ترجمة وتقديم فوزي محيدلي
قد تكون جائزة نوبل للأدب التي نالها ديريك والكوت القادم من جزيرة سانت لوتشيان في البحر الكاريبي قد أضفت ما يشبه المكانة الأسطورية على الرجل. لكن السؤال هو إمكانية المحافظة على المستوى نفسه الذي ظهر في عمله «أوميروس» (نسبة للشاعر هوميروس). صمد والكوت حتى 2011 ليتواجد من جديد داخل عمله وليعلم أين يضع نفسه بعد تحدي نوبل للأدب.
أخيراً نال جائزة ت.س. إليوت عن ديوانه «طيور البلشون الأبيض”حيث الشاعر يختفي بتواتر وراء أبياته الجليلة بل الفخمة! يلجأ هذا الكاريبي في أغلب الأحيان إلى البدء بصفة المتكلم من ثم يتراجع إلى تواضع الشخص الغائب مستكثراً التكلم بصفة الأنا.
أما سبب تلك المقاربة فهو لأن والكوت يكتب في هذا الديوان الجديد وداعه الخاص. هو يتساءل مثلاًُ عما إذا كانت هذه الأشعار، حين كتبها في عمر الثمانين (هو الآن في الإحدى والثمانين) قد تكون آخر ثماره. وهو يوضح انه في حال شعر بأن موهبته قد «ذوت» عندها سيعمل على «هجر الشعر كما يفعل مع المرأة لأنك تحبها/ ولن تقبل ان تراها تتأذى، على الأقل بسببي...» لا شك أن التفكير في فقدان الموهبة أو وداعها أمر مؤلم لكن هذا لا يمنع الرجل من أن يختم كالتالي:
«كن ممتناً أنك أجدت في الكتابة قبلاً، دع الأشعار الممزقة تبحر منك مثل سرب/ من البلشون الأبيض على شاكلة تنهيدة ارتياح أخيرة طويلة«.
تبدو هذه الطيور هنا متعددة المهام. والكوت يشير إلى نفسه كطائر بلشون.. وبطبيعة تعدد المهام لا بد من الندم أو الأسف، والأسف هنا هو على الحب غير المتبادل لا سيما بالنسبة للإذلال الذي يتعرض له رجل عجوز يقع في حب إمرأة أصغر سناً منه: «إنها تعويذة/ الحب العادي غير المستجاب. لاحظ هذه البلشون/ تخطو شامخة في المرج كفوج غير منتظم، ألوية بيضاء تجرجر أعلامها؛ انها حالات ندم جرى تبييضها/ لذكريات عجوز؛ إنها المقاطع الشعرية غير المستجابة. /صفحات تعصف بل تنفث الأجنحة على المرج، أسرار غير مكتومة».
في كتابه «التقليد والموهبة الفردية» يقول س.ت. إليوت «بمقدرا ما يتكامل الفنان، بمقدار ما يغدو منفرداً بالكامل في داخله، ذاك الرجل الذي يعاني والعقل الذي يبتدع». من جهته نرى والكوت يتجنب الدرب الإعترافي مختاراً درباً ما بعد رومانطيقي أكثر ما هو ملتصق بمناظر الطبيعة حيث دقائق الحياة ظرفية أو عرضية بالنسبة لرؤية شعرية أوسع حيث الذات ليست الموضوع العلني الأوحد.
ما هو أخاذ في ديوان والكوت الجديد كونه يحمل شيئاً من سيرته الذاتية. انه كتاب رجل عجوز يحن بشوق ليوم آخر من الضوء والدفء. انه ديوان تأملي على مستويات عدة حتى بالنسبة لداء السكري عنده، ديوان اجتماعي حيث تذكر الأصدقاء الموتى من الشعراء وهو أيضاً ديوان النمو التجاري لمواطنه سان لوتشيا.
قالت رئيسة لجنة الجائزة آن سيتفنسون في اختيار والكوت: «كانت اللائحة القصيرة لاختيار الفائز منها قوية ومنوعة بشكل استثنائي (من بين الأسماء شيموس هيني) مما جعل من الصعوبة اختيار فائز واحد، لكن لجنة الحكم شعرت أن ديوان والكوت جاء آسراً وخالياً من الخطأ تقنياً ومن نظم إلهام شاعر عظيم».
أما ما كتبه شون أوبراني عن ديوان والكوت في «الأندبندنت”فهو التالي: «والكوت هو إلى حد بعيد فنان المنظر الطبيعي. كل شيء يصل إلى الورقة عبر المكان، عبر الضوء، المناخ والحد، ويطلع من هذه الأقانيم تخيلات غنية وسامية تملأ متن الديوان».
إذن الهرم، السكينة، موت الأصدقاء، والطبيعة الدائرية للزمن هي بعض التيمات القليلة التي تطلع من ديوان والكوت الجديد. إنه يجد الجمال في طيران العصافير، تقوض المباني، في اللهجات المتكسرة، ودائماً وأبداً في البحر.
يتمثل الماء والبحر في القصائد الأربع والخمسين للديوان خلال سفر وعبور أشعار والكوت للعالم من سانت لوتشيا في الكاريبي، إلى إسبانيا في المتوسط وإيطاليا الأدرياتيكي، من نهر الكونغو، إلى أقنية أمستردام المائية. ثمة المطر والماء، المستنقعات، الآبار والشلالات، لذا الماء يشكل «الموتيف» أو الموضوع المتكرر، ليعبّر عن انسياب الوقت، الفصول، حلقة المطر، وكفاحات الإنسان المتكررة، مع ممارسة جيل بعد جيل للحب وخضوعه للموت.
ثمة السلام الذي ينهض من مناظر الطير والغروب. السلام حاضر حين يدرك والكوت مدى هرمه والآلام في جسده، وهو موجود حتى في موت أصدقائه، يقول الشاعر «موتك أشبه ببدء صداقتنا من جديد». (القصيدة المعنونة «7»).
معظم قصائد الديوان غير معنونة، لا علاقة لها سوى ترتيبها العددي داخل المتوالية الشعرية. قلة منها تحمل عناوين مثل القصيدة الأطول «الحاشية الصقلية»، التي تأتي كفاصل يمتد على صفحات ثمان، كما هناك القصيدة التي أعطت اسمها للديوان (بعنوان «طيور البلشون الأبيض») التي تحول عودة طيور البلشون الأبيض صاحبة المنقار البرتقالي إلى صورة لمرور الزمن والموت. تلك المناقير تتحول إلى قلم والكوت الباحث بين التراب عن أود يدعمه.
أعداد لا تحصى من أصناف الطيور تحلق وتتبختر عبر هذه الصفحات نوارس، صقور، مالك الحزين وسرب آخر من البلشون الأبيض. تغدو الطيور رموزاً للجمال، الفن والشعر نفسه. عبرها، كما أسلفنا، يعبّر الشاعر عن إمكانية خسارة موهبة الكتابة مما يحتم هجران الشعر. وهذا ينطوي على الشعور بالخسارة والحزن الممزوجين بقبول الواقع والسكينة. لكن الأمور لا تنتهي هنا، فاللانهائي معروض هنا ومعبّر عنه، التكرار اللانهائي لنفس التراجيديات أو المآسي ونفس الجمالات.» أي وزن، أي وزن من الزمن ولد.. أي جهل بالضفائر اللاهثة، وكأن هذه الصورة يمكن أن تكفر عن القرون: «الفرس، الفتاة البراقة، الرمال التي ينخرها العشب الضار».
عن مجلة نزوى 2015