في استرجاع محمود أحمد السيد: على طريق الهند

في استرجاع محمود أحمد السيد: على طريق الهند

محمد خضير
قد نقف يوماً على رصيف الميناء، أو نجلس على سطيحة باخرة، في أول سفرة لنا، نتأمل ما تأمله بطل رواية محمود أحمد السيد، مساء يوم العام 1919، وهو مستلقٍ على كرسي طويل ينظر إلى الماء الجاري في شط العرب ويفكر في مصيره: “غداً إذ تخوض الباخرة لجج البحر الزاخر، فيكتنفها الموج المتلاطم، وفي أجوافه رُسل الموت.

وكان طبيعياً تفكيره في ذلك، وهو غير ذي عهدٍ بالبحر، لم يركبه من قبل. كان يظن الخطر أمامه محققاً، لكنه كان به هازئاً، راضياً بالسفر رِضى تشوبه اللذة، لذة الحرية، فهو سيد نفسه، يمتلك زمام إرادته، ويخرج عن بلدته بغداد الذاهلة السكرى، تحتلّها الجيوش” رواية (جلال خالد) مطبعة دار السلام/ بغداد 1928.

أما المحيطون بجلال خالد فخليطٌ من التجار العرب والمسافرين الهنود وامرأة بغدادية شاحبة الوجه، قبل أن ترتقي الباخرة الراسية أسرةٌ يهودية مكوّنة من أب كهل وابنته العذراء سارة وقريبٍ لها طامع في الزواج منها. ستعصف السفرة إلى بومبي الهندية بهذه التشكيلة الغريبة، إذ تستقرّ المرأة البغدادية في حيّ للبغاء، ويتلاشى اعجاب البطل بالفتاة اليهودية، ليحلّ بدلَه ميلٌ شديد لأفكار صحافيّ ثوريّ هنديّ، وعند عودته إلى بغداد تكون ثورة العشرين قد خمدت، وانتهى المقام بسارة في مبغى بعد فشل زواجها من قريبها، فيسقط جلال طريح الفراش، لا تسلّيه غير رسائل ترِدُهُ من صاحبه الصحافي الهندي، ومن صديق آخر يقيم خارج بغداد.
منذئذٍ وتلك السفرة الهندية (التي دامت عاماً وبعض شهر من الزمن) تؤرّخ لمئوية التحوّلات السردية، الموزعة بين أمكنة مستقرّة وبلدانٍ حاضنة لأجيالٍ مهاجرة فرّقها المصير التعس كما فرّقت سلَفَها جلال خالد. وعلى طريق الهند نفسه ستحملني باخرة (جبل علي) إلى دبي العام 2004، وتمخر بي عُباب الخليج في أثر باخرة البريد (باجورا) التي حملَت بطلَ السيّد في عشرينيات القرن الماضي.
وزّع السيّد حوادث روايته على قسمين: حقائق السفرة، والرسائل الساندة لتلك الحقائق. وكان هذا البناء المتوازن فتحاً روائياً سانداً للتجارب التالية التي اعتمدت على التقرير الصحفي والسيرة الذاتية. وكان مقدّراً لهذا البناء العتيق أن تزيحه جرافاتُ المئوية وقطائعُها لتقيم مكانه صروح عرافتِها وطراز حداثتِها.
عندما سافرتُ إلى دبي بعد زلزال التغيير 2003، كانت دعائم السرد تهتزّ في خاطري كدُوار بحرِ المسافر العشريني من قرن الاحتلال والثورة، أؤمّلُ النفس بلقاء الخليطِ المرتحل على باخرة البريد الهندية، وفي طريقي التقيتُ بمسافرين وحاورتُهم، وأُعجبت بوجوهٍ شاحبة فرّقها ميناء (راشد) في نهاية الرحلة القصيرة. لكن استعادة تجربة السيّد بحذافيرها كان ينقصه دُوار الفكرة الأصلية الذي طرحَ جلال خالد في فراش المرض. كان ذلك المسافر الخالد أوّلَ مريضٍ عراقي يصرعه مرضُ الأفكار الثورية الساري في الهواء قبل تدوينه في رواية أو رسالة. وكان وقوع ذلك المصير أمراً محتوماً لكلّ ذي خيالٍ متّقد وحماسةٍ تنويرية وعاطفة لا تعرف الحدود. ولا عجب أن تسوق مئويةُ السرد تلك النوازع أمامها وتحطم الأغلالَ والأسوار النوعية لرواية القرن العشرين العراقية.
كان جلال خالد: “فتى أنوفاً ذا كبرياء، تلتهب شعلة الوطنية بين أحنائه. له آمال يحسبها غير متحققة. يعطف على الضعفاء والبائسين فلا يستطيع أن ينفعهم. فييأس ويتشاءم”. قد يظنّ المؤرخ الأدبي هذه الصفات الذاتية، والنزعة الإنسانية “غير المستقرة”، هي التي سيُنشِئ عليها فؤاد التكرلي أنموذجه الإنساني القلق، قبل أن يسوقه إحساسُه وثقافته إلى ما وراء ذلك الأنموذج البسيط وتجبره مرحلتُه على رسم ملامح بطلٍ وجوديّ “لا أخلاقي” يتسيّد رواياته. فالأنفة والكبرياء الممزوجة بعصبية وطنية وغيرةٍ قومية ظلّت صفات متنحية وراء النماذج الانتقادية، تظهر كلما اشتدّ القلق واحتدمت المواقف الاجتماعية بالأبطال المفطورين على شعور الثورة على الجهل والظلم والطغيان في روايات ذي النون أيوب وعبد المجيد لطفي وغائب فرمان.
وكأولئك فإنّي يومَ سافرتُ على طريق السيد أوّل مرة، كان البحر واسعاً ولجة التغيير العاصفة قد جمعت آلاف الأرواح المسافرة في أعطافي. لم أكن مسافراً وحيداً، لكنّي امتلأتُ بيأس يفوق الشحنة الثورية الفطرية التي احتدمت بلقاء جلال خالد الصحافيَّ الهندي في بومبي وعصفت بكيانه. ومن الكتف المرتفعة لبدن الباخرة، أبصرتُ أرواحاً جديدة تلتمع في الظلام، منبثقةً من عمق اللّجة الساكنة. لم تستغرق رحلتي سوى أيام، لكن صدى رحلة جلال خالد كان يرنّ مثل نبضاتِ سونار الباخرة القادم من قعر المئوية. لم أكن عليلاً مثله، لكن اليأس المتلاطم في داخلي تحوّل إلى استبصار يتجاوز لحظتي المسافرة في الظلام.
من المدهش حقاً أن يمتدّ صراعُ الروح العراقية مع مرضها الثوري الذي خبَرَهُ السيّد أولاً في نصوصه إلى ما بعد وفاته في 10 كانون الأول 1937، فيحتدم في نصوص الجيل الثاني لأدباء الحداثة القصصية، ثم تنتقل العدوى إلى نصوص الجيل الثالث (الستيني)، وتعبر تلك الروحُ الطريقَ المهلِكة لحروب نهاية القرن العشرين، لتصل في آخر رمق. وهي تنتظر الآن على رصيف التعارضات والتوازيات في ميناء الدخول والخروج، موسومةً بعلامات المرض الأولى التي وطّنَها دخولُ الجيوش الإمبراطورية في الأعوام 41،14، 2003.