حين تفاجأت بغداد بأول باخرة سنة 1836

حين تفاجأت بغداد بأول باخرة سنة 1836

علي أبو الطحين
شهد عصر يوم الجمعة، الثلاثين من أيلول سنة 1836، حدثاً مشهوداً في بغداد، خرج آلاف المواطنيين على ضفتي نهر دجلة وفوق سطوح البيوت لمشاهدة ذلك الحدث الفريد، بوصول تلك الباخرة الكبيرة "الفرات" تمخر صاعدة في وسط النهر قادمة من البصرة بالقوة البخارية، لم يكن المشهد مألوفا ولم يرَ البغداديون باخرة بهذا الحجم في وسط مدينتهم.

أطلقت الباخرة أحدى عشر اطلاقة من مدفعها تحية عند دخول المدينة، وتم فتح الجسر والسماح للباخرة بالمرور حتى وصلت مقابل السراي الحكومي، حيث دوى مدفعها بعدة اطلاقات تحية الى والي بغداد، ومن ثم استدارات عائدة لتقطع الجسر مرة أخرى لتقف أمام القنصلية البريطانية التي تقع في رأس القرية حينها. وعند حلول الظلام بدأت بإطلاق الألعاب النارية الملونة في سماء بغداد.
لم تكن الباخرة "الفرات" باخرة نهرية عادية بكل المقاييس في ذلك الوقت، فهي ليست كبيرة فقط، ولها دواليب تدار بالقوة البخارية، وأنما كانت ثالث باخرة في العالم تصنع من الحديد، وهذا هو ما أثار سكان مدينة بغداد وتلهفهم لرؤية هذا الأمر الغريب، كيف يمكن أن يطفو الحديد على الماء. " لا تخدعوا بما رأيتم، هذا من تلبيس الشيطان وليس من عمل الأنسان،" هكذا كان رد فعل رجال الدين في خطبهم في مساجد بغداد.
ولم يكن صعود أول باخرة في نهر دجلة إلى بغداد يسيراً في تلك الأيام، فلم تكن هناك مواقع أو مخازن على مجرى النهر مجهزة بالوقود سواء من الفحم أو الأخشاب اللازمة لمراجل الباخرة. وفشلت الترتيبات باستعمال المراكب النهرية لنقل الفحم الى الباخرة حين أوقفت العشائر العربية في القرنة هذه المراكب ومنعتهم من الصعود. فأضطر الى استخدام ما وجد من أخشاب طرية واعشاب على الساحل لأدامة مراجل الباخرة، هذا إضافة إلا أن الرحلة كانت في نهاية شهر أيلول، حيث يشهد النهر انخفاضا كبيرا في منسوب المياه، فلم تستطع الباخرة تجاوز بعض المواقع الضحلة بسهولة بين الكوت وبغداد، فبينما أستغرقت الرحلة من القرنة الى الكوت في خمسة أيام، كانت بين الكوت وبغداد في عشرة أيام.
مكثت الباخرة خمسة أيام في بغداد، وسمح قبطان الباخرة لمئات من أهالي بغداد ولمدة يومين بالصعود على الباخرة والتجول فيها ورؤية اجهزتها ومحتوياتها، كما خصص وقت معين لزيارة النساء من علية القوم. كذلك كان قد طلب جمع من النسوة المسيحيات في بغداد من زوجة المقيم البريطاني، الرائد روبرت تيلر، عن رغبتهن بزيارة الباخرة، وزوجة المقيم البريطاني، روزا، هي سيدة أرمنية تزوجها في مدينة البصرة حين كان قنصلا هناك.

يقول أحد الضابط البريطانيين المشاركين في حملة الفرات ويدعى أدورد شارليوود في مذكراته: نظمت زوجة الرائد روبرت تيلر حضور مجموعة من خمسين سيدة أرمنية بزيارة خاصة الى الباخرة. وعند نزول السيدات الى كابينة الباخرة في الأسفل، أخبرت السيدة تيلر الضباط أن السيدات طبقاً للأعراف الاجتماعية في بلدكم بريطانيا، بإختلاط الرجال والنساء دون حجاب، قررن رفع النقاب عن وجهوهن اذا تم إخراج جميع الرجال البغداديين المتواجدين على سطح الباخرة. وبعد أن تم ذلك، وبإيعاز من السيدة تيلر، رفعن الجميع النقاب ورأينا وجوه نسائية جميلة وشابة لم نرها منذ أن غادرنا بريطانيا، وسط ضحكات وقهقهة الجميع. ثم قدمت المرطبات والمأكولات في جو من البهجة والمرح، حتى تعكر صفو الحفلة عند وصول معاون والي بغداد لزيارة الباخرة بشكل مفاجئ. كان والي بغداد علي باشا اللاز في زيارة الى كردستان، ولم يكن معاون الوالي عسكر بيك في الحقيقة سعيداً بوصول الباخرة الى بغداد ولا فى أطلاق المدفعية للتحية، ولم يكن حتى يرغب في زيارة الباخرة. تم حصر النسوة على عجل في أحد غرف القيادة في مقدمة الباخرة. وكانت المشكلة التالية عندما أراد عسكر بيك رؤية اطلاق المدفع، فالغرفة التي أختبأت فيها النساء تقع تحت المدفع مباشرة، فأرسل الى النسوة من يخبرهم بالهدوء وعدم الإكتراث لصوت المدفع فوقهم، لكن مع هذا تعالت أصوات الهرج والمرج بينهم، إلا أنها لم تصل الى اسماع معاون الباشا على سطح الباخرة. يقول شارليوود لقد أفسدت علينا زيارة معاون الوالي تلك الحفلة، فبعدها تغير مزاج النساء ولم يدم بقائهن طويلاً حيث خرجن بتخفي عبر القفف الى الشاطئ.

ما هي قصة الباخرتان دجلة والفرات
أصدر ملك بريطانيا ويليم الرابع بعد موافقة البرلمان البريطاني مرسوماً ملكياً في سنة 1834 بتجهيز حملة إستكشافية لبيان صلاحية نهر الفرات للملاحة من شمال سوريا وحتى خليج البصرة، ليكون أقصر الطرق بين أوربا والهند. جهزت الحملة ببناء باخرتان "دجلة" و "الفرات" بقيادة الرائد جيسني وبطاقم 53 شخصاً من الضباط والملاحين من البحرية البريطانية والعديد من المساعدين. يقول الطبيب الجراح ويليم أينزورث، أحد المشاركين في الحملة، " أن حملة الفرات تشمخ دون سابقة في تاريخ الحملات الاستكشافية، في الإبداع، في الضخامة، في قياس الواجب الموكل اليها، في الصعوبات التي واجهتها، وفي أهمية النتائج التي حققتها."
صنعت الباخرتان دجلة والفرات في مرفئ بيركنهيد قرب ليفربول في إنكلترا، وكانت الباخرتان هي ثالث ورابع باخرة بخارية تصنع من الحديد في العالم. صممت الباخرتان بغطاس واطئ ليناسب عمق نهر الفرات الضحل في بعض المناطق، خصوصاً في مسطحات الأهوار في جنوب العراق. فلم يتجاوز غطاس الباخرة الأكبر الفرات عن الثلاثة أقدام، وأما الباخرة الصغرى دجلة فكان غطاسها لا يتجاوز 22 بوصة. تم نقل هيكل الباخرتان والمراجل البخارية مجزأة الى مدينة الأسكندرونة على الساحل السوري، ومن هناك الى مدينة مسكنة في أعالي الفرات. بعد انجاز تركيب الباخرتين الذي استغرق حوالي عام كامل، أنطلقت الحملة في نهر الفرات في آيار سنة 1836.
قبل وصول الباخرتان دجلة والفرات الى مدينة القائم، في يوم السبت المصادف 21 آيار 1836، وفي الساعة الواحدة بعد الظهر، تلبدت السماء بغيوم سوداء داكنة وهبت ريح عاتية محملة بالرمال فلف الظلام المشهد كظلام الليل المعتم وتساقطت زخات من مطر ثقيل، فتلاطمت مياه النهر وترنحت الباخرتان على عصف الرياح. سارع الملاحون الى تثبيت المراسي على ساحل النهر، فنجحت الباخرة الكبيرة الفرات في الثبات، ولم يفلح الملاحون في الباخرة الصغيرة دجلة من أرسائها فأنقلبت وغرقت تحت هول العاصفة، تمكن البعض من ركابها السبعة والثلاثون من النجاة وغرق عشرون منهم من الضباط والملاحين وبضمنهم خمسة من المساعدين العرب. وبعد خمسة وعشرين دقيقة أنتهت العاصفة، وهدأت الرياح وأنكشفت السماء الصافية، كأن لم يكن شئ قد حدث.
تمكنت الباخرة الفرات من إكمال الرحلة نحو البصرة مع بعض الصعوبات في مناطق الأهوار، ووصلت الى شط العرب وأنحدرت ببطء لترسو قرب مدخل نهر العشار في عصر يوم الأحد 19 حزيران 1836.
ورغم فشل الحملة في امكانية استخدام نهر الفرات كطريق سريع الى الهند، حاول القائد جيسني، اثبات امكانية استخدام الباخرة في نقل البريد من الهند الى إنكلترا عن طريق بغداد، فقام برحلته الى بغداد وحمل منها البريد الى البصرة، ثم عاد بالبريد القادم من الهند عن طريق نهر الفرات ونقل براً الى الشام.
أستمرت الباخرة الفرات بالعمل للبحرية البريطانية في الهند حتى تقاعدت وحولت الى حديد خردة في سنة 1847.