغير هذا لتفجير الطاقات الانسانية المبدعة، فليس معقولا ان نولد ونموت تحت المقصلة!