أنا إسـبانيا..عن همنغواي، اورويل والكتّاب..الآخرين الذين قاتلوا في إسبانيا

أنا إسـبانيا..عن همنغواي، اورويل والكتّاب..الآخرين الذين قاتلوا في إسبانيا

ترجمة: عباس المفرجي
في تشرين الثاني 1936 كانت مجموعة من الكتّاب الانكليز والامريكيين تقاتل في الحرب الأهلية الاسبانية من موقعها في مكتبة جامعية. الشاعر البالغ العشرين من العمر جون كونفورد كان وأصدقاءه محاصرين في كلية مدريد للفلسفة والأدب؛ حيث كانوا يطلقون النار من النوافذ المعترضة بالكراسي المتربة وبصفوف من مجلدات الفلسفة الالمانية.

بين المعارك، كانوا يغيرون على رف الأدب الانكليزي ليأخذوا كتب كولريدج ووردزورث. كونفورد، الذي يدرس التاريخ في كامبردج، كان مبتهجاً بالتبادل الدراسي بين جامعة وأخرى. كان يطلق النار بحماسة معاد للفاشية، ويرى الحرب ((مرعبة على نحو مبهج)).
كان كونفورد واحداً من آلاف الانكليز والامريكيين الذين حملوا السلاح دفاعاً عن حكومة الجمهورية الاسبانية، بعد الانقلاب الذي قامت به مجموعة من العسكر الفاشيست في تموز 1936. عدد كبير من هؤلاء كانوا كتّاباً وفنانين، وشكّلوا شخصيات كتاب " أنا اسبانيا ". إنه من المعروف أن كتّاباً من ضمنهم كونفورد، جورج اورويل، ستيفن سبندر، دبليو أتش اودن، جون دوس باسوس وارنست همنغواي ذهبوا الى الحرب، لكن هذا هو أول كتاب يُظهِر بوضوح منْ كان هناك ومتى، متنقلاً عبْر الحرب شهراً بعد شهر. والنتائج آسرة. ديفيد بويد هيكوك مؤرخ بارع، يقدّم تحليلاً عن المكائد السياسية والعسكرية في نفس الوقت الذي يصوّر فيه المعارك بشكل حي. وهو يتناول أكثر المواضيع نبضاً بالحياة، ناثراً القصة بحكايات رائعة بعيدة الاحتمال عن بطولة مميّزة. قرب نهاية الكتاب يشعر القارئ كما لو أن تقريباً كل مثقف بريطاني أصيل وجد طريقه أو وجدت طريقها الى إسبانيا.
بالنسبة لجيل من الكتّاب، تكمن جاذبية الحرب الأهلية الاسبانية في خطوطها المرسومة بوضوح بين الخطأ والصواب. ((عندما اندلع القتال في 18 تموز)) كتب اورويل في " تحية إكبار الى كاتالونيا "، ((من المحتمل أن كل معاد للفاشية في اوربا أحسّ برعشة أمل.)) كان هذا جيلاً فاته المذاق العظيم للحرب العالمية الأولى وكان يتوق الى فرصة لإثبات شجاعته. وهم لم يكونوا يقاتلون الفاشية فحسب، بل يدافعون عن اسبانيا نفسها، بلد مجدّوه في العشرينات لأرضه ودمه، جماله وروحه الرومانتيكية. ((اسبانيا هي الشيء الحقيقي القديم،)) كتب همنغواي في 1932، مثنياً على التراجيديا الفخمة لمصارعة الثيران. ((إنه تماماً مثل الحصول على مقعد جانب الحلبة في الحرب من دون أن يحدث لك شيئاً.))
الآن، انتقلت معارك اسبانيا من حلبات الثيران الى الشوارع، وهذه المرّة كان همنغواي والعديد من معاصريه في مواجهة الخطر. انتهى مُقام كونفورد في الجامعة على نحو مفاجئ. أحدث انفجار ثقب بعرض ثلاثة أقدام في الجدار، مصيباً إياه بجروح في رأسه. في المستشفى، بقي كونفورد رواقيا، كاتباً أن ((الحروب كلها غير مقبولة، وحتى حرب ثورية هي قبيحة تماماً. لكن ما زال باقيا لي الكثير من القوة.)) بعد شهر من ذلك، كان ميتاً، قُتِل في معركة رهيبة أسيئت إدارتها في لوبيرا.
بعد موت كونفورد حافظ الكتّاب في اسبانيا على احساس العزم والنشاط، لكن لم يعودوا أبداً مفعمين بالأمل الساذج ثانية. ببناء كتابه بشكل كرونولوجي، يوضح بويد هيكوك التحوّل السريع لمزاج الحرب، مبيناً كم كان مختلفاً الوصول الى اسبانيا بين شهر وآخر. في عام 1937، كان أصبح واضحاً أن قضية الجمهوريين ضعفت بالفساد وقلة الكفاءة. اورويل، الواصل في كانون الثاني 1937، كان متأثراً بشكل أساسي بديمقراطية العمال الأصيلة. مع ذلك، سرعان ما أمسى واعياً بأن الصراع الداخلي بين الشيوعيين، التروتسكيين والفوضويين كان يخرّب المثل العليا الجمهورية. همنغواي، الذي أمضى معظم عام 1937 في اسبانيا، بقي واهباً نفسه على نحو أكثر صخباً لقضية الجمهورية. غَضِبَ حين تخلى دوس باسوس عن القتال بعد علمه بإعدام صديقه المقرّب الذي أُتهِم خطأً بالجاسوسية: ((ما معنى حياة إنسان واحد في زمن مثل هذا؟)) لكن في " العمود الخامس "، المسرحية التي كتبها همنغواي في مدريد تحت هزيم القذائف، صوّر اسبانيا كابوسا كان البشر الأبرياء يقتلون فيه بالخطأ.
هناك المزيد من القول، كما أعتقد عن غرابة مسرحية همنغواي، التي كُتِبت وسط المعركة. ما هو مفقود في رواية بويد هيكوك هو غربة الكتّاب والفنانين الذاهبين الى الحرب. العديد من أبطال الكتاب جرّبوا الحرب جزئياً كحدث متخيَل، سواء همنغواي كاتباً مسرحيته أو روبرت كابا ملتقطاً صورته الفوتوغرافية الشهيرة " مقاتل مخلص في لحظة موته " (صورة لم يُشار لها ولمبدعها هنا). دور وسائل الإعلام في الحرب الأهلية الاسبانية قُصِد منه أن الجنود الفنانين أكثر من أي وقت مضى كانوا معلقين بين الفن والحياة. لأن البروباغندا كانت حاسمة في ضمان التمويل بالسلاح من خارج اسبانيا، فهذه كانت حرب كلمات وصور. كان الكتّاب والفنانون ملمّين بالصور التي شاهدوها والأوصاف التي قرأوها، وبالحاجة الى الإضافة من دورهم.
رغم أن الكتاب يأخذ عنوانه من سطر في قصيدة اودن " اسبانيا 1937 "، فإن اودن وسبندر غائبان الى حد كبير عن الكتاب. باعتراف الجميع، كلاهما لم يفعل شيئاً تقريباً يضيفه على الأرض من اجل القضية الجمهورية. لكن قصائدهما وتقاريرهما كانت في الجوهر ليست مجرد بروباغندا بل إظهار لما جعل هذه الحرب فريدة. في مقالة عن لوحة بيكاسو " الجيرنيكا " مكتوبة في 1938، كتب اودن أن صورة بيكاسو لم تكن استجابة لرعب شخصي بل ((لرعب كُتِب عنه في الصحف، فقرأ عنه أوصافاً وربما شاهد له صوراً فوتوغرافية. هذا النوع من التجربة غير المباشرة، الملتقط من وسائل الإعلام هو واحد من الوقعيات السائدة في عصرنا.)) القصائد، الصور الفوتوغرافية والأفلام التي ظهرت عن الحرب الأهلية الاسبانية قهرية لأنها في أحيان كثيرة محيَّرة؛ لأنها تعكس التجربة الغريبة للفنان في الحرب، مراقباً وفي الوقت ذاته مقاتلاً، متشبثاً بلغز ’’ أنا اسبانيا ‘‘.
في واحدة من الصور الاسلوبية الموجزة العديدة للكتاب، يصف بويد هيكوك صنع فيلم يوريس ايفانز وهمنغواي " الارض الاسبانية " (1937). هذا هو فيلم واع بإستمرار بألفة لا مثيل لها مع لقطاته الحربية الخاصة به. ((لا يمكن لإنسان أن يمثل أمام الكاميرا في حضور الموت،)) كتب همنغواي في مجلة الكومنتاري. مع ذلك، منحوا مقاعد جانب الحلبة وصاروا يقاتلون هم أنفسهم، هذا بالضبط ما كانت تفعله شخصيات كتاب بويد هيكوك.

عن صحيفة الغارديان