وهي تدخل قائمة البةكر القصيرة..رواية (مقتل بائع الكتب) وستراتيجية الدّال العنواني

وهي تدخل قائمة البةكر القصيرة..رواية (مقتل بائع الكتب) وستراتيجية الدّال العنواني

محمّد صابر عبيد
العنوان الذي اعتمده الروائيّ سعد محمد رحيم لروايته الموسومة (مقتل بائع الكتب)(*) هو عنوان خبريّ مثبت، المضاف فيه مصدر نكرة من الفعل (قتل) على وزن (مَفْعَل)، وهو مضاف إلى نكرة على وزن اسم الفاعل من الفعل (باعَ)، لكنّه سرعان ما يضاف إلى اسم معرفة (الكتب) حتى يكتسب التعريف مباشرة.

وهو عنوان حاوٍ يحيل على شخصيّة مُعيّنة بدلالة مهنيتها، وهي مهنة تثير ابتداءً دلالة الفقر والعوز وقلّة الحيلة داخل منظور مجتمعيّ معروف بقلّة اهتمامه بالكتاب، والعنوان تتمظهر صفاته على نحو محوريّ دراميّ شيئاً فشيئاً حتى تمتلئ الحاضنة العنوانيّة بالكثير من الصفات والخصائص والملامح بما يؤلّف السيرة الذاتيّة الروائيّة للشخصيّة، اعتماداً على مذكراته، لوحاته، رسائل منه، رسائل إليه، ومعلومات تدلي بها شخصيّات مختلفة تعمّق صورته السرديّة في مشهد التأليف لدى الصحفي (الراوي) المشغول بتسجيل طبقات سيرته وتأليف كتابه/الرواية عنه.

تبدأ الإشارة إلى شخصيّة عتبة العنوان (بائع الكتب) من بداية السرد المتنيّ للرواية، ملوّحة بحضور أصيل وطاغٍ يبشّر بكثافة حدثيّة تجعل من عتبة العنونة عتبة مولّدة وباثّة ومتشظيّة وصانعة على نحو ما لطبيعة التشكيل السرديّ للمتن الروائيّ:
شكرته وانتظرت أن ينهي المكالمة غير أنّه راح يتحدّث عن محمود المرزوق، بائع الكتب الهرم الذي اغتيل قبل شهر في شارع الأطباء ببعقوبة.. المرزوق لم يكن شخصيّة مشهورة خارج مدينته، إلّا أن سابتلايتات عدّة قنوات فضائيّة نقلت خبر مقتله، فيما كتبت صحف العاصمة مقالات عديدة عنه.. لم يثرني الخبر كثيراً في حينه..
التعريف هنا محايد ينشغل بعرضٍ مركّز للشخصيّة، وهو في جملة (لم يثرني الخبر كثيراً في حينه..) يشي بالحياد المؤقّت الذي يضمر في طيّاته إحالة زمنيّة على القادم السرديّ ضمن رؤية سرديّة استباقيّة، إذ سيتغيّر هذا الموقف (موقف الإثارة) في قابل السرد، ولاسيّما أنّ خبر المقتل حين يتردّد في قنوات فضائيّة عديدة وتكتب عنه صحف العاصمة مقالات، فهذا أقلّ ما يعني أنّه شخصيّة عامّة لها تأثير اجتماعيّ وثقافيّ بدرجة معيّنة في دائرة الاهتمام داخل فضاء الرأي العام.
وسرعان ما ينفتح التعريف المحايد على معلومات غاية في الإثارة من طرف الشيخ الغامض الذي رفض الكشف عن هويته عبر الموبايل:
شرح لي أنّ حياة المرزوق غابة من الأسرار وعليّ الوصول إليها. وهي في النهاية تشكّل دراما كبيرة، فيها بعد تراجيديّ.."دراما تلخّص تاريخاً عريضاً لجيلنا"
ثمّة تحريض سافر يدفع الراوي نحو مضاعفة الرغبة في المضي قُدُماً في محاولة الكشف عن الأسرار من أجل صناعة (دراما كبيرة، فيها بعد تراجيديّ.."دراما تلخّص تاريخاً عريضاً لجيلنا")، بوسعها أن تجعل من الكتاب المزمع تأليفه حدثاً ثقافيّاً كبيراً على الصعيد التاريخيّ والحضاريّ راهناً ومستقبلاً، يمكن أن يتجاوز حالة (مقتل بائع الكتب) بصورتها المجرّدة.
إنّ حضور شخصيّة المؤلّف (سعد محمد رحيم) باسمه الصريح في الرواية يتمثّل بوصفه شخصيّة موازية أو مراقِبة أو إشاريّة لشخصيّة الراوي الذاتيّ:
صديقي الروائيّ سعد محمد رحيم دلّني عليك.. كان لمدّة ستة عشر عاماً في بعقوبة قبل أن يهدّم منزله بانفجار عبوة ناسفة في 2006 فغادر المدينة.. هو صديقك كما قال ويعرف المرزوق.
إذ على الرغم من أنّ شخصيّة (سعد محمد رحيم) في المتن الروائيّ هي شخصيّة أخرى غير شخصيّة (الراوي الذاتيّ/ماجد بغدادي)، غير أنّ ثمّة علاقة تبدو ملتبسة بينهما على صعيد المهنة والمكان والزمن والحدث الروائيّ، فصورة الصحفي الكاتب صحبة المكان (بعقوبة) فضلاً عن الراهن السرديّ للحدث في سياق المألوف والمتوقّع لا تبتعد كثيراً عن شخصيّة (سعد محمد رحيم) مؤلّف الرواية في الواقع.
تنهض الرواية في مضمار العلاقة البنيويّة الإنتاجيّة بين عتبة العنوان والمتن السرديّ الروائيّ على أكثر من فعاليّة، منها ما يتعلّق بضخّ شبكة من الصفات الخاصّة بشخصيّة (محمود المرزوق/بائع الكتب) كلّما وجد الراوي سبيلاً إلى ذلك، من أجل صوغ هيكل الشخصيّة صوغاً محوريّاً يتنامى تدريجيّاً بحسب تطوّرات الحدث وتفاصيله ونموّه، فتأتي أولى صفاته من شخصيّة مصطفى كريم:
قال متأففاً: "كان صاحب نكتة رحمه الله.. كيف يجرؤ أي شخص على قتل إنسان كبير لا يؤذي فراشة مثل محمود المرزوق"
وقد يتحوّل فضاء العنونة الروائيّة (مقتل بائع الكتب) إلى جزأين، الأول الخبر المتعلّق بالحدث في صياغته اللغويّة المصدريّة (مقتل)، والثاني يذهب نحو الشخصيّة المركزيّة التي يقوم عليها الحدث الروائيّ (بائع الكتب)، إذ يتوزّع المتن السرديّ في الرواية برمّته على هذين المسارين (الحدث والشخصيّة)، على الرغم من طبيعة الجدل السرديّ البنيويّ الحاصل بينهما على الصعد كافة، إذ يأتي اعتراض (هيمن) على ما أورده الرائد المقدادي من احتمال ارتباط المقتل بجريمة شرف عنيفاً ورافضاً، يكشف عن معرفة وثيقة بشخصيّة المقتول ترفض مثل هذا الاحتمال على نحو قاطع:
المفاجأة الأولى التي أطلقها هي قوله بنبرة شبه هامسة إنّ الدافع للقتل ربما لم يكن سياسياً، بل جنائياً، يتعلّق بما يعرف بجرائم الشرف..
صاح هيمن:
- مستحيل.. شرف؟ أنتم تتخيلون.
قال الرائد المقدادي بهدوء:
- أرجوك هيمن اخفض صوتك.. أولاً ليس هناك من مستحيل في تصوّراتنا وحدود عملنا.. وثانياً لسنا كتّاب قصّة مثل حضرتك كي نتخيّل.. نحن نفترض بناءً على حقائق أوّليّة.. نشكّ.. لا تحقيق من غير شكوك ولاسيّما في القضايا الغامضة.
يأخذ الجزء الأوّل من عتبة العنونة (مقتل) الأهميّة الأكبر لارتباطه بالحدث الذي يشتغل على جوهر الصنعة الروائيّة، ويشرع وصف الحدث بفتح باب الاحتمالات على مصراعيه من أجل شحنه بأكبر قدر ممكن من الأسطرة كي يكون لائقاً بالحكي والسرد:
عملية القتل كانت احترافيّة.. ولا بدّ أن يكون القاتل ذو باع طويل وخبرة في عمليات الاغتيال ليقتل في ذروة الزحام، وسط الناس، بطريقة سريعة ومن غير أن يلاحظه أحد.
ينتقل بعد ذلك الوصف إلى الجزء الثاني من عتبة العنونة (بائع الكتب) ليبني ملامح الشخصيّة ويروي جزءاً مهماً من سيرتها الروائيّة:
كيف لشخص مثل محمود المرزوق، فنان وكاتب عاش سنوات عديدة في براغ وباريس وجاب أوربا وربما بعضاً من مدن شمال إفريقيا أن يعيش شيخوخته في مكان كهذا..
وينهمك الراوي الذاتيّ في البحث عن تفاصيل الحدث (مقتل) والشخصيّة (بائع الكتب) في سبيل العثور على ما يبرّر سعيه لكتابة كتابه عن مقتل الشخصيّة، إذ يشرع بفحص ما يحصل عليه من بيانات ووثائق وتَرِكات كتابيّة وفنيّة يمكن أن تساعده في الكشف عن ملابسات حدث القتل، كي ترتقي الكتابة عنه إلى مستوى لائق بالحدث والشخصيّة:
أخرجت من حقيبتي سجل يوميات المرزوق وكرّاس تخطيطاته.. جلست على سريري.. عاينت الكرّاس.. ثمة أحد عشر تخطيطاً أغلبها لوجوه أنثويّة، لا يوجد بينهما اثنان متشابهان.. في الكرّاس أيضاً اسكيتشان للوحتين يبدو أنه لم يترجمهما إلى لوحات.. الأول يظهر أشجاراً منحنية في عاصفة سوداء.. الثاني يصوّر امرأة مقذوفة من أرجوحة معلّقة بين نخلتين نحو السماء البعيدة.. فتحت سجلّ اليوميات ورحت أقرأ.
فمن سجل (محمود المرزوق) الذي تركه خلفه وعثر عليه الراوي الذاتيّ ما يشير من جديد إلى حضور شخصيّة المؤلّف الحقيقيّ (سعد محمد رحيم)، فيما يمكن أن نعدّه حيلة سرديّة تنفي علاقة الراوي الذاتيّ (ماجد بغدادي) بشخصيّة المؤلّف الحقيقيّ:
كان هناك سعد محمد رحيم أيضاً.. روائي لم أقرأ له أي عمل روائيّ.. قرأت بعض قصصه ومقالاته.. لا بأس بلغته وأسلوبه.. ذات مرة قلت له؛ هناك شيء ناقص دائماً في كتاباتك، شيء لا أعرف ما هو، لكني أشعر به.. قال يومها: "لا توجد كتابة مثالية كاملة، نحن كائنات ينقصنا شيء دائماً، والكمال الذي نسعى إليه لن نبلغه أبداً.
يسير وصف الشخصيّة في اتجاه أسطرتها على نحو من الأنحاء، فكلّ صفة جديدة تضاف إليها تعمّق صورتها وتكبّرها في شاشة عتبة العنونة، فالصورة العنوانيّة للحدث (مقتل) وللشخصيّة (بائع الكتب) ما تلبث أن تنمو وتتطوّر داخل المتن الروائيّ منعكسة على فضاء العتبة العنوانيّة:
ما أعاق محمود المرزوق عن أن يصبح شخصيّة فنيّة وثقافيّة مشهورة، هو ضعف تقديره لذاته.. عدم إيمانه الكافي بموهبته، وربّما بجدوى الفنّ عموماً.
ومن ثم يكشف السرد عن علاقة الشخصيّة الوثيقة بالكتب بوصفها ولعاً لا يجني منه صاحبه سوى الويل والثبور في مجتمع جاهل:
محمود المرزوق ضحية الكتاب، الكتب خرّبت حياته.
تظهر بعض الشخصيّات في الرواية بوجودها الحقيقيّ الواقعيّ في حياة المؤلّف الحقيقيّ الشخصيّة والمكانيّة والزمنية مثل شخصيّة الشاعر (إبراهيم البهرزي):
هناك سينتظرنا بعض أصدقاء الدهلكي أحدهم وهو مضيّفنا؛ شاعر قدير من جيل السبعينيات اسمه إبراهيم البهرزي سبق وأن قرأت مجموعته؛ (صفير الجوّال آخر الليل).. الآخرون من مثقفي المدينة؛ اثنان منهم من أصدقاء المرزوق القدامى.
وهي شخصيّة معروفة في الحياة الثقافيّة لمدينة بعقوبة ومن أصدقاء المؤلّف الحقيقيّ (سعد محمد رحيم) في الواقع، فضلاً عن شخصيّات أخرى تقارب شخصيّات واقعية من مجتمع بعقوبة الثقافيّ، وهو ما يحيل على حضورٍ ما للسيرذاتيّ في الروائيّ داخل طبقة مقصودة من طبقات المتن السرديّ.
تنتهي عملية البحث السرديّ عند الراوي الذاتيّ ومن أسهم فيها إلى جانبه إلى صورتين فجائعيتين، الأولى تصف ثمن (مقتل) الشخصيّة:
حياة محمود المرزوق عند هذا الشخص لم تكن تساوي أكثر من ثلاثمائة دولار، فتصوّر..
والثانية احتمال أنّه لم يكن المقصود في عملية القتل:
- إن صدّقنا ما يقولون، أقصد بقية الجماعة من المخططين والمحرّضين فالقاتل قتل الشخص الخطأ.. لم يكن المرزوق على لائحتهم.
إذ تنتهي عملية البحث وكأنّ الأمر كلّه أشبه بنكتة سرديّة تختصر الحدث وتختزل الواقعة في جملة (مقتل بائع الكتب)، على نحو يعمّق فضاء العنونة ويشحنه بطاقة سيميائيّة عالية على مستوى الصورة والفعل والدلالة والقيمة والمعنى.
إنّ التمعّن في شخصيّة محمود المرزوق (بائع الكتب) يحيل على شيء من شخصيّة (زوربا اليوناني)، فيما يمكن التقاطه من صفات التمرّد والعنفوان والنساء واللاانتماء والكتب والأسطرة السلوكيّة الصعلوكيّة والسفر، بما يثري عتبة العنونة ويغذّيها بالقّوة وسعة الحضور والتأثير المستمرّ من رأس النصّ حتى قاعه.

(*) مقتل بائع الكتب، سعد محمد رحيم، دار سطور للنشر والتوزيع، بغداد، ط1، 2016.