الفيلسوف محسن مهدي.. الرئيس الفخري للاتحاد الفلسفي العربي

الفيلسوف محسن مهدي.. الرئيس الفخري للاتحاد الفلسفي العربي

بقلم: د. عبدالأمير الأعسم
أكمل الأستاذ الدكتور محسن مهدي دراسته العليا في جامعة شيكاغو في الخمسنات من القرن الماضي، فظفر فيها بدرجة الدكتوراه بتميز بأطروحته عن فلسفة التاريخ عند ابن خلدون، Ibn Khaldun`s Philosophy of History، التي برز فيها باحثا من الطراز العالي، فظهرت في كتاب طبع في لندن 1957.

ومثل زملائه من أبناء جيله، شد الرحال الى بغداد ليكون مساهما في بناء جامعة بغداد الفتية، و هو يمني النفس بأنه سيقدم كل ما في وسعه في تدريس الفلسفة في كلية الآداب. لكنه صعق عندما صدر الأمر بتعيينه مدرسا للغة الانكليزية في كلية البنات و محاضرا في معهد اللغات في أول تأسيسه. وشعر المرحوم محسن مهدي بإهانة قصد منها القيمون على الجامعة الى تقليل قيمة انجازاته الأكاديمية في شيكاغو، فلم يقبل بالتسليم لناقصي النخوة و المروءة، فقرر بعد عام (1958) ترك بغداد الى اسطنبول، فبقي فيها أشهرا قضاها في التفتيش عن المخطوطات الفلسفية، ثم رحل الى برلين حيث وجد نفسه غارقا لأشهر أخرى في أبحاث المستشرقين الألمان في التراث العربي الفلسفي و العلمي. لكنه قرر هذه المرة أن يسافر الى لندن التي وصلها (1959) ليستكمل قراءاته و أبحاثه في الفلسفة العربية في الاسلام، فقضى أوقاته في مكتبة دائرة الهند و مكتبة المتحف البريطاني ينبش في المخفي من المصادر التي ستكون مشاريع فلسفية له في شيكاغو التي سمع منها أنه قبل عضوا في قسم الدراسات الشرقية بالجامعة (1960)، وهناك بلغ أستاذ كرسي (1970)، فترشح أستاذ كرسي (كب Gibb) في جامعة هارفرد (1971) فظفر به (1972) من بين خمسة متنافسين كل واحد فيهم فرد الدنيا في الدراسات العربية (وهم: فان إس من توبنكن، وألبرت حوراني من أوكسفورد، و إروين روزنثال من كيمبردج، و نيكولاس ريشر من بتسبورغ، و محسن مهدي من شيكاغو).
وهنا برز محسن مهدي واحدا من ألمع الباحثين في الفلسفة الاسلامية في العالم على مستوى المجلات و الدوريات و الموسوعات و نشر كتب التراث، فقد قطف ثمرة كفاحه من أجل الوصول الى قمة البحث في الدراسات العربية الاسلامية، ليوحي الى ضيقي الصدور من الحاسدين الذين حاربوه في بغداد فصاروا يتشبثون بمعرفته و يزعمون أنه كان زميلا لهم في جامعة بغداد!! لكن هؤلاء لم يستطيعوا أن يكتموا غيظهم عندما دعت وزارة الثقافة العراقية المرحوم محسن مهدي، مع العشرات من الأساتذة العرب و المسلمين و ألغربيين، الى مؤتمر الفارابي و الحضارة الانسانية سنة 1975. فلبى الأستاذ محسن مهدي الدعوة،ولقي من الحفاوة و الاهتمام مثل زملائه المشاركين في المؤتمر، و انتخب رئيسا فخريا للمؤتمر، و هو الذي ألقى كلمة باسم الوفود المشاركة.
و من عجائب الأمور أن بعض أعضاء قسم الفلسفة بجامعة بغداد قاطعوا أعمال المؤتمر كأنهم لم يستوعبوا تماما أن يكون محسن مهدي العراقي القح، والذي يشغل كرسي كب في هارفرد، يمكن أن يعتلي منصة رئاسة المؤتمر. و للحقيقة أقول عندما سألناهم عن أسباب ذلك الموقف الغامض، قال واحدهم أن محسن مهدي من كربلاء، فهو ايراني الأصل!! و كانت هذه الوقاحة دليلا عندنا في هيئة المؤتمرعلى إفتراء هؤلاء على محسن مهدي، كما إفتروا على المرحوم الوردي و غيره من فبل. و العجب، لم يستطع أي واحد من هؤلاء المنتقدين لشخصية محسن مهدي أن يعرفه الناس أكثر من حدود بغداد! فكان هذا الموقف الطائفي غير المبرر، من قوميين متشبثين بالدين، السبب الرئيس لرفض محسن مهدي العودة الى جامعة بغداد، فقد إعتبر أن عرض المسؤولين عليه البقاء في العراق أشبه بمزحة لا معنى لها فقال لي حينها :”ماذا خلف شعبان في قلب رمضان؟”، أي بمعنى ماذا يتذكر من زملائه الذين حاربوه ولم يقبلوه بينهم عندما انتسب الى جامعة بغداد!! وعاد الأستاذ محسن مهدي الى جامعة هارفرد حزينا لأن العراق فيه أناس باقين على إعتقاداتهم التي تصدر عن خبث و ضغينة و حسد، و كان يآسف على زملائه الذين سبقوه و تحملوا كل العنت و هم صاغرون!!
نشر المرحوم محسن مهدي عشرات الأبحاث و الدراسات في الفلسفة الاسلامية، لكن كتبه التي نشرها كان لها من الرصانة ما جعلها مرجعيات أساسية في قراءة الفلسفة. و أبرز كتبه هو كتاب فلسفة أرسطوطاليس لأبي نصر الفارابي، (الذي استكمل بنشره كتاب فلسفة أفلاطون للفارابي الذي سبق أن نشره المستشرقان فالزر و غابريللي في لندن 1945)، كما نشر كتاب الألفاظ المستعملة في المنطق للفارابي أيضا (بيروت 1968)، و هكذا … صار محسن مهدي أوسع مرجع عن الفارابي في العالم.و أذكر أنه كان يكتب لي (و لأني كنت معنيا بالفارابي منذ 1975) فيسألني عما استجد عندي من مخطوطات الفارابي التي كنت أحرص على جمع صورها من مكتبات العالم، فيزداد غبطة، و كتب لي مرة”لماذا لا تتفرغ عاما في هارفرد، كما فعل الشيبي، فكنت أتردد بلا مبرر لانشغالي بالادارة الجامعية على حساب بحثي العلمي منذ سنة 1989، حتى التقيته في مؤتمر ابن رشد في تونس 1998، فكان قد بدأ يتعب و قد تقاعد و سكن باريس، و اهتماماته تغيرت بنشر كتاب ألف ليلة و ليلة، الذي صدر في ليدن بهولندا، فكان العمل الأكثر إشراقا في قائمة مؤلفات محسن مهدي. فقد كانت نشرته المحققة على أقدم المخطوطات، و أكثرها ثقة في تقديم النص بأحسن صوره الممكنة. فكان عمله المجيد الذي تحدى به دوائر الاستشراق و دوائر الثقافة العربية بإخراجه على النحو الذي يسحر قراء العربية قبل الباحثين الذين شهدوا له بطول الباع في التحقيق و التدقيق و تقويم النصوص.
و رحل الأستاذ محسن مهدي، فضجت دوائر الاستشراق و مراكزالبحوث في الجامعات الغربية تنعاه و تذكر اسهاماته الواسعة في تنوير العقل الغربي بالفلسفة الاسلامية، و الفلاسفة العرب و في المقدمة منهم الفارابي. وكم كان حزني عميقا في مؤتمر ابن خلدون في تونس 2006 عندما افتقدته بين المؤتمرين، فقد كان يسعد حقا بتجديد ذكرى ابن خلدون الذي عرفه قبل أكثر من خمسين عاما! لقد غاب محسن مهدي، فأسف على غيابه الباحثون العرب و الغربيون، و لكن أحدا من العراقيين (الا المرحوم كامل مصطفى الشيبي!) لم يذكره!! إن الأستاذالدكتور محسن مهدي الذي كان عالما عراقيا أصيلا و نبيلا، خذله العراقيون، فانتصر عليهم بمجده الكبير، وسيبقى ذكره واحدا من أعظم الأكاديميين العرب على مستوى العالم.