قراءة جديدة في أدب السيد القصصي

قراءة جديدة في أدب السيد القصصي

د.شجاع العاني
قررت وانا اعيد قراءة آثار السيد القصصية ان انحي جانباً ماقيل بصدد هذه الأثار وما اثير حولها من احكام لم تنج من آثار الايديولوجية والعاطفة الوطنية لكي اضع هذه الاعمال في مكانها الطبيعي من تطور الأدب القصصي في الادبين العربي والعراقي الحديثين. وبدا لي من الوهلة الأولى ان محمود أحمد السيد لم يكن نفسياً، مؤهلاً لكتابة القصة، وبخاصة الطويلة منها،

فالتشاؤم والتبرم من الاوضاع الاجتماعية، والانفعال السريع بسبب هذه الاوضاع كان واضحاً في مقدماته واحاديثه. على ان السيد، والحق يقال، كان متواضعاً في تقديم قصصه للقراءة، وغالباً ماوصفها بالصور والاحاديث، كما وضع توصيفاً لروايته المعروفة “جلال خالد” متواضعاً في رواية موجزة، مما دفع كلاً من انور شاؤول ثم الطاهر وغيرهما من النقاد ان يستنبطوا حقيقة عدم اهلية السيد الفنية والنفسية لكتابة عمل طويل.

ولا اراني اكشف عن مستور حين اقول ان الدافع الأول وراء الكتابة القصصية لدى جيل سليمان فيضي والسيد، لم يكن فنياً جمالياً، بل كان وطنياً، ويتضح هذا الامر في ماكتبه استاذ السيد وزميله حسين الرحال في تقديمه لعمله القصصي الأول “في سبيل الزواج” حين ناشد القراء “ان يشدّوا من ازر الكاتب ويتغاظوا عن الجانب الفني “ولا يلتفتون الى اسلوب الرواية ووضعها ونسبتها الى الروايات الراقية.. بل الى الغاية التي وضعت من اجلها. ويبدو ان المفكر والمناضل الماركسي الرائد كان حريصاً على الخطوة التأسيسية لادب عراقي قصصي حديث متأثراً بالاداب العالمية من جهة، وبما كان يصدر عن مصر وسوريا من اعمال قصصية رائدة، منتظراً-اي الرحال-ان تعقب الخطوة التاسيسية خطوات اخرى على طريق تحديث هذا الفن. ولايبدو على القراء انهم سمعوا نصيحة الرحال، فقد اشار السيد نفسه الى النفور الذي قوبلت به روايته الأولى قائلاً “ولم الفِ رجلاً يشير على بشيء سوى الكف عنه وتركه بتاتاً”.
يبدو ان قراءات السيد الأولى في الأدب القصصي، كانت قراءات بسيطة وساذجة، وانه لم يقرأ في الحقبة الأولى من حياته الفنية، اي عمل روائي وقصصي عالمي شهير، فروايته “في سبيل الزواج” جاءت على غرار ادب الرومانس الذي عرفته اوربا في عصور الاقطاع، هذا النثر الخيالي الذي يلبي الرغبة الشعبية الى الخيال الخارق والذي كان وسيلة المتعلمين والقراء-سيما النساء-لقضاء الليل، وقد التقت هذه النزعة الخيالية التي توفر عليها نثر “الرومانس” مع بعض حكايات السمر العربية القديمة، الحافلة هي أيضاً بالنزوع الى الخيال والمعبرة في حبكتها عن الرغبة اكثر من تعبيرها عن الواقع. ولم تكن القصتان “مصير الضعفاء” و “النكبات 1922” باحسن من سابقتها فنياً، وقد حفلت قصص الكاتب في هذه المرحلة بالاغلاط اللغوية والنحوية والاملائية، وكان اسلوبه متعثراً. كانت الخطوة الرائدة على طريق الفن القصصي، التي خطاها السيد هي روايته (جلال خالد) التي اصدرها الكاتب عام 1928 وهي تستمد اهميتها من كونها رواية واقعية، وربما كان بطلها هو الكاتب نفسه الذي سافر الى الهند واقام فيها، او زميله ومعلمه الذي ترك اثراً كبيراً في فكرة السياسي والاجتماعي (حسين الرحال) وربما اصاب حنا بطاطو كبد الحقيقة حين قال ان بطلها مزيج من محمود السيد نفسه ومن الرحال، ميّز مايعود الى المؤلف الملامح المهتزة والرومانسية التي عرف بها السيد. وتبدو اهمية الرواية الفنية، اذا ما قورنت برواية اخرى صدرت في العام نفسه، وهي تشترك مع جلال خالد في كونها رواية مثاقفة، او ما طلق عليه ب”الرواية التعليمية” هي رواية، عجائب الزمان في صرح عروس البلدان، لآكوب جبرائيل المحامي، فهذه الرواية وان تحلت ببعض الشيء من السجع، إلا انها، لم تستطع ان تقترب من الفن القصصي الحديث، وظلت ترسف في اغلال النثر العربي القديم. ويبدو ان وعي السيد الفني قد تطور كثيراً في هذه الحقبة، وقد عكست مقدمته لروايته هذا التطور برغم ان الكثير من الخصائص الفنية التي وجدت في اعماله ومازالت تشوب روايته، وبشكل خاص اعتماده على تقنية البانوراما او الخلاصة، فهو يقدم لنا الاحداث في ملخصات تقريرية سريعة، كما هو الامر في قصة (الصعود الهائل) اذ يقول الراوي: “زفت نادين الساقطة الى برنار الشريف وبعد ثلاثة اشهر قتل والد برنار دون ان يعرف القاتل، وبعد اربعة اشهر اغتيل برنار دون ان يعرف من المغتال وبعد اشهر غدت البقية الباقية من تلك العائلة شذر مذر، وبعد سنة اصبحت نادين ربة القصور والدور وذات الاصحاب والاخدان، وابوها لورداً عظيماً شريفاً يشار اليه بالبنان” وانه لشيء كبير الدلالة على صعيد ماهو فني ان يذيل الراوي قصته بملاحظة تقول “حكى لي هذه الحكاية صديقي حسين بك الرحال، وقد تلقاها من مصدر وثيق في رحلته الى اوربا”. واذا كانت قصة “الصعود الهائل” المنشورة في “النكبات” تنتمي الى الواقعية النقدية، فان مفهوم القاص للفن القصصي مايزال عند حدوده الدنيا، فعبارته التي اعقبت المتن تشير الى انه يفهم الواقعية على انها نقل واستنساخ للواقع، كما ان لغة القاص في هذه المرحلة لغة تمت الى الموروت باكثر من صلة وتبتعد عن لغة القصة الحديثة. في “جلال خالد” يتطور مفهوم السيد للفن القصصي وللواقعية معاً فقد اشار في مقدمة الرواية قائلاً “ليس في هذه الصورة المختارة.. ماهو واقع من اوله الى اخره بهذا التسلسل المنطقي والاطراد الموجودين في حوادثها. وليس في هؤلاء الاشخاص الذين يظهرون.. من عاش بالاسم الذي اسميته به، وفي المحل الذي احللته فيه وصورة الحياة التي البسته ثيابها واستعرت له عناصرها واسبابها” وهكذا بدأ السيد مدركاً لطبيعة الفن القصصي على انه (تخييل) وان اعتمد على مرجعيات واقعية، وان الواقعية لاتعني مطابقة الواقع واستنساخه حرفياً، بل ان الواقع لايلبث ان يتغير ما ان يوضع في اطار الشكل الفني. لقد وصف بطاطو الرواية بانها الأولى في العراق، وانها مبنية على وقائع حقيقية، وقد استخدمت-اي الرواية-لترسيخ معتقدات جديدة ولعبت دوراً في التشكيل الايديولوجي للشباب العراقي. ويبدو ان حسين الرحال، كان يدرك، وهو يدفع السيد في طريق القص، ان السرد وسيلة فنية صالحة جداً لنقل الافكار الجديدة التي كان يود نشرها بين الاجيال الجديدة، ولذا لم يكن يبالي كثيراً بما هو رفيع فنياً بقدر ما يهمه الفكرة التي ينهض بها القص، ويوصلها الى جمهور القراء.
وصف محمود السيد نفسه بانه ليس اديباً ولا فناناً محترفاً، بل محب للادب والفن اللذين رأى فيهما رمزاً للجمال. ويبدو ان الكاتب لم يكن صبوراً بما يكفي لكتابة رواية فنية مطولة ومتكاملة برغم ما حققه من تطور فني، بدليل ان الرواية المختصرة هذه، اعتمدت في جزئها الثاني-على ايجازها-على اسلوب الرسائل.. جلال خالد فتى وطني قومي متعصب الى حد ما، يسافر الى الهند ويلتقي بفتاة يهودية في الباخرة، ويحرك في هذا اللقاء افكاره ومشاعره معاً. يقيم في الهند ويلتقي بالشيوعي (سوامي) الذي يبدد الكثير من افكاره القومية المتعصبة ويطلعه على الفكر الماركسي، فكر الطبقة العاملة، ويفهم من ذلك ان هناك ما هو اوسع من القومية، وان تحرر العمال كفيل بتحرير المرأة. ومن المعروف ان تحرير المرأة هو الموضوع الذي اتخذته روايات المثاقفة التعليمية محوراً لها، وفضلاً عن هذا وجد جلال خالد في هذا الفكر مايحرر جموع الفلاحين في الريف من النير الذي يكبل اعناقهم. لكن القارئ لهذه الرواية لايجد فيها ما قيل سابقاً من انها اول رواية تحليلية فنية في العراق، بل هي في رأينا رواية مثاقفة وتنشئة فكرية وان تجاوزت في فنيتها مثيلاتها من الروايات العربية التلقينية مثل (علم الدين) لعلي مبارك، وتخليص الابريز في علوم باريز للشيخ رفاعة الطهطاوي وحديث عيسى بن هشام للمويلحي، والرواية الايقاظية لسليمان فيضي، وعجائب الزمان لاكوب ميخائيل.
في مجموعته القصصية (في ساع من الزمن 1935) نقف على تطور واضح في ادوات السيد القصصية كما نعثر على قصة يتجاوز فيها واقعيته النقدية الى واقعية جديدة اطلق عليها فيما بعد (الواقعية الحديثة). تلك هي قصة (بداي الفايز) التي يمكن عدها اول قصة ناضجة فنياً، استطاع السيد من خلالها ان يضع القصة العراقية على طريق الحداثة. ويتبدى التطور في قدرة القاص على تحليل نفسية الشخص الرئيسة (بداي) الذي يستفزه ضرب رئيسه له، واشارته الى ثأره لدى (جسام) الذي قتل اخاه (عباس) وتوانى هو عن الاخذ بثأره ويدفع عامل الكبرياء لدى بداي الى عبور النهر في اثناء الفيضان والتربص بخصمه لغرض قتله واستيفاء دم اخيه لكنه وهو يتربص (بجسام) يكتشف ان جساماً واسرته يستعدون لعبور النهر الى الجانب الآخر، بعد ان داهمهم خطر الفيضان، ويحمل جسام وزوجه اولادهما واغراضهما بصعوبة ليعبرا النهر، ويراهما بداي فيستل خنجره من حزامه استعداداً للثأر. وهنا يحدث التحول الذي ينكره الفن القصصي ما لم يكن القاص قادراً على اسباغ شرعية فنية عليه، وهو تحول يشبه الى حد كبير التحول في قصة موباسان (في ضوء القمر) الذي عده النقاد تحولاً مسوغاً، فبداى ما ان يرى خصمه يحمل طفليه على كتفيه حتى تتغلب العاطفة الانسانية عليه لتغلب عوامل الكبرياء والثأر، عندئذ يعيد خنجره الى حزامه، وتقدم من خصمه ليساعده في حمل اطفاله وعبور النهر الى الضفة الاخرى، مؤجلاً ثأره الى لحظة اخرى يكون فيها جسام اقدر على المواجهة، بعيداً عن اطفاله وزوجته المنكوبين بالفيضان، وما ان ينتهي أمر الفيضان حتى يتقدم جسام وعشيرته يطلب الصفح والصلح مقدمين اخت جسام زوجاً لبداي، وتتم المصاهرة، ويتم الصلح! وهكذا ففي حين تكتمل ادوات القاص الفنية في رسم الاجواء وتحليل الشخصيات، ينجلي وعيه للواقعية على انها تغليب لما هو انساني ولما هو خير على قوى الشر والظلام في النفس الانسانية، وهو مبدأ اساس ميز الواقعية الاشتراكية عما قبلها من الواقعيات. وايا كان ضعف قصص السيد فنياً، وأيا كانت الثغرات فيها، فأن لمحمود السيد فضل الريادة في هذا الفن في العراق، وفضل التنبيه على دوره واهميته في الاصلاح ونشر الوعي بين القراء. وهي لعمري مهمة لانستطيع ان ندرك مدى صعوبتها إلا اذا وضعنا انفسنا في زمان ومكان القاص وإلا اذا وضعنا قصصه في اطارها التأريخي.
في بداية عام 1923، وضعت جماعة حسين الرحال تقريراً مفصلاً عن الوضع في العراق، شرحت فيه الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والطبيعية، كما اكدت فيه على ظروف الاستغلال الاستعماري. وقد رفع هذا التقرير الى “لينين”، بعد ان تمت ترجمته الى اللغة الفرنسية. وقد بذلت المساعي من أجل ايصاله. وقد سافر فعلاً احد افراد الجماعة الى طهران لهذا الغرض، وانجز مهمته بالشكل اللازم. وكانت الجماعة على صلة بالحزب الوطني عن طريق جعفر ابو التمن. وكان حسين الرحال يمد الاخير بالمعلومات عن الاوضاع الدولية التي كان يحصل عليها من مطالعته الصحف الاجنبية، (لاسيما مايتعلق منها بالاتحاد السوفياتي). وكان هذا الامداد بالمعلومات يتم بناء على طلب جعفر ابو التمن نفسه، وكثيراً ماكان هذا الاخير يعبر عن اعجابه بالثورة السوفياتية بعد سماعه لهذه المعلومات.
وعندما طرحت مسألة من يتولى الحكم في العراق، وقف حسين الرحال الى جانب تاييد ترشيح النقيب، على اعتبار ان انتخابه يمثل مرحلة للعبور نحو النظام الجمهوري.
بعدها انصرف حسين الرحال وجماعته الى النشاط الصحفي فأصدروا مجلة “الصحيفة” في كانون الثاني 1924 وقد عنيت المجلة بوجه خاص، بالقضايا الاجتماعية كالسفور والحجاب كما عنيت بالترويج للافكار الماركسية.