الروائية سحر خليفة في روايتها (عبّاد الشمس)..أندغام بالحياة الفلسطينية ودعوة للتجذر بالأرض

الروائية سحر خليفة في روايتها (عبّاد الشمس)..أندغام بالحياة الفلسطينية ودعوة للتجذر بالأرض

شـكيب كاظـم
ظل الهم الفلسطيني مستحوذاً على إبداع الروائية سحر خليفة, منذ أول عمل روائي لها (لم نعد جواري لكم) التي أصدرتها دار الآداب البيروتية عام 1974, لتواصل الآداب نشر أعمالها تباعاً (الصبّار) و (مذكرات امرأة غير واقعية) ورابعاً روايتها (عبّاد الشمس) وتقع في مئتين وتسع وسبعين صفحة وبحرف صغير, ولا غروّ في ذلك,

فسحر خليفة ابنة فلسطين, ومدينة نابلس تحديداً عايشت النكبة الكبرى, وعذابات الرحيل عن الوطن الأم سنة 1948, وظلت مثل جلّ كتاب فلسطين: جبرا إبراهيم جبرا, وغسان كنفاني, ونواف أبو الهيجا, وفي الشعر: فدوى طوقان, وكمال ناصر, وخالد علي مصطفى, و.و يتناولون الهم الفلسطيني إبداعياً, وقضية ضياع الوطن,

لذا رأينا سحر خليفة في عملها الروائي هذا (عبّاد الشمس) تعايش الهم ذاته سابرة أغوار الحياة الفلسطينية, وحياة الحارات في مدينة نابلس, ناقلة وقائع حياتية من الضعف الإنساني, لا بل من الجِبِّلة البشرية المتوارثة: الفضول, والأغتياب, والحسد, سحر خليفة وهي في تناولها للحياة الفلسطينية, ما صورتها حياة ملائكة, مثلما فعل روائيو الواقعية الاشتراكية, والحزب الواحد القائد, الخائفون من سطوة الأخ الأكبر الذي يحصي حتى النأمة والهمسة, بل صوّرت المجتمع بضعفه وقوته, بسلبه وإيجابه.
رواية (عباد الشمس) تناولت قضايا عدة من الحياة في فلسطين ولاسيما مدينة نابلس, حيث تحيا (سعدية) أرملة (زهدي) الذي رحل مبكراً, وخلف لها عدداً من الأبناء, ظلت تنوء بحمل تربيتهم وإطعامهم, وهي بهذا تنتقد من طرف خفي هذه الرغبة الجامحة في الإنجاب, من غير تهيئة متطلبات الحياة – ولو بحدها الأدنى- لهذه الأفواه الجديدة, فتظل (سعدية) ألامرأة البسيطة تكدح, تخيط الملابس, وتنقلها إلى تل أبيب لبيعها, وتطمح بمغادرة الحارة المتلصصة والفضولية, حادة اللسان والحاسدة, والمرتابة في السلوك والتصرف, حتى وإن كان نزيهاً وبريئاً, مثل سلوك (سعدية) فضلاً عن ثيمة حرية المرأة, وضرورة أخذها زمام نفسها, واحترام رأيها وإرادتها, الذي تمثله الصحفية (رفيف) والأفكار المتطرفة, التي يمثلها (أبو العز باسل) إبن الأسرة الثرية المعروفة في رجأ (نابلس), (آل الكرمي) فضلاً عن الإسلامي الملتصق بالتراث القديم, الأستاذ (بديع) المصحح اللغوي للمجلة, التي يصدرها الأستاذ (عطا الله) ويتولى مديرية تحريرها.
التجذر بالأرض وعدم تركها
سحر خليفة في روايتها هذه (عبّاد الشمس) تؤكد ضرورة التجذر بالأرض وعدم مبارحتها, وتنتقد تشوفات (سعدية) وطموحاتها بترك حارة الآباء والأجداد, نحو الجبل, وبناء منزل صغير, حيث الهواء العليل, وشرب القهوة في (الفرندة) أي شرفة المنزل, التي يناهضها ابنها (رشاد) الذي يذيق جنود الاحتلال الويل, إذا ما حصل اشتباك, لدقة تهديفه وإصابتهم من خلال (المقليعة) أي المقلاع, ظل (ينقفهم) بالحجر, يضربهم, يقذفهم, وظل يؤكد البقاء في الحارة, وعدم مبارحتها, صائحاً في وجه أمه "حارتنا يمة, حارتنا يمة (...) ومين النا غيرها؟ (...) حارتنا يمة, روحي إنت وأولادك. أنا مش رايح ولو أدور شحاذ على بيوت الجيران (...) حارتنا تعودناها تعودنا أهلها, وجيرانها وأولاد الحارة. نلعب مع مين؟ نحكي مع مين؟ نتظاهر مع مين؟" تراجع ص 227-228.
سحر خليفة, مثلها مثل الروائي الفلسطيني غسان كنفاني, الذي ظل يؤكد ضرورة التجذر بالأرض والتشبث بها, كي لا تكون لقمة سائغة للعدو الصهيوني, في غالب أدبه, ولا سيما في روايته الرائعة والمكثفة. (رجال في الشمس)
الموت اختناقاً مصير مغادري الأرض
حيث يجعل الموت مصير المغادرين أرضهم نحو بلدان النفط, يغادرون أرضهم نحو الأردن وعند نقطة الأجفور يمشون الساعات الطويلة خشية الوقوع في أيدي رجال الكمارك والحدود ومن الأج فور نحو بغداد, ومنها إلى البصرة توقاً إلى الكويت, ويجعلهم غسان يقعون في براثن المزورين والمحتالين, يسرقون أموالهم بحجة تهريبهم, حتى إذا وصلوا نقطة الحدود, صفوان تركوهم يواجهون مصيرهم, الموت ضياعاً في الصحراء وعطشاً, تحت سياط الشمس اللاهبة, وإذ يجدون, أبو قيس وأسعد ومروان, بعد أن أعيتهم السبل يعثرون على إبن جلدتهم, الفلسطيني أبو الخيزران, المهرب لدى الحاج العراقي رضا, كي يهربهم من البصرة بالشاحنة ذات الخزان, الشاحنة الحوضية, ويضطرون للنزول في خزان الشاحنة الفارغ عند نقطتي التفتيش العراقية والكويتية, هذا الخزان الذي تحول إلى فرن بسبب الشمس الحارقة, وإذ ينجيهم غسان من نقطة الحدود العراقية التي غادرها أبو الخيزران سراعاً, فان مداعبة ثقيلة من موظف الحدود الكويتي مع أبي الخيزران تؤخره, فيكون مصير الثلاثة الاختناق والموت, ومن ثم المزبلة, حتى إن أبا الخيزران ما فكر في دفن أبناء بلده, بل تركهم في مكان رمي قمامة المدينة!
وكما جعل غسان كنفاني الموت مصير التاركين أرضهم فإن سحر خليفة تُفْشِلْ طموحات (سعدية) في مغادرة حارة الأهل, إذ أن فض قوات الاحتلال لتظاهرة, بقسوة وعنف, تحولت إلى انتفاضة وعمل مسلح, يأتيان على كل شيء فيؤول مشروع سعدية إلى يباب وهباء.
سحر خليفة المندغمة بالحياة الفلسطينية, والمدافعة عن كل ما هو نبيل فيها, وهي في مجال انتقادها لآراء وسلوك البعض, نقلت سلبية مدير تحرير المجلة, فهو مع الرحمن, ومع الشيطان في آن واحد, فإذ يحاول من خلال جريدته التي لم تسمها لنا سحر خليفة, زيادة في ضبابية مدير التحرير وسلبيته إذ يحاول الدفاع عن قضية الوطن من خلال الكتابة, وإعطاء الحرية لمنتسبي الجريدة في إبداء الرأي, وحتى مخالفة آرائه, ظل هذا المدير حريصاً على الحصول على التصاريح من سلطة الاحتلال, حرصه على تسلّم أموال الصمود من منظمة التحرير, في حين جعلت الأستاذ بديع, المصحح اللغوي, ظلاً لمدير الحرير وموافقاً له في آرائه كلها, هي التي تنقل لنا الكثير من آرائه الصادمة, البعيدة عن حركة الحياة, في محاولة منها لانتقاده وانتقاد سلوكه وتفنيد آرائه إسلامية التوجه والهوى, في حين كانت تتعاطف مع الأفكار اليسارية التي يطلقها أبو العز, وآراء (رفيف) بشأن حرية المرأة.
ولأنها كذلك, فقد نقلت صوراً من مؤازرة اليسار اليهودي ودعاة السلام, للدفاع عن الفلسطينيين وقضيتهم, وها هو الصحفي اليهودي (خضرون) صديق الصحفي (عادل الكرمي) يقتحم نقاط التفتيش الإسرائيلية إبان انتفاضة المدينة, ويتوغل في مدينة نابلس, مستفيداً من هويته الإسرائيلية التي لا تخضعه للتفتيش, كي يصل إلى قلب الانتفاضة, وإضاءتها ونقل وقائعها للجريدة في سبق صحفي عَزَّ نظيره ومثيله.
وكما كنت دائماً لا أرغب في الحوار العامي في القصة أو الرواية, فأني كنت اطرب لهذا الحوار العامي الذي وشّحَتْ سحر خليفة سطور روايتها به, ومن قبل طربت – كذلك – للحوار العامي الذي استخدمته أحلام مستغانمي قليلاً وفي مواضع محددة في ثلاثيتها الروائية (ذاكرة الجسد) و(فوضى الحواس) و(عابر سرير) لقد تعاطفت مع, لا بل أحببت العامية الجزائرية البعيدة عن أفهامنا, ترى هل هذا الحب ناتج عن تعاطفي الشديد مع الجزائر أيام ثورتها وكنا فتياناً؟ وأحببت العامية الفلسطينية لأندغامي مع قضية فلسطين أيام ثورتها بعد كارثة 1967, وكنا في بواكير شبابنا؟ أهي تعيد لي صوراً غاربة من حياتي والإنسان حريص على ذكرياته وماضيه الذي انسرب من يديه سراعاً؟
سحر خليفة تواصل بوحها الإبداعي
وإذ يتوقف بعضهم أو بعضهن عن الكتابة لدواع شتى، فإن الروائية سحر خليفة, واصلت بوحها الروائي, وكانت هذه المواصلة والاستمرارية أحد الشروط الواجب توفرها كي تفوز بجائزة محمد زفزاف الروائية في شهر حزيران من عام 2013 في دورتها الخامسة, ولتكون أول كاتبة عربية تفوز بها بعد مجموعة من الروائيين المرموقين في الوطن العربي منذ انطلاق الجائزة عام 2002, هم: الروائي السوداني الراحل الطيب صالح, والروائي الليبي إبراهيم الكوني, والروائي المغربي مبارك ربيع والروائي السوري حنا مينة, وهو ما أكده الروائي الجزائري واسيني الأعرج, رئيس لجنة التحكيم لدى إذاعته قرار اللجنة من أن هذا المتن صاحبته استمرارية وتواتر واضحان وحيوية منتجة تتفادى مقتل الفعل الروائي كالتكرار والخطاب السهل, وهي خاصية مهمة ولم تتوقف عن الكتابة والابداع, إيماناً منها ان الرواية رهان ثقافي وحضاري منذ روايتها الأولى (لم نعد جواري لكم) 1974, وحتى نصها الأخير (حبي الأول) الصادر عام 2010, فضلاً عن انتصارها لقيم الحداثة, كذلك دفاعها عن القيم النبيلة التي تهم الفلسطيني, وتَهُمَّ الإنسان في المطلق, وتعبيرها عن معضلات العصر من حروب وهزات عنيفة من خلال القضية الفلسطينية وأخيراً انخراطها في الفعل الاجتماعي والثقافي مبدعة وروائية.