حلاوة اللغة المموسقة وطلاوة الأسلوب الشعري في (تقاسيم على الوتر السادس) لطالب غالي

حلاوة اللغة المموسقة وطلاوة الأسلوب الشعري في (تقاسيم على الوتر السادس) لطالب غالي

عدنان حسين أحمد
صدر عن (دار المدى) في دمشق ديوان جديد للشاعر العراقي طالب غالي يحمل عنوان (تقاسيم على الوتر السادس). وقد سبق له أن أصدر ديوانه الأول (حكاية لطائر النورس) عن (مطبعة دار الأديب) ببغداد عام 1974. وكما يلاحظ القارئ الكريم أن هناك ست وثلاثين سنة تفصل بين الديوانين، الأمر الذي يكشف أن شاعرنا مُقِّلٌ في كتابة الشعر لأن حياته الإبداعية تتوزع بين الموسيقى وكتابة الشعر.

فالذين يعرفون طالب غالي من كثب يدركون أهمية ألحانه وموسيقاه الصرفة التي كرّس لها جزءاً كبيراً من حياته الممتدة من الوطن المُصادَر الى المنفى المُوحِش. فلا غرابة إذاً حينما ينحسر منجزه الشعري من حيث الكم لا النوع، فربَّ مجموعة شعرية مركزة مكثفة واحدة تعادل عشر مجموعات شعرية مُسطّحة لا تعرف الى العمق أو الرصانة الابداعية سبيلا. من هنا يمكننا القول بثقة كبيرة أن المنجز الشعري عند طالب غالي مرتبط على الدوام بالنوع الأصيل والجودة الفنية. فنصه الشعري، حقيقة، من نسيج وحده، ولا ينتمي الى نمط النصوص السائدة التي تضج بها الصحف والمجلات والمواقع الأدبية. يتضمن هذا الديوان ست وعشرين قصيدة كتبها الشاعر خلال العقدين الأخيرين عن موضوعات مهمة كانت تهّز أعماق الشاعر وتحرّضه على الكتابة الابداعية الخالصة التي يثبت بواسطتها ولاءه المطلق للشعر. دعونا نتوقف عند قصيدة (تقاسيم على الوتر السادس)، وهو العنوان الذي إنضوى تحته الديوان، لنكتشف حجم الغربة المكانية التي يعاني منها الشاعر حيث يقول في مطلع هذا النص القائم على بنية موسيقية مجردة: (أُصدقُكَ القولَ بأن المُدُنَ المنفى مُوحشةٌ خرساء). ثمة تضاد وتنافر شديد بين الشاعر المُقتلَع من جذوره وبين المكان الجديد الذي وفدَ إليه سواء بإرادته أو رغماً عنه. فهذه المدن ليست موحشة حسب، وإنما هي خرساء فعلاً تعاني من الاحتباس اللغوي، ولا تستجيب لكل المعطيات الفنية والأدبية التي يتوفر عليها الشاعر. فقصائده هي ليست وسيلة إتصال، وإنما هي وسيلة إنفصال بإمتياز تام وفقاً لردود فعل المنفى أو لاستجابة مدنه الصمّاء. فلا غرابة حينما يقول: (أرضٌ ليست أرضك لن تتعرّفَ على ملامحك / وسماء غير سمائك لن تفتح لك أبوابها / فأنّى ستوجّهُ أشرعتكَ وبحار الدنيا تغشاها الظلمةُ والأمواج؟). ثمة قطيعة واضحة يعانيها الشاعر في منفاه الجديد، وسوف تفضي به حتماً الى السقوط في محنة الإغتراب الروحي والنفسي والجسدي. أن منْ يتفحّص هذه القصيدة بعناية فائقة سيكتشف بيسر أن الشعر يتماهى بالموسيقى، وأن العكس صحيح. وإذا كانت الموسيقى، بوصفها أرقى الفنون، هي أنموذج لأعلى درجات التجريد، فإن طالب غالي يسعى في هذا النص تحديداً بأن يصل باللغة الشعرية الى فضاء التجريد الموسيقي ويتماهى فيه. فالأغاني الجنوبية والألحان الريفية العراقية لا تستطيع أن تخترق هذا الجدار الأصم لتصل الى أذن الآخر المسحور بالجاز والروك أند رول وما الى ذلك من أنماط الموسيقى المعدنية.
تأتي القصيدة الثانية (بصرياثا) وكأنها ردُّ على الغربة المكانية في القصيدة الأولى. فها هي روح الشاعر تتجسد في تفاصيل النص الذي تفوح منه روائح (القدّاح والحِنّاء والكرم المحلّى)، فيما يتأثث البيت البصْري (من خفقة الأرواح ومن نبض القلوب ومن الأغاريد الشجية). لا شك في قارئ هذا النص، أو معظم النصوص الأخرى يشعر بالنَفَس الرومانسي الرقيق التي تبنّاه الشاعر كتقنية مُستحبةٍ له تذكرنا بالأساليب التي كان يستعملها الشعراء الرومانسيون الإنكليز الذين يستوحون مفردات لغتهم الشعرية من الطبيعة الساحرة الخلابة. وهذا ما يفعله بالضبط طالب غالي الشاعر الرومانسي بإمتياز كبير، ولا أظن أن قارئاً ما يمكن أن تفوته هذه الرقة العالية التي جسّدها في قصيدة (بصرياثا) أو في غيرها من قصائد هذا الديوان المتفرّد بلغة الشعرية المتوهجة التي نغبطه عليها.
دبّجَ الشاعر طالب غالي بعض قصائده لإبنته (دُنى) وشقيقه الراحل (مرتضى) وثنية روحه (سلمى). وقد تميزت هذه القصائد بخصوصيتها لأنها تحمل قدراً كبيراً من الدفء والحميمية. ولعل قصيدة (طفلة الأمس) التي كتبها تحديداً عن (دُنى) مخاطباً إياها بنبرة شعرية عالية تكشف عن طبيعة حبه الكبير خصوصاً وأنها ورثت عنه هاجس الشعر وقلق الكتابة الأدبية. أما شقيقه مرتضى فيبدو من سياق النص أنه قد سبقه في الرحيل الى المنافي بسبب الأراجيف، أي الأخبار الكاذبة التي إضطرته الى العيش في غربة ممضة أفضت الى رحيله الأبدي من هذه الدنيا الفانية. يقول طالب غالي في وصف هذه الغربة القسرية: (سكنتَ بعيداً بأرضٍ تموّج حُزنكَ فيها / وإستحال غيوماً تشفُّ / فأطلقت بالشجو صوتك تدعو العراق / وغنيت فيض الحنين الممضّ الى وطنٍ أبعدتكَ الأراجيفُ عنه / وذبت إحتراقاً / ولم يُدرك الآخرون سرّ احتراقك / ومعنى إصطبارك دهراً على جمر منفى). أما القصائد التي كتبها عن زوجته سلمى وأهداها إليها فهي أكثر من قصيدة في هذا الديوان حتى وإن جاء بعضها خلواً من الإهداء. ففي قصيدة (إعلان متأخر عن حالة عِشق) يصف الشاعر طالب غالي زوجته بـ (سيّدة الفرح الأبهى)، فهي الحضن الدافئ الذي يلوذ به من قسوة المنفى ومرارته التي لا يعرف كنهها الا المغترب الذي تقطعت به السبل. لنمعن النظر في الطريقة التي يصف بها درّته المكنونة: (يا سيّدة الفرح الأبهى / ما أروعكِ امرأةً تتآلفُ حتى الأضدادُ بحضرتها / ويجيء لحجرتها البحر خجولاً ويُحاورُها / ما أبعدَ عمق الأسرارِ بعينيكِ.. / وأنا.. / أتكاثفُ حتى أصبحَ قطرةَ ماءٍ / في قاعٍ مكشوف).. في قصيدة (عندما يُزهِر الحنين) المهداة أيضاً الى زوجته سلمى يصل التماهي بها الى ذروته. فهي هدفه وغايته الأولى والأخيرة، ولا يروم شيئاً طالما أنها تدور فلَكه. (أودعتُ كلّ سنين العُمرِ من لهفٍ / في مقلتيكِ وأغفى بعدها العُمُرُ). إن حرارة الصدق وزخم المحبة تشع من معظم قصائد هذا الديوان الذي يعتمد كثيراً على تقنية البوح، غير أن هذه القصيدة الملتاعة بالذات هي أنموذج للمحبة الصادقة المتفجّرة التي تعرّي صاحبها من دون لفٍّ ودوران حيث يقول: (هذي حياتي وكان شبهَ مُجدبةٍ... / حتى أتيتِ فروّى أرضَها المطرُ) ولك أيها القارئ الكريم أن تتخيّل شكل الأرض المجدبة اليباب التي يسقيها مطر مدرار؟ أما القصيدة الثالثة التي أخذت عنواناً صريحاً ومباشراً لا لبِس فيه فهي قصيدة (إيّاك أحب) المجرّدة من الاهداء، لكنها لا تخرج عن مدار (سيدة الفرح الأبهى) التي أولجها الشاعر هذه المرة في مناخ شعري يتراسل، ويتلاقح، وربما يتناص كثيراً مع واحدة من أشهر وأجمل قصائد الشاعر الكبير نزار قباني وهي قصيدة (نهر الأحزان) المعروفة التي يقول الشاعر في مطلعها: (عيناكِ كنهرَي أحزاني / نهرَي موسيقى حملاني) أما شاعرنا طالب غالي فيستهل نصه بالأبيات التالية التي تحيل الى مناخ قبانيّ متشابه من الناحية الإيقاعية ومختلف من حيث الثيمة والبنية الداخلية العميقة للنص الشعري الذي يأتي منسجماً مع سياق القصائد (المُعارضة) التي عرفها أدبنا العربي القديم والحديث في آنٍ معا. يقول طالب غالي: (ماذا يبكيكِ؟ أجيبيني / يا حُلم القلبِ المفتونِ / يا واهبتي أجملَ حبٍ في عالمِ حقدٍ مجنونِ). ثم يستمر الشاعر في محاورته لمحبوبته التي داخلَ الشكُ قلبها، أو هكذا تلمّس الطريق الى بعض مقاصدها الخفيّة بسبب بكائها المتواصل الذي لا يجد أي مبرر منطقي له طالما أنها تعرف جيداً (كشوفات قلبه) وتفهم عينيه اللتين لم تتعلقا بامرأة سواها الى أن يقول: (هل عندكِ شكٌ في حُبي / فلديكِ كشوفاتُ سنيني / إيّاكِ أحبُ.. وما أحدٌ / يقدرُ عن حُبكِ يلهيني).
ثمة قصائد أُخَرْ بعضها مُهدىً الى أولاده أو أصدقائه من أهل البصرة على وجه التحديد وكلها يستحق دراسات نقدية منهجية معمقة غير أن القصيدة الأخيرة في هذا الديوان والتي إنضوت تحت عنوان (لقطات وحوار مع الشهيد كامل شياع) هي من القصائد المؤثرة جداً بسبب توفرها على مناخ درامي مفجع يتناسب مع حجم الخسارة التي مُنيَ بها الأدباء والمثقفون العراقيون على وجه التحديد، وكأن يد الإرهاب الأسود كانت تتعمد في أن تطعن الوسط الثقافي العراقي في الصميم. لم يعتد شاعرنا طالب غالي على كتابة قصائد الندب والرثاء، لكنه، في هذه القصيدة، وجد نفسه مضطراً لمواجهة المحنة وكتابة النص الذي يرتقي لحجم الكارثة التي ألمّت بعشاق الكلمة في العراق. يتساءل شاعرنا طالب غالي عن السبب الذي دفع كامل شياع للعودة الى (محراب الوطن الموجوع): (هل جئت تعيد الخضرة للأغصان؟ / والطيرَ الى وُكناته؟ / وتجدّد للعيد أغانيه؟ / أو تبدع للحُب شموساً ومحطات أمان؟). وعلى الرغم من التحذيرات الكثيرة التي أطلقها الشاعر في متن النص: (كُن يقظاً / كل الطُرُقات مُلغمة بكواتمِ صوت / كلِ الطلقات مزينةٌ بجدائلِ موت / والأجواءُ تعّج بغربان القتلِ / وأربابِ الجهل)، إلا أن الشهيد كامل شياع كان يمشي، على ما يبدو، الى حتفه بقدميه حيث أردوه قتيلاً في الحال!
وفي الختام لابد من الاشارة الى أن هذا الديوان يزخر بالعديد من الموضوعات والثيمات الشعرية التي تستحق دراسات أخرى مفصلة مثل المكان أو اللغة الشعرية المجنّحة أو الايقاع الداخلي والخارجي أو صياغة الصورة الشعرية وما الى ذلك من معطيات فنية وجمالية لا تخفى على القارئ الحصيف.