ديريك والكوت: الشعراء أقوي نقاد للواقع

ديريك والكوت: الشعراء أقوي نقاد للواقع

حاوره في تورينو : جمال الغيطاني
حول منضدة مستديرة لمحت الروائي المغربي الطاهر بن جلون رئيس لجنة التحكيم،وعددا آخر من الشخصيات بينهم ديريك والكوت،عرفته من صوره التي نشرت علي فترات مختلفة في أخبار الأدب،مكاني إلي جواره تماما،صافحته مقدما نفسي،قلت أنني أعرفه من خلال أشعار ترجمت إلي اللغة العربية ونشرت في أخبار الأدب،

ابتسم مرحبا،قال إن هذا جيد،للوهلة الأولي يبدو وجههغامق السمرة،كأنه يمت إلي صعيد مصر،شعره الجعد،وجنتاه العريضتان،عيناه بهما مس من لون أخضر،خلال حوار المائدة سألته عما إذا كان قد قرأ الشعر العربي،قال إنه قرأ أشعار أدونيس
محمود درويش،التقاهما في مناسبات دولية،إنه قادم من أسبانيا،هناك التقي بدرويش،قرأ بعضا من الشعر العربي القديم.
لاحظت ان معرفته بالشعر العربي القديم محدودة جدا،ليس لقصور من الرجل،ولكن لعدم وجود شعرنا القديم في ترجمات ذائعة،منتشرة ومستقرة في لغات العالم.

لم تشكل ردوده إحباطا أو صدمة بالنسبة لي،فجزء كبير من المسئولية يقع علي عاتقنا،نحن العرب الذين قصرنا في ترجمة أدبنا وتقديم أروع ما تضمنه الشعر بمختلف مراحله،كان ذلك ممكنا في مختلف اللغات،لو توافرت الرؤية والدعم المادي،ظل الشعر العربي محصورا في دوائر الاستشراق المحدودة الضيقة. لنري ماذا فعل الفرس لشعرائهم الكبار. أصبح حافظ والفردوسي ومولانا جلال الدين وفريد الدين العطار من شعراء الإنسانية الآن. ويغيب عن الثقافات الأخري الشعر العربي وقممه الشامخة. أتحدث عن القديم وليس عن الحديث،للأسف تختصر ثقافتنا العظيمة الآن في رموز التطرف والإرهاب الذين ظهروا في العقود الأخيرة لاغير،خلال ثلاثة أيام أمضيتها في تورينو،تبادلت الحديث مرارا مع والكوت،وفي اليوم الأخير جلست معه بعد العشاء،كان معظم المشاركين الفائزين والضيوف من الأديب الباكستاني ضيف قرشي إلي سلمان رشدي إلي الروائي الأمريكي ريتشارد فورد،قد سافروا وبقينا نحن لنغادر صباح اليوم التالي.
ولد والكوت عام1930،أي يكبرني بخمسة عشر عاما،فتح عينيه في جزيرة سانتالوتشيا إحدي جزر الكاريبي،تخرج في جامعة الهند الغربية في جامايكا،يكتب الشعر والمسرح،في عام1971حصلت مسرحية 'حلم راهب الجبل' علي جائزة أفضل مسرحية أجنبية عرضت في نيويورك،في عام1992حصل علي جائزة نوبل،يقيم ما بين نيويورك ومسقط رأسه،يسافر كثيرا برفقة زوجته ألمانية الأصل،وهي الرابعة التي ارتبط بها.
سألته عن مكانة الشعر في عالم اليوم،كذلك الرواية،أيهما المعبر بصدق عن عالمنا الآن؟،يفكر والكوت قليلا قبل أن يجيب،يتحدث علي مهل وبجمل قصيرة كأنه ينطق بالقول الفصل،بالحكمة،هذا التمهل في النطق لدي المتقدمين في السن.
قال إن الشعر أكثر رهافة وحرارة من النثر،إن مجاله الأساسي الشعر،حاول كتابة الرواية وفشل،أما الشعر فإنه يتجه إلي هدفه مباشرة،وأحيانا تنفذ إلينا الدهشة بمجرد قراءته،الشعر يبدأ من الجهل به،لذلك نقرأه فنعجب أو ندهش،يسلك طريقا خاصا إلي المتلقي. الكتابة اكتشاف،والشعر جوهر ومركز هذا الاكتشاف،إنه اكتشاف لما نريده،لما نبحث عنه.
قلت إن الرواية يمكن أن تحتوي علي الشعر،لكن الشعر لايمكن أن يتضمن الرواية،قال بعد تفكير،ربما يكون هذا صحيحا،ولكن الشعر الحقيقي يعبر عن جوهر الواقع،عن عمق الألم واليأس.
صمت قليلا،ثم قال:
'لايمكنني أن أتخيل العالم بدون شعر،وإلا فإنها بداية اضمحلال الإنسانية..' سألته عن علاقته بالمكان،عن خصوصية البحر الكاريبي،عن نشأته في جزيرة من جنوده،قال إن الصورة العامة عن البحر الكاريبي في العالم،أنه مكان للسياحة،وهو مكان فريد،جميل،أهم ما في جزره،خاصة سانتا لوتشيا البكارة،غير أن التاريخ الكاريبي يفيض بالحزن،بالأسي،الناس في الجزر من بقايا العبيد الأفارقة بكل معاناتهم،تاريخهم مثقل بالإشجان،المعاناة كامنة خلف كل شيء،معاناة الخطر،معاناة ظروف العيش،معاناة طويلة بسبب الحروب والمعارك المتبادلة،التجربة الكاريبية من أغرب التجارب الانسانية،كثير من المشاكل التاريخية تعيش حتي الآن،لكن الناس أقوياء بالنسبة لما عاشوه من قبل. الأشجع هم الفقراء،البسطاء،الكتابة ليست مهمة تاريخية بالنسبة إليهم،لكنهم بوجودهم وشجاعتهم يقدمون الحافز علي الكتابة لمن يعتبرها مصيرية،الناس هنا من أعراق مختلفة،من ديانات شتي،يعيشون معا في قوائم،في توافق،في سلام،لم انتبه قط إلي أي فروق بين هندي وأفريقي،طبعا توجد مشاكل حياتية يومية لكنها ليست عرقية أو دينية.
يقول إن من يعيش في جزيرة لاتزال الطبيعة فيها بكرا تماما لابد أن يري حقيقة الأشياء في
جوهرها،في مصادرها الأولي،هكذا تبدو لي طبيعة السماء،حركة البحر،تقدم الأمواج البطيء إلي الشاطئ،أحيانا أشعر بأن حركة الإيقاع تلك انتقلت إلي أشعاري،كذلك الوضوح الثاقب،والفواصل بين الأشياء،الشروق واضح،الغروب واضح،الظل قوي،لكن المهيمن هو البحر،البحر موجود حولك في كل الاتجاهات حتي وإن لم تبصره،البحر داخلك،تمشي به ويمشي بك،اللون الأزرق عند شواطئ الجزيرة التي أعيش فيها لا مثيل له،أتوقف عند سيري بحذاء الشاطئ ويخيل إليٌأنني لو نزلت فأنني سأعود بجوهر اللون الأزرق بينيدي،يفيض من إصبعي.
أتذكر سؤالا وجهه إليه صحفي إيطالي خلال مؤتمره الصحفي الذي عقد قبل تسليم الجائزة،حرصت علي حضوره حتي أعرف كيف يفكر،أتعرف علي رؤاه،سأله الصحفي عن رأيه في رؤية الأوربيين لجزر الكاريبي باعتبارها مكانا جميلا للإجازة،بدا من تعابير وجهه أن السؤال لم يعجبه،قال والكوت إن الناس في الكاريبي يعشقون الحياة رغم أي صعوبات أو مشاكل،الاستمتاع بالحياة لا علاقة له بالمستوي الاجتماعي،بالفقر أو الثراء.
يقول إن الوضع الآن ليس مختلفا عن الماضي،سيظل الشعراء دائما أقوي نقاد للواقع،الشعراء نقاد أقوياء لأن بصيرتهم نافذة،أحيانا يلقي بعضهم مصيره كأبطال رغم أنهم لم يحاولوا ولم
يقصدوا إن يكونوا أبطالا،مقتل مايا كوفسكي علي سبيل المثال يؤكد ذلك،لقد كتبت الشعر ضد ستالين،ستالين كانغاضبا جدا،سيظل الشعر في بؤرة الثقافة،أنهغير الثقافة،حتي نهاية الوجود سيظل الشعر وسوف تتعدد أشكال التعبير وتتطور من زمن إلي زمن.
يقول إنه قرأ حافظ وسعدي والعطار والفردوسي والجامي،يقول إن صديقه الحميم جوزيف برودسكي الذي يعيش في نيويورك (حامل نوبل) صرح مؤخرا بأن دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي لو قرأ الشعر الإيراني لما فكر في الحرب ضد إيران،إنه جزء هام من تراث الضمير الإنساني وشاعريتها،إنه يتفق مع برودسكي تماما.
يقول إن البشرية تعيش الآن زمن الخوف.
يتوقف لحظة ليؤكد مرة أخري أننا نعيش زمن الخوف فعلا،إنها ظروف سيئة،نحن في الكاريبي لدينا نفس الخوف،نفس المشاكل،نحن الآن نعبر من زمن إلي آخر،أمريكا كان بلدا ديمقراطيا،والآن أصبح إمبرياليا،أوروبا كانت إمبريالية في الماضي،المشكلة الآن هي الحرية،وبالتحديد الحرية الفردية،ما يفتقده العالم الآن هو التوازن،بدون توازن لن يكون هناك تعقل.
قال بعد تفكير،إنها كانت مفاجأة سارة بالتأكيد،فالجائزة ضخمة ماليا،حوالي مليون دولار،وهي الأرفع في العالم للأدب،لكنه بعد حصوله عليها فكر في أدباء كبار رحلوا عن العالم ولم يفوزوا بها،منهم بورخيس،ونابوكوف،وأدون،وجريس،سألته عن صداقته بجوزيف برودكسي الشاعر الروسي المقيم في نيويورك (نوبل1987)،انه يتحدث عنه كثيرا.
يقول إنه صديق حميم. إنه شاعر كبير ورجل شجاع،قاوم الدكتاتورية بالشعر ورأي الخلل في الوقت الذيغابت رؤيته عن كثيرين،لقد مر بظروف إنسانية قاسية عندما مات والداه أثناء تواجده في المنفي،لم يستطع أن يراهما،أن يودعهما،تأثر وتأثرت بذلك.
قال علي الفور،طبعا،لايدرك قيمة الشعر والشاعر إلا شاعر.
هز رأسه،قال إنه لم يزر أي بلد عربي،لقد قرأ كثيرا عن مصر،وقرأ الشعر المصري القديم،لقد اختفت هذه اللغة،ولكن جوهر الشعر القديم بقي عبر الأزمنة،وصل إلي زمننا،ويبدو بعضه كأنه يمس جوهرنا الآن،هكذا الشعر الحقيقي قلت إن اللغة المصرية القديمة لم تندثر،إنما استمرت في اللغة القبطية المستخدمة في الشعائر الدينية للأقباط وفي مفردات اللغة اليومية،في لغة الحوار بين الناس في مصر.
قال إن هذا جديد بالنسبة إليه،بعد صمت قال: لكن الرموز اختلفت.
قلت إن هذا حقيقي ولكن من شظايا ما تبقي نحاول الإصغاء إلي الأصوات العتيقة.
أومأ علي مهل،مرة أخري أوقن أنه جنوبي،ينتمي بشكل ما إلي الجنوب،أذكر أحد أقواله في حوار منشور له،قال فيه إن الكاريبي يمت إلي الجنوب،جنوب لم يمس بعد،ان ثلاثة أشياء في المكان تثير فينا الإحساس بالضآلة،سماء ممتدة،وبحر بلا نهاية،وبالطبع امتداد المشهد الذي نقف بداخله،ما تعلمناه كمستعمرين صغار أن يكون الخوف أقل درجة،تعلمنا أن سماء إيطاليا
أو ألمانيا هي الأعظم والأرفع مقاما من سماء باربادوس أو أي مكان آخر.
ضحك باختصار مثل جمله.
قال إنه لم يعد موجودا علي أي مستوي. لا فيما يخص الطبيعة أوغيرها،لقد تعلمت أن أري جيدا وأن أنفذ إلي عمق الأشياء وأن أفهم حقيقة ما يجري،ليس حولي،ولكن في العالم.
يقول والكوت. إن تاريخ الجزر كله يبدأ من البحر،إنه من بلاد تمت إلي ثقافة البحر مثل تلك المنسوبة إلي بحر ايجه،ثمة ثقافة السهول وثقافة الجبال،وأهالي الكاريبي يمتون إلي ثقافة البحر،إن التغير يحدث في النفس تأثيرا شديدا من خلال البحر،وربما تنتمي انعزالية الشاعر إلي ذلك الإطار،بالنسبة لي أنا والمعاصرين من الأدباء مثل نايبول ريد،جون هيرن،مازلنا نحتفظ بالدهشة الأولي رغم وصولنا إلي عمر متقدم،لدي كل منا خصوصية قادمة من تاريخه،من الأرض،من العالم الذي عرفه،رغم إننا جميعا نكتب الإنجليزية،وعند الكتابة بلغة فانك ترث تقاليدها.
سألته عما تردد مؤخرا عن كتابته الشعر باللهجة المحلية،أي بالعامية.
يقول إنه يكتب الشعر كما يراه وليس كما يجب أن يراه الآخرون،لايمكن أن يكتب بطريقة ترضي أعدادا واسعة من القراء،بينما أعلم أنه كان عليٌكتابة شيء مختلف،هنا يمكن أن أخسر أكثر من مصداقية الكلمة،لن أفقد المعني بل السياق الحقيقي والفعلي لهذا المعني،المسألة في اعتقادي تتعلق باللهجة،إنني أكتب الآن ما يمكن أن اسميه شعرا محلي اللهجة،
ومن السهل كتابة شعر باللغة العامية ولكن الأصعب هو اختراق الجوهر والوصول إلي الدلالة التي لاتحققها كلمات أخري..
في نهاية حوارنا المتقطع،وأسئلتي التي وجهتها إليه في المؤتمر الصحفي،كنت أقرب إلي الرجل بهدوئه الواثق ودماثته،وطريقته في الحديث التي رسخت عندي جنوبيته،وأكدت لي أن الخصوصية الإنسانية أمر أعمق بكثير مما نتصور.
قبل افتراقنا،سألته عما إذا كان في خططه زيارة مصر.
قال إنه ربمايخطط لذلك في العام القادم،في الربيع.
قلت له إنني سأكون من أول المرحبين،ومن أدلتهإلي ثقافة بلادي.

هذا الحوار اعادت نشره جريدة اخبار الادب المصرية
وكان قد اجراه الراحل جمال الغيطاني
عندما كان رئيسا لتحرير الصحيفة