تحرير المرأة العراقية  في صفحاتها الاولى..

تحرير المرأة العراقية في صفحاتها الاولى..

موفق خلف العلياوي
شهد وضع المرأة العراقية تحولاً جديداً تمثل في اختلاف نظرة البريطانيين لها مقارنة مع أسلافهم العثمانيون ,إذ ظهر هذا الاختلاف في توجه البريطانيين نحو ضرورة تعليم المرأة العراقية, فبدأت أولى خطواتهم تلك عام 1919, عندما تم الاتفاق على فتح مدرسة للإناث بناءً على توصيه من (جيرترود بيل) (Gertrude Bell) السكرتيرة الشرقية,

وعلى أثر تلك التوصية استقدمت المس كيلي (Kelly) إلى العراق كونها تملك خبرة تعليمية من خلال ممارستها المهنية في الهند, إذ بدأت نشاطها بفتح أول مدرسة, وأدارتها في عهد الاحتلال البريطاني.افتتحت المدرسة في الخامس والعشرين من كانون الثاني عام 1920, بحضور عدد من سيدات البلد البارزات, فضلاً عن المس بيل التي أكدت في كلمتها بالمناسبة أن افتتاح المدرسة جاء بناءً على رغبات الناس, وإن إدارة المدرسة سوف تعمل على احترام العادات والتقاليد لذوي الطالبات, وتكون كادر المدرسة من أرسياك خانم نائبة للمديرة, والمعلمات زهرة خضر , نظيرة خانم , هلن سعدي خانم , شلن سعدي خانم , افتخار خانم , مادبلت خانم , وجميلة خانم, وضمت تلك المدرسة عدداً من الطالبات لم يزد على الثمانية فقط.

شجعت هذه الخطوة البريطانية الحكومة العراقية في التوسع بالتعليم النسوي, إذ تم افتتاح مدارس للإناث في ألوية الموصل والديوانية, ومدرسة ثالثة في جانب الكرخ بناءً على طلب الأهالي, للتخلص من مشقة عبور النهر إلى جانب الرصافه, وهذا دليل على تنامي الوعي بين الناس بضرورة تعليم المرأة وان كان هذا الوعي بين فئات محدودة من المجتمع العراقي. فضلاً عن ذلك أسهمت الطوائف الدينية غير المسلمة في دفع عملية التعليم النسوي إلى الأمام من خلال فتح عدد من المدارس الخاصة بهن حتى إن عدداً من الفتيات المسلمات انضممن إلى تلك المدارس كونها أدخلت اللغة العربية في مناهج دراستها إلى جانب لغة الطائفة صاحبة المدرسة. ومن أشهر تلك المدارس هي مدرسة (راهبات التقدمة).
مع استمرار الحكومة في إنشاء مدارس الإناث ازداد عددها من أربع مدارس في العام الدراسي 1920-1921الى سبع وعشرين مدرسة في العام الدراسي 1921(-1922) ثم أخذت الزيادة بالتدريج.وصل عدد المدارس في نهاية عهد الانتداب البريطاني للعراق عام 1932 إلى تسع وأربعين مدرسة , رافقتها زيادة في أعداد الطالبات , فبعد أن كان عددهن في العام الدراسي (1920- 1921) أربعمائة واثنين وستين طالبة وصل العدد إلى ثمانية آلاف وثمانمائة وخمس وأربعين في العام الدراسي (1931- 1932).
كان هذا التوسع في عملية تعليم المرأة أثناء مدة الاحتلال والانتداب البريطاني من الأسباب الرئيسة التي ساهمت في تطور وعي المرأة العراقية, فضلاً عن تغير نظرة المجتمع نحو عملية تعليمها, إذ إن هذا التطور أخذ يعطي ثماره في نهاية عهد الانتداب وبدأت المرأة العراقية بالنزول إلى ميادين الحياة كافة.
كانت عملية تعليم المرأة العراقية من بين أهم العوامل في نقطة الشروع نحو النهوض بواقعها ولكنه لم يكن الوحيد بل كانت هناك عوامل أخرى أسهمت في هذا النهوض منها إن المرأة نفسها قد أسهمت في حركة تطورها من خلال خوضها معترك الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية, فعندما أعلن الشعب العراقي ثورته الكبرى ضد البريطانيين عام 1920, كان للمرأة دورها البارز في شد أزر الثوار, لاسيما أهازيجها التي كانت تثير الحماس والاندفاع لديهم, كما ساهم عدد من نساء بغداد في التظاهرة التي خرجت لتشييع جثمان احد شهداء الثورة وهو عبد الكريم رشيد النجار المعروف بالأخرس من جامع الحيدرخانة, فضلا ًعن قيام أخريات بتقديم مذكرة احتجاج إلى المس بيل, بسبب اعتقال عدد من زعماء الثورة من قبل إدارة الانتداب البريطاني, فأدى الضغط والمطالبة بإطلاق سراحهم إلى الكشف عن مصير المعتقلين ومكان وجودهم.
في ضوء ذلك يمكن القول إن مشاركة المرأة العراقية في الثورة ضد البريطانيين, سواء كانت تلك المساهمة عفوية أو واعية, تعد البذرة الأولى نحو انطلاقها في الحياة السياسية لتفرض نفسها على معظم الذين كانوا لا يؤمنون بقدرتها على خوض معترك الحياة بما فيهم عدد من قادة السياسة في العراق (كان عبد الرحمن النقيب رئيس وزراء العراق (1920- 1922), لا يسمح لبناته بالسير في باحة الدار دون حجاب, خشية أن تمر طائرة في السماء فتقع عين الطيارعليهن وهن غير محجبات) وهذا ما توضح من خلال إصرارها على اخذ دورها في الحياة, لاسيما بعد قيامها بإصدار مجلة نسائية تعنى بمشاكلها, إذ تُعد أول مجلة نسويه في العراق تحت اسم (مجلة ليلى) من قبل الآنسة بولينا حسون. ومما يلفت النظر أن صدور هذه المجلة جاء متزامناً مع انبثاق أول مجلس تأسيسي عراقي, إذ طالبت المجلة أعضاء المجلس بضرورة مساهمتهم في إنجاح النهضة النسوية الناشئة وأن ذلك - كما أشارت المجلة -:" منوط بغيرة وشهامة أعضاء المجلس الذين تحملوا مسؤولية تأسيس الحياة الديمقراطية في العراق وان هذه الحياة هي ليست للرجال فقط ". وفي عددها الصادر في الخامس عشر من نيسان عام 1924, أشارت المجلة إلى أن مقالتها الأولى كانت تهدف إلى لفت أنظار النواب من اجل تحقيق مطالب المرأة السياسية, وعرجت في مقالتها على الجدل الذي حصل حول هذا الموضوع في جلسة مجلس النواب بين معارض ومساند (.صدر العدد الأول منها في 15تشرين الأول 1923المصادف 4ربيع أول 1342في 48 صفحة , ووشحت غلافها بعبارة (في سبيل نهضة المرأة العراقية) وكتب عليها أيضاً (مجلة نسائية تبحث في كل مفيد وجديد في ما يتعلق بالعلم والفن والأدب والاجتماع وتدبير المنزل), لكنها توقفت عن الصدورعام 1925بعد صدورعشرين عدداً منها نتيجة الهجمة التي شنت عليها من قبل الرافضين لنهضة المرأة
إن صدور هذه المجلة, وتناولها موضوع الحقوق السياسية للمرأة العراقية من خلال المطالبة الصريحة بهذا الحق, يعد نقطة تحول كبير في مسيرة المرأة العراقية التي بدأت تتلمس طريقها في نيل حقوقها, ومشاركتها الرجل في المجالات كافة, الأمر الذي أدى بأعضاء المجلس التأسيسي إلى مناقشة ضرورة إصلاح وضع المرأة, من خلال إشارة بعض النواب إلى أن الحياة الاجتماعية لا يمكن أن تبنى على نحو حسن إلا على قاعدة"تعميم التهذيب وخاصة النسوي".
كان لدخول المرأة العراقية مجال التعليم والتوسع فيه أثرٌ فاعلٌ في تنامي وعيها بضرورة المطالبة بحقوقها المسلوبة, لكن هذه المطالب لم تكن لتتحقق لولا مساندة بعض من أصحاب الفكر التنويري كعلماء الدين والشعراء , إذ بذلوا ما في وسعهم لخدمة قضية المرأة, على الرغم من ردة الفعل الكبيرة التي واجهوها من قبل المجتمع بمختلف شرائحه.و يُعَدُ موقف الشيخ أحمد الداوود وإصراره على ضرورة تعليم المرأة, ذا أثر بالغ في النهضة النسوية في العراق , عندما قام بإدخال اثنتين من بناته (ابنتاه هما حسيبة وصبيحة , فالأولى أصبحت مديرة للثانوية المركزية والأخرى هي أول فتاة مسلمة تدخل إلى كلية الحقوق) في أول مدرسة للفتيات, وتحمل في سبيل ذلك الأذى والتجريح من قبل المجتمع, الذي لم يُثنهِ عن مشاركة ابنته (صبيحة) في مهرجان سوق عكاظ, على الرغم من معارضة السيد عبد الرحمن النقيب. ان سوق عكاظ مهرجان شعري أقامه المعهد العلمي في بغداد في الرابع والعشرين من شباط عام 1922, وكان الغرض منه تحفيزالأجيال إلى المعرفة والتعليم وحضي برعاية الملك فيصل الأول , فمن ضمن فعالياته أن يقوم احد الشباب بتمثيل دور قيس بن ساعدة بينما تقوم فتاة بتمثيل دور الخنساء ووقع الاختيار على صبيحة الشيخ داوود, إلا أن السيد عبد الرحمن النقيب عارض الفكرة, لاسيما أن الفتاة هي حفيدة الشيخ داوود الذي درس النقيب على يديه الحديث والأصول , بَيدَ أن الشيخ أحمد الداوود أصرعلى أن تشارك ابنته في المهرجان فكان له ما أراد
أما شعراء العراق فلا يستطيع احد من المهتمين بتاريخ النهضة النسوية في العراق إغفال مواقفهم الشجاعة في هذا المجال, ومن أبرزهم شاعرا العراق الكبيران معروف الرصافي ,وجميل صدقي الزهاوي, فالأخير يعد في مقدمة المدافعين عن تعليم المرأة, وكان دوره كبيراً في فتح أول مدرسة للإناث في العهد العثماني عام 1899 وهي مدرسة إناث رشدي مكتبي, كما أنه أول من طرح فكرة تحرير المرأة العراقية في مقالته التي نُشرت في جريدة المؤيد المصرية في عددها ذي الرقم (6138) الصادر عام 1910بعنوان (المرأة والدفاع عنها). كما أن أغلب قصائده عبرت عن آرائه الفكرية الداعية إلى تحرير المرأة وتخليصها من القيود الاجتماعية.
أظهرت دعوة الزهاوي لتحرير المرأة نتائجها, بتوسيع التعليم النسوي لاستقطاب أكبر عدد ممكن من النساء اللاتي أظهرن رغبة في التعليم, كما أثمرت دعوته بتأسيس أول نادٍ نسوي في العراق, وهو(نادي النهضة النسوية)االذي تأسس في بغداد وبدأ أعماله في الرابع والعشرين من تشرين الثاني عام 1923برئاسة السيدة أسماء الزهاوي شقيقة الشاعر جميل صدقي الزهاوي وأبنة مفتي العراق محمد فيضي الزهاوي , انضمت له زوجة جعفر العسكري وزوجة نوري السعيد وأصبحت الأخيرة نائبة لرئيسة النادي. أعلن عن أهدافه في ثلاثة محاورالأول فتح دورة لتعليم الأميات , والثاني هو القيام بخياطة الملابس للفقيرات ,والمحور الأخيرتضمن القيام بتربية عدد من اليتيمات وتعليمهن، بتشجيع من بعض الشخصيات المؤيدة لفكرة تحرير المرأة في مصر وسوريا ولبنان في مقدمتهم الأميرة (نور آل حمادة) ,رئيسة المجمع النسائي العربي التي بعثت رسالة إلى الشاعر الزهاوي تضمنت الثناء على مناصرته للمرأة العراقية من أجل نيل حقوقها الشرعية والشكر بإسم المجمع النسائي العربي لمساعيه في هذا الجانب, كما طلبت منه تأسيس فرع للمجمع في بغداد أو جمعية نسائية مستقلة تكون عضوا ً في المجمع العربي. وبعد تبادل الرسائل بين الزهاوي وشقيقته أسماء والسيدة نور آل حمادة تم تأسيس النادي الذي يعد أول نادٍ نسوي في العراق. وقد تأسس في بغداد وبدأ أعماله في الرابع والعشرين من تشرين الثاني عام 1923برئاسة السيدة أسماء الزهاوي شقيقة الشاعر جميل صدقي الزهاوي وأبنة مفتي العراق محمد فيضي الزهاوي , انضمت له زوجة جعفر العسكري وزوجة نوري السعيد وأصبحت الأخيرة نائبة لرئيسة النادي. أعلن عن أهدافه في ثلاثة محاورالأول فتح دورة لتعليم الأميات , والثاني هو القيام بخياطة الملابس للفقيرات ,والمحور الأخيرتضمن القيام بتربية عدد من اليتيمات وتعليمهن.
كان للشاعر جميل صدقي الزهاوي دورٌ كبيرٌ في مسيرة النهضة النسوية في العراق, لكن هذا الدور لم يكتب له النجاح لولا المساندة والتأييد الذي أبداه الشاعر معروف عبد الغني الرصافي لقضية المرأة في أواخر العهد العثماني ثم اخذ يجاهر بقضية تحريرها بعد تأسيس الدولة العراقية عام 1921,من خلال قصائده التي كانت تثير غضب كثير من أصحاب الرأي الآخر, كما تجلت تلك المساندة عندما شنت حملة معارضة ضد فكرة الزهاوي في تأسيس نادي النهضة النسوية عام 1923من قبل رجال الدين, عندها دعا الزهاوي الشاعر معروف الرصافي إلى كتابة الشعر لنصرته في فكرة تأسيس نادي النهضة النسوية, وفعلاً كان الرصافي خير سند لزميله الزهاوي في مناصرة تحرير المرأة العراقية من خلال قصائده التي نشرت على صفحات الجرائد أو التي ألقاها في مناسبات مختلفة.
كان للأفكار الماركسية مجتمعة وليس على مستوى المناداة بتحرير المرأة فقط, صداها الواسع في مختلف أنحاء العالم نتج عنه قيام أول ثورة نادت بتلك الأفكار, وهي ثورة اكتوبر الاشتراكية عام 1917, وكان العراق من أوائل البلدان العربية التي وصلت لها تلك الأفكار في بداية العقد الثالث من القرن العشرين, وبالتحديد عام1920عندما تم تأسيس أولى الحلقات الماركسية من قبل (حسين الرحال), وعُرفت بإسم (جماعة متدارسي الأفكار الحرة), وضمت بين صفوفها عدد من المثقفين, وكانت تعقد اجتماعاتها في بادئ الأمر في إحدى غرف جامع الحيدر خانة ببغداد, وكانت أولى دعواتهم للاشتراكية علناً قد تجسدت في كتابات عوني بكر صدقي, احد أهم الأعضاء في تلك الجماعة, التي نشرها عام 1921بقوله:" ولما كانت الأمور بنتائجها والمبادئ بما لها من السلطة والتأثير في نفوس أتباعها فقد ظهر للملأ أن أقوى مبدأ إنما هو الاشتراكية ".
ولنشر أفكارهم قررت المجموعة في الثامن والعشرين من كانون الأول 1924 إصدار مجلة باسم (الصحيفة), التي رأى كثيرٌ من الباحثين خطأ بوصفها جريدة على الرغم من كونها مجلة.
نشرت المجلة في عددها الأول مقالة تناولت أوضاع المرأة العراقية بعنوان (حالة المرأة الاجتماعية والحقوقية وطرق إصلاحها) بقلم محمد سليم, تطرق فيها إلى عملية التطور التاريخي الذي مر بها النظام العائلي وضرورة مواكبة هذا التطور الذي أيدته الشريعة الإسلامية بعد أن ثبت أساسه وتحسنت بعض صفاته, وأن الشريعة أرادت أن ترفع بعض التقاليد المريرة كالوأد مثلاً وأبقت على بعضها الآخر بتحديده وتقييده ببعض الشروط, وعليه فان " تطور المرأة واكتسابها حقوقها وامتيازاتها المغصوبة لكي تحل محلها المناسب في المجتمع أمر مهم ولازم يحتم على كل وطني السعي في تعجيله وتسهيله إذ إننا في عرفة دور يتطلب من المرأة – كالرجل- الاندماج في الحياة العملية والاقتصادية والاستعداد لكفاح الحياة بصورة مستقلة عن الرجل". وفي عددها الثاني تطرقت في مقالاتها إلى أوضاع المرأة, ومنها تعدد الزوجات, والنتائج المترتبة عليه, كما نشرت الصحيفة عرضاً وافياً لكتابي قاسم أمين المعنونين (تحرير المرأة) و(المرأة الجديدة) اللذين أثارا ردود فعلٍ بين أوساط المحافظين, وفي عددها الثالث نشرت الصحيفة قصيدة موقعة بإسم (بسيم), تحمل عنوان (أيتها الفتاة) جاء في مطلعها:
" ارفعيه
مزقيه
واطرحيه
بين أحجار القبور
وانهضي سافرة الوجه وغني
هكذا كان السفور
ليس عاراً
أو شناراً
أن يجارى
سير تيار الدهور
فارفعي البرقع عنك واطرحيه
تحت نيران القدور"
أثارت تلك القصيدة ضجة كبيرة ,إذ تعرض كاتبها إلى انتقاد شديد من قبل الضابط المسؤول على تدريبه في ساحة التدريب بحضور عدد من الطلاب, كما تعرض إلى الطرد من البيت من قبل والده, بل إن احد الوعاظ في المساجد قد أفتى بأنه يستحق القتل شرعاً لأنه روج إشاعة فاحشة.

عن رسالة (نزيهة الدليمي ودورها في الحركة الوطنية)