اول تحقيق صحفي في العالم عن السودان الجنوبي

اول تحقيق صحفي في العالم عن السودان الجنوبي

الستار الحديدي الذي يفرضه روبرتسون السكرتير الإداري لحكومة السودان على الجزء الجنوبي من السودان لا يقل مناعة عن الستار الحديدي الذي يفرضه ستالين حول روسيا الحمراء!
وقلائل هم الذين استطاعوا الدخول وراء الستار الحديدي في جنوب السودان وما زال كثيرون يذكرون الضجة التي قامت في الصحف المصرية والأبحاث التي نشرت حول المصري الجريح – وزوجته – الذين أصيبا بحادثة في جنوب السودان..

والذي لم تذكره الصحف إن المصري الجريح في السودان وهو الأستاذ السيد النحاس المحامي الذي قام بهذه المغامرة الجريئة مع زوجته وهما بعد في شهر العسل – هو في نفس الوقت مدير مكتب دار أخبار اليوم في الإسكندرية..
وهذا هو التحقيق الأول من وراء الستار الحديدي في جنوب السودان..
آخر ساعة

أدركت سر الستار الحديدي الذي فرضه الانجليز على جنوب السودان حين شهدت أشنع جرائم الاستعمار في العصر الحديث.. تلك الجرائم التي ارتكبها الانجليز في الجنوب عامدين طوال عشرات السنين.. والتي ترتكبها في كل يوم حكومة السودان باسم الحكم الثنائي المزعوم.. باسم انجلترا التي دبرت كل شيء وباسم مصر التي قد لا تدري من أمر هذه التصرفات شيئاً.
وكانت هذه الجرائم أول ما وقعت عليه عيني من حقائق الجنوب!.
في لحظة وصولي الى الملكال عاصمة مديرية أعالي النيل.. صدم عيني وعقلي منظر مذهل منظر رجال ونساء.. آدميين يروحون ويغدون في شوارع المدينة.. في منتصف القرن العشرين.. في حالة عرى كامل لم يروا معه حاجة الى غصون الأشجار أو ورقة التوت.

هكذا تركهم الانجليز..
وهكذا ارتضى ضميرهم السياسي أن تظل الغالبية العظمى من سكان الجنوب الذين يتزاوجون بين مليونين وثلاثة ملايين.. في هذه الحالة الفطرية المزرية بكرامة الإنسان..
إن قبائل الشلوك والدنكا التوير وغيرها من القبائل النيلية التي تقطن الجنوب لا تزال تعيش حتى اليوم في أطوارها البدائية بفضل مدينة الانجليز وستدهش عند ما تعلم كيف يحافظ المفتشون الانجليز على هذه الحالة ويباركونها..

أكل ما في.. فلوس ما في
وأدركت سر الستار الحديدي حين لمست الحالة الاجتماعية المؤلمة التي تسود مناطق الجنوب والتي تقضي مصالح الانجليز بالاحتفاظ بها حتى لا تزيد مطالب المعيشة عند هؤلاء المساكين فيزعجون السادة الانكليز بالرغبات والمطالب والأجور المرتفعة.
وحين سمعت سكان الجنوب يشكون من الظلم الحانق بهم ويعبرون عن ذلك بلهجة عربية منكسرة ومؤلمة.. "أكل ما في فلوس ما في"
وحين علمت إن اجر العامل الجنوبي في مشروعات الانجليز مثل مشروع الزندى الكبير بمنطقة انزرا يتراوح بين قرش واحد وثلاثة قروش!! وهذه المنطقة تعد غنية بالنسبة الى غيرها من المناطق!!
إن العملة المصرية هي السائدة في السودان.. والقرش هو أغلى أنواع هذه العملة في الجنوب!

الجنوب ومستعمرات بريطانيا!
وأدركت سر الستار الحديدي حين فوجئت برؤية شبكة من الطرق الممتازة تصل الجنوب للمستعمرات البريطانية في أوغندا وكينيا وخطوط الدفاع البريطانية فيها.. وتكاد تجعلها – طبقا لخطة مرسومة – جزءاً من هذه المستعمرات! وبدأت المفاجأة حين أردنا السفر من جوبا عاصمة المديرية الاستوائية الى نيمولي آخر نقطة في الجنوب عند حدود أوغندا.. وكنت قد وطنت النفس على رحلة شاقة ومسالك وعرة بين الجبال والأدغال.
وعبرت السيارة النيل عند جوبا في "معدية" معدة لهذا الغرض.. ثم أخذنا طريقنا الى نيمولي وكانت دهشتي عظيمة حين فوجئت بطريق فسيح منبسط صالح لسير السيارات ووسائل النقل الميكانيكية قد أحسن شقه وتعبيده بين الغابات والجبال مدى 140 ميلا، وعلى جانبيه نظام بديع لصرف ماء المطر.. حتى علامات الأميال لم يغفل صانعو الطريق عن وضعها اما الكباري الفخمة القائمة على الطريق كلما صادفه مجرى ماء أو منخفض سحيق فقد أحصيت منها بضع عشرات..

قطع الشمال عن الجنوب
وشهدت كيف يسخر أهالي الجنوب في شق هذه الطرق وسط أراض صعبة تكتنفها المرتفعات وتغطيها الغابات.
وهكذا عمل الانجليز على تسهيل اتصال جنوب السودان بمستعمراتهم، بل وبالبلاد الإفريقية المجاورة ايضا مثل الكونغو البلجيكي وإفريقيا الاستوائية الفرنسية وعملوا في نفس الوقت على إضعاف اتصال جنوب السودان بشماله، فالمواصلات البرية والحديدية بينهما منعدمة وتقتصر المواصلات على الوسائل النهرية البطيئة، التي تقطع المسافات في أيام عديدة والتي تخضع بالطبع لأحكام الستار الحديدي!

فقراء في الجنة..
وعجبت كيف يكون سكان الجنوب على هذه الحالة من الفقر.. في هذه الجنة المزدهرة.. وعجبت أكثر من محاولة الانجليز في كل فرصة إظهار السودان بوجه عام، وجنوبه بوجه خاص في صورة البلاد الفقيرة المحرومة من نعم الطبيعة ومصادر الثروة وكانت الحقيقة التي واجهتني بمجرد دخولي الى المناطق المقفلة في الجنوب إننا أمام اكذوبة كبرى وان الجنوب قد أوتي من هبات الطبيعة السخية أضعاف أضعاف ما أتيح لمصر او شمال السودان وكل ما في الأمر، ان الانجليز لغاية في أنفسهم أخروا الاستغلال الشامل لهذه البلاد الخام، واحتفظوا للمستقبل بهذا الاحتياطي الضخم من الثروة الطبيعية.. واكتفوا مؤقتا بأوجه الاستغلال الخفية وبإجراء تجاربهم التي أكدت لهم صلاحية الجنوب لأوجه الاستغلال المختلفة في الزراعة والصناعة والتعدين بدرجة تدعو الى الدهشة دفعتهم الى وضع الخطط الطويلة الأمد لاغتيال الجنوب..
وقد شهدت إحدى هذه التجارب الواسعة التي شرع الانجليز في تنفيذها في مشروع الزندي الكبير بجهة انزرا غربي بامبيو وقد جربوا فيه زراعة القطن ثم حلجه ثم غزله ثم نسجه فنجحت التجارب فأضافوا زراعة قصب السكر والبن وبعض المواد الغذائية فنجحت نفس النجاح.
وعلى مسافة 200 ميل الى الشرق من توريت نجحت التجارب التعدينية في استخراج الذهب ولا تزال الغابات المتكاتفة المحتوية على أثمن الأخشاب تنتظر الاستغلال..

يحرقون المانجو والأناناس!
وفي الطريق من جوبا عاصمة المديرية الاستوائية بالجنوب الى آبا بالكتغو البلجيكي ومن باي الى مريدي ومن مريدي الى بامبيو والى امادى ومن امادى الى واو عاصمة مديرية بحر الغزال رأيت الغابات الرائعة من أشجار المانجو الموز وشجيرات الأناناس تمتد مئات الأميال، لايزرعها زارع ولا يملكها مالك فثمارها الغزيرة متاحة لكل عابر.. وقد بلغ من كثرة هذه الثمار وغزارتها ان السلطات الصحية حددت مواسم معينة في كل عام لإحراق الكميات الهائلة التي تتبقى منها.. بعد الوفاء بحاجات السادة الانجليز! منعا للتعفن والأمراض.

هذه هي النوايا
ولعلك أدركت الآن سر الستار الحديدي ولماذا يقيمه الانجليز بين الشمال والجنوب..
على إن الانجليز أصبحوا لا يخفون نواياهم في جنوب السودان بل أنهم يعترفون بها صراحة في التقارير الرسمية لحكومة السودان وقد ورد في صفحة 13 من تقريرها عن تقدم السودان بين سنتي 1898 و 1847 ما يأتي بالحرف الواحد.
"إن عوامل متعددة قد أفضت الى وجود فارق ظاهر بين شمال السودان وجنوبه وقد تجسم هذا الفارق باستعمال اللغة الانجليزية بدلا من العربية في مدارس الجنوب وأصبح سودانيو الشمال يخشون أن تكون النتيجة النهائية تقسم السودان الى نصفين بل وضم النصف الجنوب أو جزءا منه الى أوغندا ويكثر الجدل بين الجانبين حول ما اذا كانت هذه السياسة تحقق المصلحة النهائية لجنوب السودان او لبقية قارة إفريقيا.
وقد يكون الموضوع بأكمله في يوم من الأيام محلا للبحث بواسطة لجنة دولية".

الميرغني باشا يؤكد تمسك السودانيين بالجنوب
ولقد سعدت بزيارة زعيم السودان الكبير السيد علي الميرغني باشا قبل عودتي الى القاهرة وانحصر حديثنا في شؤون الجنوب..
وقال لي سيادته "بان لا حياة للسودان بغير الجنوب، وان المدارس التبشيرية تنفذ سياسة مرسومة لصبغ الجنوب بصبغة خاصة تجعل الاختلاف بينا وبينه وبين الشمال، انه من المؤلم والعجيب ان قبائل العرايا في الجنوب لاتزال على حالتها الفطرية حتى الآن وان يكون الأمر كذلك بعد حكم خمسين سنة.. في حين ان أهالي البلاد المحيطة بجنوب السودان قد تغيرت حالتهم وزالت حالة العرى عنهم بينما ظلت مناطق جنوب السودان على حالتها البدائية وكأنها مغضوب عليها".

والجنوبيون يتمسكون ببقائهم في السودان
وقد سمعت في الجنوب هذه الواقعة وتحققت من حصولها.
في سنة 1946 وقبيل عرض قضية وادي النيل على مجلس الأمن رتبت حكومة السودان مؤتمرا بمدينة جوبا لزعماء قبائل الجنوب رأسه السكرتير الإداري المستر جيمس روبرتسون وحاول الانجليز التساير فيهم لحملها على إصدار إقرار برغبتهم في الانضمام الى أوغندا إلا إن مساعيهم ذهبت هباء وصوت 17 زعيما من 19 الى جانب الرغبة في البقاء بالسودان.
ولم ير المستر روبرتسون في يوم من الأيام مكتثبا غاضبا كما كان في نهاية ذلك اليوم.

السلطان فاروق
وأخيرا فقد سمعت الهتاف باسم ملك مصر في أقصى جنوب السودان..
واضطررنا في إحدى مراحل الطريق بين مريدي وامادى الى الوقوف للراحة في ظلال بعض الأشجار في (حلة) للأهالي وهي مجموعة من المساكن المبنية بالطين والقش على طراز خاص يناسب الحرارة والمطر..
والتف حولنا سكان الحلة من الفقراء البسطاء كسائر أهل الجنوب وكانوا يتكلمون العربية واللغة العربية في الجنوب في نزعها الأخير بفضل خطط الانجليز شأنها في ذلك شأن الإسلام..
وسألناهم عن بلادهم وقبائلهم.. فذكروا لنا عدة بلاد وعدة قبائل..
فعدنا نسألهم أية سلطة يتبعون.. وأجابوا على الفور في حماسة فطرية رائعة إنهم يتبعون "السلطان" فاروق!.
وان السودان جميعه يتبع السلطان فاروق! وان هذه أوامر السيد علي.
واستطرد بعضهم يقول إن هذه الأوامر قد وصلت إليهم بالفعل.. وان جميع المسلمين من سكان هذه المنطقة من أتباع السيد علي الميرغني وهم جميعا يدينون بالولاء للسلطان فاروق.. أما أهالي بعض المناطق الأخرى الذين صبغتهم المدارس التبشيرية بالصبغة التي أرادها الانجليز فان أمرهم يختلف عن ذلك.
وقال بعضهم في سذاجة إنهم يعلمون إن السلطان فاروق والسيد على صديقان.
وعدنا الى السيارة في نشوة بالغة وسعادة وافرة وتبعنا بعضهم لوداعنا واخذوا بالتلويح بأيديهم والهتاف من أعماقهم للسلطان فاروق.

آخر ساعة/ نيسان- 1950