الكاريبي ديريك والكوت حامل الجزر والأرخبيلات

الكاريبي ديريك والكوت حامل الجزر والأرخبيلات

هاشم شفيق
■ تفخر اللغة الإنكليزية بأن يكون بين كتابها شاعر وناثر وكاتب مسرحي بقامة الكاريبي الشاعر والمسرحي والكاتب ديريك والكوت، حائز جائزة نوبل لعام 1992. ذلك الصوت العميق الموغل في تراب وجذور الجزر الكاريبية، تلك الجزر الحاملة للأساطير والمعجزات الفنية وللاجتراحات الجمالية، في حقول الفن الشعري والغنائي والموسيقي.

ولم يكن من باب المصادفات والمجاملات والبروتوكولات، كونه حاصلاً على جائزة نوبل، أن يمنح جائزة أخرى، رفيعة ومنيفة وذات شهرة عالمية، لا تقل عن نوبل هي الأخرى، إنها جائزة تي. أس.إليوت الشعرية العالمية، وقد نالها بجدارة عن مجموعته الشعرية « البلشون الأبيض». وكان قد ترشّح للجائزة أيضاً الإيرلندي والحائز نوبل كذلك، شيموس هينه، لكن تقرير لجنة الجائزة ومحكميها، لم يتردد لحظة في منح الجائزة لديريك والكوت، الذي برع على نحو لافت في صوغ عوالم وأجواء « البلشون الأبيض « حتى نالت هذه الجائزة الراقية.
الحديث أعلاه مناسبته صدور مختارات جديدة للشاعر ديريك والكوت بالعربية، عن دار التكوين ـ دمشق، ترجمها عن الإنكليزية وقدم لها الشاعر العراقي غريب اسكندر، الذي اجتهد كثيراً في تقريب فضاءات والكوت الشعرية إلى العربية، فهو، أي والكوت، شاعر ليس من السهل القيام بترجمة جلّ أعماله، أو بعضها، كونها تفيد من تراث أفريقي وأسطوري، وتمتح من سموات تمتد طويلاً وعميقاً في تاريخ وجغرافيات وميثيولوجيات وسيميائيّات كاريبية، لا بل تتعدّاها لتغور في مفاصل اللاتينية، وتبحث على نحو مميز ومثير ومدهش، في ملاحم القدم، مثل ملحمتي هوميروس، الإلياذة والأوديسة، ليصوغهما ويعيد كتابتهما، على نحو معاصر، ليُقدِّم عبرهما ملاحم أبناء جلدته من أهل الكاريبي، يقدِّمها في يوميّات معاصرة وحديثة، وترقى لتكون ملاحم إنسانية، جديدة ومغايرة، رغم كونها تحمل نفحة تناصّية، ونفساً مقبوساً، من فضاءات هوميرية، وروحاً متماهية، مع فن جليل وشبه مقدس وتاريخي، ولكن العمل في النهاية جاء من يد خبير وشاعر نادر، ألا وهو الشاعر الكبير ديريك والكوت، ذلك الشاعر الذي تغنى طويلاً بالكاريبي في عالمه الشعري المتداخل والمتنافذ مع ثقافات عالمية عديدة.
المهم في هذه الترجمة الجديدة للعربية، هو تضمينها قسماً كبيراً من ديوانه المهم والمُلفت والأحدث « البلشون الأبيض «، ذلك الطائر الذي ينتسب لفصيلة مالك الحزين ذي اللون الأسود، فصيلة تلك الطيور التي تحوم وتتعايش مع المياه والضفاف والجداول، مع الأنهار والبحار والجزر المائية المترعة بعالم وثير، من العشبيات والمقاصب والنجيلات ومساحات هائلة من المستنقعات الماسية التي هي بمثابة المكان المثالي لهذه الطيور الجميلة التي هي بحد ذاتها، تُكوِّن جزراً وشِعاباً وأرخبيلات.
من هنا تحفل أشعار ديريك والكوت وعوالمها بمفردات الطيور الكثيرة وأنواعها، وأنواع مساقطها وتحولاتها، تصحبها جغرافيات من الأشجار والسواقي والمسطحات المائية، وأنواع من البحار والمحيطات والتيّارات والمناخات والفصول والمدن والبلدات، فضلاً عن الجبال والهضاب والدروب الريفية والشواطئ الذهبية التي ترعرع فيها الشاعر، كجزيرة لوشيا مسقط رأسه، وبلدته المفضلة على غيرها من المدن التي عرفها وأحبها، وهي عديدة، كبريطانيا موطنه الثاني، وعلاقته بكل من فرنسا وإيطاليا والدول الأوروبية والأمريكتين.
إنه نوع من السحر يصحب كلمات ديريك والكوت، سحر الطيور الذي تحلق في دواخله، فهو لا يفتأ يقول : « حينما ينشقّ الضوءُ/ ويئنّ البرقُ كلعنة / وأنت في مأمنٍ بمنزل مظلمٍ في أعماق سانتا كروز، دونما ضوءٍ، فقد انقطع التيار الكهربائي فجأة، تفكر ….أيّ منزل سيكون للصقر المرتجف/ أو للبلشون الناصع/ أو لمالك الحزين بلونه المعتم، أو للببغاوات المذعورات من بريق الفجر الزائف «.
وفي مكان آخر، يتابع رحلته مع البلشون، ذلك الطائر الأبيض، ليظل يجترح ويبتكر عبر جماله، قصائده المُحلقة مثل هذا الطائر الذي يتفقَّده الشاعر، باحثاً ومتسائلاً عنه « لم أرَ البلشونات، طوال نصف أسبوع عيد الميلاد/ لم يخبرني أحدٌ لماذا اختفت/ لكنها تعود الآن مع المطر/ بمناقيرها البرتقالية، وسيقانها الوردية، ورؤوسها الجارحة الى المرجة «.
مرات يتماهى الشاعر ديريك والكوت مع طيور البلشون، مغادراً ذاته، الى ذات أخرى، الى جسد الطائر نفسه، ليكونه أو ليقلده فنياً وجمالياً وحياتيّاً، من شدة متابعته لها، وكثرة مواصلتها لطيرانها، وعبورها في جزيرته الصغيرة، وبيته الصيفي، أو كوخه الذي يلجأ اليه لغرض الكتابة، والتمتع بنعمة البحر والطبيعة.
« عندما يحلّ الجفاف قريباً/ ستصدأ التلال، لكنّ البلشونات/ ستُغطس أعناقها بتموِّج وانحناءة/ تطعن الديدان واليرقات في موسم المطر/ ….. أشترك معها في غريزة واحدة/ هي التغذية النهمة لمنقار قلمي، عندما ينبش الحشرات التي تتلوى كما تتلوى الأسماء / ثم يبتلعها، ريشة القلم تقرأ حينما تكتب «.
ترد في أشعار ديريك والكوت وبخاصة «البلشون الأبيض”اسماء شعراء مثل الإيطاليَّين الكبيرين كوازيمودو وبافيزي، حين يكتب عن صقلية والمدن والأمكنة الإيطالية والأشجار مردداً « باركني بأعضائك المتشابكة أيها السرو «، أو لاجئا الى الأصدقاء الغائبين من الشعراء الإيطاليين « هدئني يا كوازيمودو «.
أما الحكمة والصورة والدوال التي تظل محفورة في الذاكرة، فهي سترد كثيراً في شعره، ولكأنه سيميولوجي يبحث في أصل العلامة والدلالة لهذا الطائر الجميل والمُدهش، أو يسلط ضوء حكمته الفلسفية على معاني ومفردات حياته في هذه الأمكنة، ومراحل عيشه وتنقله بين قارات وحيوات ومنعطفات تاريخية، كقوله في هذه المجتزءات « ليس ثمة هوّة أعمق من التنازل عن السلطة « وفي سطر آخر يقول عن قريته : « هذا المكان الصغير، لا ينتج سوى الجمال « أو « الدخان خطيئة النار « وأيضاً في هذا المقطع اللامع « أنا مصمِّم على العثور على النقاء في التعفّن « وكذلك هنا « هكذا نتحوّل الى استعارات، فلا نغدو أنفسنا، في لغة تجريبية تنمو بلا انقطاع «.