البصرة في العهد العثماني الاخير.. صراع على النقل النهري بين البصرة وبغداد

البصرة في العهد العثماني الاخير.. صراع على النقل النهري بين البصرة وبغداد

د. يقظان سعدون العامر
كان لموقع البصرة اهمية كبيرة لجميع المشاريع التي كانت تطمع الدول الاوربية وبخاصة بريطانيا تحقيقها، وبما ان العراق كان اقصر طريق يؤدي الى الهند (درة التاج البريطاني) فقد اخذت بريطانية تهتم بموقعنه وتعمل من اجل مد خطوط مواصلات سواء باستخدام البواخر في انهار العراق او مد سكك للحديد او خط للتلغراف عبره،

ونظراً لأهتمام بريطانية المتزايد بالطرق المؤدية الى الهند عبر البحر الاحمر والبحر العربي والخليج العربي او الطريق البري عبر ايران او افغانستان، والذي جاء كنتيجة للغزو الفرنسي لمصر عام 1798 إذ اخذت بريطانية بعقد معاهدات مع الامارات العربية المطلة على الخليج العربي، فقد اصبح للعراق عامة والبصرة خاصة اهمية في الاستراتيجية البريطانية.
ظهر اهتمام القناصل البرطانيين وبخاصة روبرت تايلر الوكيل السياسي في البصرة عام 1826 بأستخدام البواخر لربط الشرق بالغرب، وقامت شركة الهند الشرقية البريطانية على ايجاد طريق بديل لرأس الرجاء الصالح يمر اما بمصر او بالعراق حيث سؤدي التقليل من تكاليف النقل ويخصتصر الوقت، لذا عهد الى الضابط فرنسيس جسني f. r. cheseney بمهمة دراسة امكانية استخدام بواخر في نهر الفرات وان يجري مقارنة بين طرق الفرات الاعلى ليقوم، ولكن جسني وضع طريق مصر جانباً لاعتبارات عديدة واهتم بطريق الفرات حيث وصل في عام 1830 الى الفرات الاعلى ليقوم بدراسة طبيعة انهار العراق واساليب النقل فيها وامكانية استخدام البواخر وكذلك دراسة طريق بصرة ـ حلب الصحراوي، وتابع جسني رحلته الى بغداد ومنها الى البصرة التي وصلتها نيسان 1831 ومنها اتجه الى ايران في طريقه الى لندن ليقدم تقاريره على المسؤولين البريطانيين، وكانت هذه التقارير مشجعة بحيث بينة صلاحية نهر الفرات، لسير البواخر وضروة ايجاد طرياق للمواصلات يربط البحر المتوسط بخليج البصرة، وبعد ان حصل البريطانيون على فرمان سلطان يعطي الحق لهم باستخدام باخرتين في نهر الفرت، ارسلوا جسني لمعرفة مدى صلاحية نهر الفرات، ولم تبدأ الرحلة من البصرة لان جسني ادعى ان ذلك قد يوحي ان بريطانيا تريد احتنلال العراق، وبخاصة ان جسني بهدف تجريد سيادة العراق التأريخية على شط العرب نهراً عراقياً بل انه امتداد للخليج العربي!! ومع ان جسني بدأ رحلته من الساحل السوري صوب البصرة، الا ان من دوافع بعثته كانت جعل العراق عامة والبصرة خاصة والتي تطل على ساحل الخليج العربي الشمالي منطقة نفوذ بريطانية، وما ان بدأت بعثة جسني في نهر الفرات ودخلت حدود ولاية البصرة حتى واجهت مقاومة العشائر العربية، ويغزو البريطانيون هذه المقاومة الى تحريض فيكتور فونتانية. القنصل الفرنسي في البصرة للعشائر العربية بوجوب غلق انهار العراق لمنع مرور بواخر المسح الربيطانية، ولا اساس لهذا الادعاء لان العشائر العربية في ولاية البصرة كانت على دارية بنوايا بريطانيا ودورها في الخليج العربي والعرالق وبخاصة بعد ان قاومت العشائر العربية البعثات التبشيرية البريطانية في القرنة، الا ان هذه المقاومة لم تستمر، لذا استأنف جسني رحلته، وقام احد مساعديه وهو هنري بولص لنج H. B. Lynch بدراسة نهر الفرات خلال الاعوام 1837 ـ 1839، وفي عام 1840 اسس شركة للملاحة في نهر دجلة، وفي الواقع ان فرمان عام 1834 أقتصر على نهر الفرات دون دجلة، في حين ان شركة الملاحة او ما تعرف عادة بشركة بت لنج أقتصر اعمالها التجارية على نهر دجلة، ولم يعاض المسؤلون العثمانيون ذلك، ويعكس هذا على ما كان عليه رجال اسطنبول من جهل بجغرافية العراق وشؤونه الداخلية.
وشهد عام 1839 اهتماماً بريطانياً متزايداً بالموقع الاستراتيجي لمدينة البصرة، ويرجع هذا الاهتمام الى مخاوف بريطانيا من تنامي النفوذ الروسي في أسطنبول بعد توقيع معاهدة هنكيار اسكلي عام 1833 بين الدولة العثمانية وروسيا، وكذلك بريطانيا ثلاثة سفن مسلحة لتنضم الى الباخرة (الفرات) ولتشكل اسطولاً حربياً عهدت قيادته الى جسني التي كان تحت أمرة الوكيل السياسي في البصرة، وعلى الرغم من انفراج الموقف لم تسحب بريطانيا السفن الثلاث بل ابقيت سفينة واحدة مرابطة في البصرة كاجراء احتياطي.
وبعد ان انحسر التهديد المصري، أفاقت الدولة العثمانية لأهمية دجلة ولخطورة المشروعات البريطانية وان تتولى هي بنفسها أمر تسير البواخر في المياه العراق، فنشب نزاع بين محمد نجيب باشا والي بغداد والقنصل البريطاني العام في بغداد هنري راولنسون H. Raulinson عندما انزل احد التجار الهنود المقيم في كربلاء الباخرة (الكربلائية) التي تم بنائها لحسابه في نهر دجلة وترفع العلم البريطاني، وعندما وصلت الى مدينة البصرة تم احتجازها طبقاً لأوامر الوالي وتم رفع العلم العثماني عليها، وعلى الرغم من اذعان الدولة العثمانية ـ كما هو شأنها ـ امام المطاليب البريطانية والتي قادت في النهاية على عزل محمد نجيب باشا، الا انها اصبجت تشعر اكثر من اي وقت مضى بخطورة ما سينجم عنه النشاط البريطاني في مياه العراق والخليج العربي، لذلك بعث الباب العالي في عام 1848 (بيربك) مع عدد من الضباط البحريين وربابنة السفن الى البصرة بمهمة اصلاح القوة البحرية العثمانية التي كانت لا تزيد عن ست سفن تمتاز برداءة تسليحها، وتأسس ترسانة في البصرة من اجل تعزيز النفوذ العثماني، ويبدوا ان هذا الخطوة علاقة وثيقة بأعتقاد المسؤولين العثمانيين ان اهمال البصرو مسؤول عن ضعف الاهتمام والنشاط العثامني في الخليج العربي، وكذلك تردي العلاقات بين الدولتين العثمانية والايرانية بعد قيام الاخيرة باحتلال المحمرة ونشوب المناوشات بين الدولتين الامر الذي ادى الى توسط كل من بريطانيا وروسيا ودخول الدولتين في مباحثات من اجل تحديد الحدود، فوجد سفن عثمانية في تلك المناطق سيكون على جانب من الاهمية في حالة فشل المفاوضات الدائرة لعقد معاهدة ترسيم الحدود، واغلب الظن ان العثمانيين لم يكن مهتمين بمصير المحمرة بقدر ما كانوا يخشونه من استخدام الاخيرة كميناء حر حيث لا تدفع البضائع الاجنبية وبخاصة البريطانية اي رسوم وبذلك ستنتعش تجارة التهريب وسيلحق الاذى بدور البصرة التجاري وبالاقتصاد العثماني في العراق، لذا تم ارسال سفينة حراسة حربية عثمانية في عام 1846 لترابط عند مدخل قناة الحفار عند مدينة المحمرة، وذلك لتحويل تجارة المحمرة الى البصرة ولترغم السفن الذاهبة الى المحمرة الى الصعود لتدفع ما عليها من رسوم كمركية، فاحتجت الحكومة الايرانية وايدتها بذلك الحكومة البريطانية التي مارست ضغوطاً على اسطنبول التي اذعنت بدورها، وعلى كل حال فقد نجم عن المباحثات العثمانية الفارسية توقيع معاهدة ارضروم الثانية في عام 1847 حيث تنازلت الدولة العثمانية المحمرة وميناءها وجزيرة خضر (عبادان) الاراضي الواقعة على الضفة الشرقية من شط العرب الى الدولة الفارسية مقابل تنازل الاخيرة عن أدعائها في مدينة السليمانية وشهرزور.
وعلي الرغم من ان محمد رشيد الكوزلغلي والي العراق قد هيأ في عام 1852 معملاً للحدادة لسد حاجة السفن وكلف احدى الشركات البلجيكية ببناء باخرتين واللتان عرفتا بإسم (بغداد) و (البصرة) لنقل اموال التجارة بين موانيء البحر الاحمر والبصرة، من اجل تأسيس شركة تجارية عثمانية للملاحة تعمل بين مونيء البحر الاحمر والخليج العربي الا ان ما ان اندلعت حرب القرم، (1854 ـ 1856) وتردد ان الروس يعدون هجوماً على شمال العراق وان قواتاً فارسية قد تم تحشيدها على الحدود العراقية بتحريض من الروس فقد طلب محمد رشيد الكوزلغلي من بريطانيا ارسال قوات الى العراق للدفاع عنه، الا ان بريطانيا رفضت هذا الطلب لاسباب عديدة واقتصرت على ارسال سفينتين حربيتين الى البصرة للأنظمام الى السفينة آل حربية المتواجدة هناك للقيام بمظاهرة حربية للارهاب الدولة الفارسية، ورداً على الاجراءات العثمانية الهادفة الى تأسيس شركة عثمانية للملاحة، فقد تم توسيع شركة لنح في عام 1861 ليتم تأسيس شركة جديدة بإسم شركة الفرات ودجلة للملاحة البخارية the Euphrates and Tigis Steam Navigation Company، وعلى الرغم من اعتراض العثمانيين على تأسيس هذه الشركة وانزال بواخر جديدة، الا ان هذه الاعتراضات سرعان ما تبدد، لان السلطات العثمانية سواء في اسطنبول ام بغداد كانت جاهلة بأمور الملاحة في انهار العراق ولم تكن لها سياسة واضحة تجاه بريطانيا، ففي الوقت الذي اخذ الضعف يدب في مفاصل الدولة العثمانية واخذت هذه الدولة تعتمد على بريطانيا عسكرياً ومالياً، كانت تخشى من مخططات بريطانية في العراق والخليج العربي.
وعلى الرغم من الاجراءات التي اتخذتها السلطات العثمانية الرامية الى زيادة عدد البواخر العاملة بين البصرة وبغداد وانشاء ما عرف بـ (ادارة عُمان العثماني) التي كانت تحت ادارة وزير البحرية العثماني مباشرة (100) لكنها لم تكن جادة وفعالة الا عندما جاء مدحت باشا الذي عارض وباستمرار الرعايا البريطانيين ومصالحهم في العراق (101) فقام باصلاح البواخر واضاف بواخر جديدة ليصل عددها الى العرشين واعادة تنضم ادارة ُعُمان العثمانية للملاحة، فتم افتتاح خط ملاحي بين اسطنبول والبصرة عبر قناة السويس وبين البصرة وجدة لنقل الحجاج، واخذت بواخر ادارة عُمان العثماني تعمل بين البصرة والموانيء الاوربية (102) وهكذا اخذت الادارة العثمانية بمنافسة شركة الفرات ودجلة البريطانية الذي اخذت تمارس عمليات النقل النهري بين البصرة وبغداد عبر نهر دجلة، واصبح لها فرعاً في البصرة وتّمكنت من تأسيس مستودع للفحم في المعقل وحوضاً في البصرة لاصلاح سفنها (103)، ومن اجل تعزيز سيادة العراق على شط العرب وتعزيز هيمنة بريطانيا عليه ادعت الاخيرة بأن شط العرب ليس نهراً عراقياً بل نهراً مفتوحاً Free River وان الملاحة حرة فيه ومن حق السفن الحربية البريطانية الصعود الى القرنة لانه سبق للسفن الحربية البريطانية وخلال حرب القرم ليس فقط الصعود الى القرنة بل القيام بحركات عسكرية في شط العرب وبموافقة السلطات العثمانية.
لقد كان موقف الدولة العثمانية قريباً، ففي الوقت الذي ارسلت تأكيدات الى ولاتها في بغداد بعدم السماح للسفن الحربية البريطانية الصعود الى القرنة الا بعد التوصل الى تسوية للموضوع، فأنها اهملت متابعة الموضوع وهذا ما شجع بريطانيا على عدم اثارة الموضوع لان اهماله من مصلحتها، وبالفعل اخذت السفن الحربية الربيطانية تقوم برحلات بين البصرة والموصل، ولم تعمل الدولة العثمانية وبأني طريقة ممكنة على مقاومة النفوذ البريطاني المتزايد في العراق، فرفضت الطلب المتقدم من شركة فرنسية ترغب في تسيير بواخر في نهر دجلة على ان ترفع العلم العثماني، وبذلك خسرت فرصة ثمينة لضرب النفوذ البريطاني بالنفوذ الفرنسي.
ولم تقصر الاهمية الاستيراتيجية للعراق عامة والبصرة خاصة عند بريطانيا على تسيير بواخر في انهاره ومرابطة قوة في مياه البصرة فحسب، بل امتدت الجهود البريطانية الى مد سكك حديد تربط سواحل البحر الاحمر بالخليج العربي عبر البصرة وكذلك ربط الاخيرة بمكاتب بريد وخط التلغراف الذي يربط اوربا بالهند، ام هاذين المشروعين سيضاعفان الاهمية الاستيراتجية للبصرة، لان حماية نهاية مشروع السكة ومحطة التلغراف (تستوجب في هذه الحالة التمسك ببوابة الدفاع الرئيسية عند الخليج من الشمال وهي البصرة)، ويرجع اهتمام بريطانيا بمد سكك حديد على طول نهر الفرات عبر البصرة الى الخليج العربي الى النصف الاول من القرن التاسع عشر، فالاحداث في افغانستان الناجمة عن التدخل الايراني فيها عام 1837 أدى الى احتلال بريطانية للأحواز، وكذلك حرب القرم واحداث الثورة الهندية لعام 1857 جعل المسؤوليين البريطانيين ينظرون باهتمام متزايد الى طريق قناة السويس الذي تشرف عليه فرنسا، لم تتم عملية تنفيذ مشروع سكة حديد الفرات لاعتبارات عديدة منها ان الحكومة البريطانية كانت مهتمة بتنفيذ مشروع مد خط تلغراف عبر الفرات وبخاصة ان بريطانيا والدولة العثمانية توصلتا في 1863 الى اتفاقية مد خط تلغرافي تقوم بنفقاته الدولة العثمانية حين تقدم بريطانيا المساعدة الفنية، وفي عام 1868 قامت بريطانيا بربط البصرة بمكاتب بريد وخط التلغراف الهندي الاوربي عندما انشأت محطة في الفاو.

عن بحث (البصرة في العهد العثماني الاخير)