ستيفان تسفايج وصورة لينين

ستيفان تسفايج وصورة لينين

كاظم حسوني
شاء ستيفان تسفايج أن يفارق الحياة منتحراً في 23 شباط 1942 بعد مغادرته وطنه المانيا إثر نشوب الحرب العالمية الثانية، ليصبح مطارداً كالعديد من أقرانه الأدباء الألمان، فانتقل في عدد من البلدان، لكن الغستابو كان في أثره، فكانت إقامته في لندن لفترة وجيزة قبل ان يقيم في البرازيل في آب 1941 بصحبة زوجته الثانية،

الا ان تصاعدت اخبار الحرب وانتشار فظائعها على يد الفاشيست، اصابته بالاكتئاب والقنوط، فكان يسجل يومياته مدوناً مسارات الاحداث، اذ كتب ذات يوم ان مايبعث اليأس في نفسي هي الكارثة التي جلت بأوروبا والزاحفة باتجاه بقية بقاع العالم، وهذا الانتكاس الخطير لقوى الخير، فالصور التي رسمها تسفايج عبر رسائله ويومياته تفصح الى حد كبير مدى الدمار الذي حاق بالانسانية، مثلما تكشف مقدار تأزمه واتساع محنته، قبل اقدامه على الانتحار مع زوجته بمدينة (بيترو بوليس) البرازيلية، تاركاً رسالة اعتذار الى اصدقائه اوضح فيها انه لم يعد يطيق رؤية الفاشية ويسمع اخبار انتصاراتها كل يوم وهي تدوس باقدامها الوحشية الشعوب البريئة، وعقب وفاته عثر في مخلفاته على مخطوطات غير منشورة، منها (عالم الأمس، ذكريات اوروبي) وفصول جديدة من كتابه (ساعات القدر في تاريخ البشرية) هذا الكتاب الذي ظل على الدوام اثيراً لديه، وحظي باهتمامه وأولاه جل وقته، اذ دأب للعودة اليه كل بضعة اعوام مضيفاً اليه فصلاً جديداً حتى اواخر حياته، ففي رسالته الى رومان رولان قال بشأنه (على الكاتب ان يعرف البشر لا من التاريخ فحسب شأن المؤرخين، فلكي يصف المرء رجال الماضي وصفاً حسناً لابد له ان يكون عرف الاحياء، والمؤرخ لايكفي ابدا، اذ لابد له ان يكون ايضاً عالماً نفسياً) وقد اثبت تسفايج عبر نتاجه الادبي ودراساته وتراجمه قدرة فائقة في التحليل النفسي خاصة في تناوله لحياة العظماء الاعلام، من بناة الفكر والفلسفة والادب، امثال نيتشه، هولدرن، دوستويفسكي، بلزاك، ديكنز، تولستوي، كلايست، ستندال، وتجلت موهبته الاصيلة عبر اسلوبه الآخاذ الذي طبع كتاباته المتنوعة وامدها بالعمق والتحليل سعياً منه لاكتشاف سر الرجال العظام وسبر اغوار افكارهم ونوازعهم بغية التوصل الى ماغمض من ابداعاتهم، ولقد جاءت دراساته عن عباقرة الأدب كشكل من اشكال الفن، فاق فيها كل من كتب في التراجم والسير امثال هنري ترويا، وهنري مور، معترفاً بتاثره بمؤرخ الأدب الناقد الدانمركي جورج برانديس (1842 ـ 1927) الذي ترجم للرجال الاكثر شهرة كيوليوس قيصر، وشيشرون، وغيرهم، اذ يصفه تسفايج بالقول (هذا الشيخ العظيم يتوافر لديه ارهاف نادر في الذوق واللياقة، فهو لا يدخل الملل ابدأ بالتفاصيل ولا يختار الا مايعيب الجوهر والصميم.
(الرجل الذي يسكن عند الاسكافي)
ومن ساعات قدره الاخرى صورة تاريخية اسماها المؤلف (القطار المختوم)، وفي اسفلها عنوانا اخر (لينين 9 نيسان 1917.. الرجل الذي يسكن عند الاسكافي وفي مستهلها يقول تسفايج: كانت جزيرة السلام السويسرية الصغيرة التي تحدق بها الحرائق من كل حدب وصوب من جراء الطوفان العاصف الذي نجم عن الحرب العالمية، في تلك السنوات اي في اعوام 1915، 1916، 1917، 1918، على نحو لاينقطع، مسرحاً لرواية بوليسية مثيرة، وفي الفنادق المترفة كان مبعوثو الدول المتخاصمة يمر بعضهم ببعض ببرود، كان لم يسبق لهم قط ان عرف بعضهم بعضا، وكل واحد منهم يحمل المهمة ذاتها اذ كان منهم النواب، وامناء السر، والملحقون في السفارات ويقومون باعمال المراقبة، والترصد، والتجسس، وفي كل مكان تعمل منظمات بعضها ضد بعض في الفنادق، والمقاهي، والمنازل، والسفارات تنصت على بعضها، وترسل التقارير والبرقيات يوماً فيوماً، ومن ورائها العملاء الكبار والصغار، والكل كانوا في ضجيج عمل متقاطع اشبه بالحرب الكلمات والاتصالات والبرق، حتى باتوا لايعرفون انفسهم في حمى العمل التجسسي أمطاردون أم مطاردون جواسيس ام موضوعون تحت رقابة الجواسيس، ام معرضون للخيانة ام خائنون، لكن تسفايج يستثني رجلاً واحد لا يوجد عنه الا القليل من التقارير في تلك الايام، ولم يثر الانتباه، ولا يؤبه الى حد بعيد، ولم يكن ينزل الفنادق الفخمة، ولم يكن يقعد في المقاهي، بل كان متخفياً يسكن مع زوجته عند اسكافي في عزله كاملة، في احدى الحارات المزدحمة القديمة، وكان جيرانه زوجة خباز، وايطالي وممثل نمساوي، ولايكاد يعرف رفاق المنزل عنه اكثر من انه روسي، وانه اسمه صعب النطق، لكن قيمة المنزل كانت تعرف أنه هارب من وطنه لكثير من السنين وانه لايوجد تحت تصرفه ثروة كبيرة ولايمارس ايا من الاعمال التي تدر مالاً، هذا الرجل القصير المتين البنيان لايلفت النظر ويعيش حياة بسيطة، فهو يتجنب المجتمع، وقلما ياتيه زائر، غير ان يذهب الى المكتبة العامة بصورة منتظمة كل صباح الى الظهيرة، ثم يعود كل مساء اليها، يقول المؤلف ان الناس في العادة لاينتهبون الى البشر المنعزلين الذين هم الاكثر خطراً على الدوام وفي كل حركة تثوير للعالم، وهم الذين يكثرون من القراءة والتعلم، لكن بعض الناس يعرف عنه على وجه الخصوص انه كان في لندن محرر مجلة صغيرة متطرفة للمهاجرين الروس، وانه يعد في بطرسبورغ زعيماً لحزب، وكان لايحفل به احد، اما الاجتماعات التي يدعو اليها احياناً في مقهى بروليتاري صغير فياتي اليها على اقصى تقدير خمسة عشر الى عشرين فرداً، اكثرهم من الشباب، ولكن مامن احد ينظر الى الرجل القصير الذي يدل جبينه على الصراحة، نظرته الى رجل خطير يدعى فلاديمير ايليتش اوليانوف، الرجل الذي يسكن عند الاسكافي.
تحقق الأمل
ذات يوم وهو الخامس عشر من اذار 1917 يأتي النبأ كالصاعقة يفيد بنشوب الثورة في روسيا، يأبى لينين ان يصدق ذلك اول الامر، لكن بمرور الايام تاكد صحة الخبر، اذ عزل القيصر واعلنت حكومة مؤقتة، ويكون البرلمان، والحرية لروسيا، والعفو عن السجناء السياسيين، كل ما كان يحلم به منذ سنين، وكل ماكان يعمل من اجله (اي لينين) منذ عشرين عاما في تنظيم سري، في السجن، وفي سبيريا، والمنفى قد تحقق، دفعة واحدة، ويبدو له ان الملايين من القتلى الذين اقتضتهم الحرب حسب تسفايج، لم يموتوا عبثا، بل باتوا شهداء من اجل الدولة الجديدة، دولة الحرية والعدالة التي تتشكل الآن، والآن يتاح لآلاف المهجرين الروس في المنافي العودة الى الوطن، لا بجوازات سفر مزورة، ولا بأسماء مستعارة، ولاتحت خطر الموت في مملكة القيصر، بل مواطنون احرار في البلاد الحرة، وهاهي برقية غوركي المقتضبة ترد في الصحف (عودوا جميعاً الى الوطن).
خيبة أمـل
بعد بضعة ايام يتضح ان الثورة الروسية التي كانوا يحلمون بها ليست ثورة الشعب، بل كانت انقلاباً في القصر ضد القيصر بتدبير من الدبلوماسيين الانكليز والفرنسيين لمنع القيصر من عقد الصلح مع المانيا، انها ليست الثورة التي عاشوا من اجلها، وهم مستعدون للموت من اجلها، بل هي مؤامرة احزاب الحرب، من الامبرياليين والجنرالات الذين لا يريدون احدا يقف دون تنفيذ خططهم، وسرعان مايدرك لينين وجماعته حقيقة الامر، وهاهي الحكومة الجديدة تحظر العودة عليهم ودعت الدول الى احتجازهم عند الحدود وعدم السماح لهم بالعودة الى روسيا، وعند الحدود ثمة لوائح سود باسماء كل اولئك الذين شاركوا في مؤتمر الاممية الدولية الثالث.
وتتوالى برقيات لينين، واحدة اثر اخرى، الى بطرسبرغ، غير انها يتم احتجازها او تظل معطلة، اذ يعلم اعضاء الحكومة على وجه الدقة، الى اي مدى تبلغ قوة خصمهم فلاديمير ايليتش لينين، وحيويته وتطلعه الى الهدف، وخطورته القاتلة.
فيما يرى لينين انه حان الوقت للعودة الى روسيا، ولابد له ان يقوم بثورته بدلاً من ان يقوم بها الآخرون، لابد له ان يعود باي ثمن قبل تمييعها وافسادها وان لا يظل محتجزا هنا في سويسرا، وكان الطريق مسدوداً في وجه لينين عن طريق البلدان المتحالفة سواء اكان خروجه عن طريق المانيا، ام النمسا، بحكم كونه من الرعايا الروس،أو بحكم كونه تابعا لدولة معادية، لكنه رغم كل الصعوبات يرتب بمشقة رحلة عودته مع رهط من رفاقه عن طريق المانيا، والملفت في لينين بعد دخوله الارض الروسية، يرمي بنفسه قبل كل شيء على الجرائد، لقد مضى عليه اربعة عشر عاما لم يكن فيها في روسيا، وان هذا الايديولوجي الحديدي، لا ينفجر بالدموع شأن الاخرين، كان ينظر الى الرافد ليفحص ويتقصي تطورات الاحداث وموقف الحكومة، وعند دخول القطار المحطة الفنلندية ياتي الجواب خارقاً، يعبر عن الواقع، ويشي بمدى اهمية هذا الرجل والامال المعقودة عليه، اذ يكون الميدان الهائل طافحاً بعشرات الالوف من العمال، وحرس الشرف، في انتظار العائد الى وطنه من المنفى، وتدوي اصوات الاممية الدولية، وحين يخرج فلاديمير لينين، تتلقف الرجل، الذي كان، حتى منذ اول امس، يسكن عند الاسكافي، مئات الايدي، ويرفع على سيارة مدرعة، وتوجه عاكسات الضوء من المنازل اليه، ومن المدرعة يوجه الى الشعب اول خطبة له، وتتزلزل الشوارع، وسرعان ماتكون قد بدأت (الايام العشرة) التي تهز العالم، وكانت القذيفة قد ضربت ضربتها وحطمت مملكة، وعالماً.. وكان وصوله انشأ حسماً لتاريخ طويل من سلطة القياصرة، ليدق ساعة قدر روسيا وتحول مسيرة شعب وامة.

(ساعات القدر) من اصدار دار المدى/
ترجمة محمد جديد