تــودوروف.. رحيل المواطن العالمي

تــودوروف.. رحيل المواطن العالمي

علي حسين
عام 1963 وصل إلى باريس بعد أن حصل على منحة دراسية لمدة عام واحد لدراسة الأدب الكلاسيكي، كان في الرابعة والعشرين، والده أستاذ جامعي، وأمه تعمل أمينة للمكتبة العامة في صوفيا ومنها ورث حالة الشغف في البحث بين رفوف المكتبات، الا ان هذ العام الباريسي امتد لأربعة وخمسين عاما ترك وراءه بلاده بلغاريا التي كانت تعيش في ظلال أفكار ماركس ولينين، ليفضل عليها التعددية الفكرية التي كانت تعيشها فرنسا آنذاك.

تزفيتان تودوروف الذي رحل عن عالمنا عن 77 عاما قضى الشطر الاكبر منها في متابعة مصائر الناس ودراسة أحوالهم، اختار أن يعيش بالقرب من سارتر و فوكو، وأن لايغادر ضجيج باريس الذي كان يعج انذاك بالمدارس الفكرية التي تتصارع بين الوجودية، والبنيوية وتراث ماركس الشاب، وثورة سيمون دي بوفوار لتحرير المرأة، وأفكار هربرت ماركيوز التي وجدت في طلبة الجامعات أرضاً خصبة لها:" من بين المدن الكبرى، التي كنت أحلم بها، لم أتردد في اختيار باريس. السبب في ذلك شهرتها كعاصمة للفنون والآداب، وهو ما كان يناسب طموحاتي. حتى وإن لم يكن حلمي أن أصبح كاتبا، فكرت أن الأدب سيشكل أحد مراكز اهتماماتي. وأنا أستعيد هذه الحقبة، أظن بأن سكان صوفيا، مدينتي الأصل، لم يكونوا على علم بما كان يجري في العالم آنذاك. لكنني لا أندم على الاختيار الذي أصبحت بموجبه فرنسياً ".
في البداية أثار ميشيل فوكو اهتمامه حيث وجد فيه: " فيلسوفاً عظيمأ، و مبدعاً مدهشاً يحاول ان يضع تعريفا جديدا لمفاهيم مثل المعرفة والسلطة ". لكنه وجد في أبحاث كلود ليفي شتراوس ومحاضراته التي كان يلقيها في مدرسة المعلمين العليا ضالته:" في باريس وجدت نفسي منخرطا في الموجة الفكرية التي سميت بالبنيوية، وتجسدت تلك الحركة قبل كل شيء في شخص كلود ليفي شتراوس الذي سحرني منذ اللحظة الاولى ".
تقدم لدراسة الادب في الجامعة الفرنسية، ومن هناك بدأ رحلة النبوغ في البحث والتأليف، ومن مدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية، حصل على شهادة الدكتوراه عام 1970، الاعتراف العلمي رافقه اعتراف قانوني حيث حصل على الجنسية الفرنسية عام 1973، في تلك الفترة تعرّف على جيرارجينيت الذي سيصبح أحد الاصدقاء المقربين إليه ولتبدأ رحلتهم معاً في دراسة الادب من وجهة نظر جديدة تهدف إلى البحث في مقومات النص الادبي الداخلية، بعيداً عن المؤثرات الخارجية، مهما كانت اجتماعية أو تاريخية، وفي تلك السنوات عمل تودوروف على ترجمة أعمال الروسي ميخائيل باختين الى الفرنسية. وأصدر عام 1965 كتابه الاول نظرية الأدب" ثم ألحقه عام 1967 بكتاب "الأدب والدلالة"، لكن سرعان ما تخلى عن المنهج البنيوي، إذ أعلن بعد صدور كتابه الشهير " نقد النقد " عن قصور المنهج البنيوي في دراسة الظاهرة الإبداعية، ونجده في كتابة "الأدب والدلالة " يقدم لنا أسباب إعجابه بالمدرسة البنيوية، فالطالب القادم من بلاد يهيمن عليها الفكر الماركسي، كانت دراسة الادب فيها تخضع لمقاييس أيدلوجية، وجد في انفتاح فرنسا الفكري منفذاً، لكي يحلّق بعيدا عن التزمّت الفكري، لكن هاجس دراسة الادب ظل يسكنه باستمرار فيعود اليه بين فترة واخرى، لنجده عام 2007 يصدر كتابه " الادب في خطر " الذي ينبهه فيه الى خطورة الاغراق في السعي للدراسات الشكلانية.
لم يكن التحول في حياة تودوروف الفكرية بمعزل عن سيرته الشخصية التي قدمها بنفسه في مقدمة كتابه "الأدب في خطر"، الذي يحمل دعوته إلى تحرير الأدب من سيطرة النزعات الشكلانية والعدمية حين وجه سهام نقده الشديد الى النصوص الادبية التي يحاول أصحابها حشوها بتفاصيل يومية تافهة لاترتقي الى الأدب. فالأدب أكثر رحابة وأكثر بلاغة من الحياة اليومية، يقول تودوروف،:" إنه يوسع عالمنا، ويحثنا على تصور طرق أخرى لتمثله وتنظيمه. إننا صنيعة لما يمنحنا آخرون، آباؤنا أولا، ثم أولئك الذين يحيطون بنا، ويأتي الأدب ليفتح إلى ملا نهاية هذه الإمكانية للتفاعل مع الآخرين، وليغني ذواتنا بشكل لامحدود. إنه يمنحنا مشاعر لا تعوض، تجعل العالم الواقعي يصبح أكثر إنتاجا للمعاني، وأكثر جمالا".
لكن رغم صورة الناقد والمنظر الادبي التي لازمت تودوروف طوال سنيّ حياته الحافلة بالابداعات الفكرية، فان هناك شخصية اخرى كانت تسير بموازاة شخصية الناقد الادبي، وهي شخصية رجل الفكر الذي أراد إعادة إحياء روح التنوير الغربي من خلال كتب تكشف الحال المأساوية التي وصلت اليها النظم الاجتماعية والفكرية في اوروبا، فأصدر كتابه الشهير روح الانوار ثم اعقبه بكتاب فتح أميركا وكتاب أعداء الديمقراطية الحميميون" وكتابه المهم الامل والذاكرة الذي وضع له عنوانا فرعيا " خلاصة القرن العشرين"، ثم كتابه "الخوف من البرابرة" الذي يناقش فيه نظرية صموئيل هنتنغتون في صدام الحضارات وكلها مؤلفات حاول من خلالها تودوروف تسليط الضوء على الازمات الفكرية والسياسية والثقافية التي يعيشها عالمنا المعاصر. لقد شكلت سنوات الثمانينيات منعطفا حاسما في مسارتودوروف الفكري. إذ تفرغ لدراسة الظاهرة الاستعمارية، وموقع الآخر في التصور الغربي ونجده في كتابه الشهير."نحن والآخرون" " الصادرة ترجمته العربية عن دار المدى " يعكف على دراسة تفكيك التراث الغربي الذي اتكأ جزء كبير منه على خطاب نبذ وإقصاء الآخر:" الجزء الكبير من تاريخنا هيمنت عليه حروب عاتية بين الديمقراطية والدكتاتورية بين النازية والشيوعية ". وهو يحاول ان يلخص في نحن والآخرون أطروحة التنوع الحضاري واختلاف قيم التقدم والتفوق بقوله إن "سجادا تقليديا قد يكون أروع من لوحة تجريدية". هكذا وجد تودوروف نفسه في موقع النقيض لكتاب رفضوا فكرة المساواة بين الحضارات، واعتبروا أن الحضارة الغربية مكمن حقيقة التمدن الإنساني، وأن الإسلام ثقافة مناهضة للديمقراطية والسلام، ونجد تودوروف يعود الى معلمه الاول كلود ليفي شتراوس في تدعيم نظريته بخصوص المقارنة بين المجتمعات: "إن جميع أحكام القيمة نسبية بالضرورة".
رفضت دور النشر الفرنسية مخطوطة كتابه الشهير فتح أميركا بحجة إنها مناهضة لفكرة التسامح، لأن المؤلف يدخل المنهج الذاتي والاخلاقي في دراسته لتاريخ القارة الاميركية، والكتاب الذي اهداه تودوروف الى امرأة من قبائل المايا التهمتها الكلاب، لايخرج فيه عن المنهج الروائي بل يحاول ان يجعل من فصول الكتاب أشبه بقصص قصيرة يربطها متن حكائي واحد هو رحلة كولومبس الأولى في القرن السادس عشر التي اقترف فيها أوسع آباده في تاريخ الجنس البشري.يقول تودوروف: " لايوجد من دافع من وراء رحلة كولومبس غير الجشع المبتذل" صدر الكتاب في البداية عن دار نشر غير معروفة، لكنه سرعان ما رشح لجوائز كبرى معاهد البحوث الاجتماعية والتاريخية.
منذ ان تفجرت احداث ايلول عام 2001 بات تودوروف يحذر من الكوارث التي تحيق بالعالم جراء التعصب الأعمى للنخب السياسية والاقتصادية والأيديولوجية المهيمنة في دوائر القرار الدولي.، ليصبح رمزا للمناهضة الفكرية للأمبريالية. من خلال الاشتغال على فنون الخطاب وأسرار اللغة التي تقودنا حسب رايه إلى معانقة الآخر، والإنصات إلى أكثر من صوت، والإيمان بالحقيقة الحوارية للحضارة الإنسانية، وإعطاء الكلمة لمن سلب صوته.
في كتابه الخوف من البرابرة الذي ترجمه الى العربية جان ماجد جبور يلقي تودوروف الضوء على مفاهيم البربرية والحضارة، الثقافة والهوية الجماعية، لكي يفسّر الصراعات التي تتواجه فيها اليوم البلدان الغربية مع سائر أنحاء العالم. وهو يحاول ان يقدم نقدا منهجيا لمقولة صدام الحضارات كما بلورها صمويل هنتنغتون في كتابه الشهير، حيث يناقش تودوروف أطروحة هنتنغتون باعتبارها نظرية غريبة لا تولي أهمية إلى العوامل الدينية والجغرافية واللغوية، وتتعامل مع الحضارات ككتل ثابتة، بينما هي في حال تغير وتطور دائمين، فضلا عن أن كل فرد يحمل في داخله ثقافات متعددة هي حصيلة تجربته وتفاعله مع العالم، وبالتالي من السذاجة عزل المسلمين كحالة ذهنية وسلوكية استثنائية والحديث عن "الحدود الدموية للإسلام".
وإذ ينتقد سلوك الغرب ورهابه من الآخر وتدخلاته من أجل فرض نموذجه السياسي والحضاري على شعوب أخرى، فإنه لا يبرر أعمال العنف، لكنه يبحث في ذهنية ونفسية القهر التي تنتج ردود فعل عنيفة ولو باسم الدين.
يودع تودوروف عالمنا بعد ان عاش حياة كرسها لمناهضة الطغيان والتعصب والاستبداد، واقصاء الاخر، وكان طوال حياته يضع نفسه وافكاره في خدمة الديمقراطية، لكنه يخشى عليها من نفسها: " أعداء الديمقراطية لا يوجدون خارج حدودها، الحرية اللامحدودة تصبح خطراً، حين تصبح مسوّغاً لضرب قيم المساواة بين الناس والحق في الاختلاف والتنوّع الثقافي والديني. "
وفي اخر حوار له قال تودوروف ان " القصف منهجي لبلدة في منطقة الشرق الأوسط لا يقل وحشية عن ذبح شخص في كنيسة فرنسية"،، في اشارة الى ذبح الكاهن الفرنسي في تموز على يد عناصر تنظيم داعش. "في الواقع، أنه يقتل المزيد من الأرواح ".