تركي علي الربيعو
كاتب مغربي
الحديث عن الدور الريادي لـ(طه باقر) هو حديث متعد, بمعنى أنه بعيد الغور, ويتجاوز باشكالياته حدود العلاقة, التي تنشأ عادة بين راوي الأساطير وجامعها, لنقل بين النص الاسطوري الذي أخذ شكله وبين مؤله. وفي رأيي ان الحديث عن الدور الريادي, هو بمثابة حنين الى الأصول, وعودة إلى البدايات الاولى,
العودة التي تفرض نفسها على المؤسطر وعلى مؤرخ الأديان والمدون للأساطير, وعلى كل كتابة, تطال تاريخية الأسطورة والفكر الأسطوري في منطقة ما, وأقصد بـ<<تاريخية الأسطورة>> كمصطلح جديد, مجموعة الظروف والأحوال وعوادي الزمن, التي ساهمت في تكوين الأسطورة, وفي مجموع حرتقاتها التي طالتها وغيرت في بنيتها ومرسالها, عند انتقالها من مجموعة بشرية إلى أخرى, شفاها أو كتابة, بحيث تفرض على قارئ الأسطورة أو محللها أن يقرأها بمجموع رواياتها وحرتقاتها. وهي الظروف التي تستجد باستمرار وتدفع إما إلى آفاق جديدة أو إلى أنفاق جديدة.
على صعيد الآفاق الجديدة, تتحول الأسطورة إلى أداة خلق وتحرر جماعي, بينما هي في الأنفاق الجديدة كابح كبير على صعيد الجماعة, تخدم في سياق تحول الجماعة أنساقا سلطوية, كونها فقدت هويتها ومشروعيتها وأصبحت أداة في يد سلطة معينة, تنحصر وظيفتها عندئذ في وظيفة تكرارية واسترجاعية بآن.
أعود للقول- والعود أحمد كما كانت تقول العرب- إن للبدايات الأولى اغراءها, فهي تدفع بالمؤسطر إلى ملامسة تخوم الأكوان الميثولوجية, التي تحدثت عنها ميثولوجيات سابقة, ليساهم عبر حرتقاته الجديدة, في أسطرة, تقدم الأجوبة عن الوجود والأخلاق والمصير وتذكي عند الانسان الديني/ التقليدي, شوقا إلى أسطورة العود الأبدي, وحنينا إلى الأصول <<وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق>>(الحج25). الأصول الأولى المقدسة, فبمحاكاتها- محاكاة بوادرها التي ابتدرها آلهة أو أنبياء او أسلاف عظام مؤمنون- يضمن وقوفه في قلب الحقيقة, فالحقيقة ترتبط بالمقدس وتفجره في الزمان والمكان وتقع في المتن منه. لذلك ليس غريبا أن يقول أحد أهم تعريفات الأسطورة, إن الأسطورة تساوي تاريخا مقدسا(1) وتفرض - أي البدايات والبوادر الأولى- على الباحث في تاريخ الأسطورة أن يعود القهقرى كما يفعل المؤسطر, إلى البدايات الأولى للفكر الأسطوري في فكرنا العربي المعاصر.
في بحثنا عن البدايات الأولى التي يجري تجاهلها, وبهدف استجلاء الدور الريادي الذي مارسه طه باقر, نجد أنفسنا وجها لوجه أمام (المديرية العامة لآثار العراق, 1920) التي شكلت, في وجهة نظرنا, صرحا حضاريا, ساهم بايجابية وفعالية في اغناء المكتبة العربية بأهم النصوص الميثولوجية المكتشفة حديثا, والتي تمت ترجمتها عن الرقم الطينية وباللغات المختلفة. هذا من جهة, ومن جهة أخرى, فقد ساهمت هذه (الدائرة الاركيولوجية) في تشكيل نواة من الباحثين في مجال الاركيولوجيا والميثولوجيا, لنقل ورشة عمل نشطة كان طه باقر واحدا من أهم عناصرها النشيطين, والتي من شأنها لاحقا أن تشكل الأساس المتين لمدرسة عراقية في مجال الاركيولوجيا لم يوجد نظيرها بعد في معظم الأقطار العربية, وستلعب هذه الدائرة دورا هاما, في الحفاظ على الثروة الآثارية من نهب وتسلط البعثات الآثارية في العراق,...
في الوقت الذي تسلم فيه الحصري إدارة المديرية العامة للآثار, التي كانت تسمى في عام 1925 بـ(الدائرة الاركيولوجية) فان طه باقر, ومنذ عام 1934- 1938 كان طالبا في المعهد الشرقي للغات الشرقية في شيكاغو, في اطار بعثة دراسية على حساب وزارة المعارف العراقية, وعند عودة طه باقر, كان الحصري لا يزال في بغداد مديرا عاما للآثار, لكن ثمة علاقة مجهولة ولما تزل خيوطها غير معروفة, جمعت بين الاثنين أو باعدت بينهما, ولكننا نفتقد الى مصادرها.
قبل أن أدلف إلى المحطات الهامة في المسيرة الفكرية لطه باقر التي توجها بتحقيق وتفسير أهم النصوص الأسطورية, أود أن ألفت الأنظار إلى حقيقة هامة وتتمثل في تلك الصلة التي نوهنا إليها, الصلة العضوية الوثيقة بين الاركيولوجيا والميثولوجيا, ففي أحيان كثيرة, نجد تلك العلاقة القوية بين الاركيولوجي وبين محقق النصوص الأسطورية الكبرى, وفي أحيان كثيرة نعثر عليهما في صورة رجل واحد كوجهين لحقيقة واحدة. هذه هي على الأقل مسيرة بعض الأعلام في هذا المجال, هذه العلاقة سوف تختزل لاحقا وفيما بعد, وقد تصبح غير ضرورية بالنسبة إلى محلل الأساطير ودارسها.
كان طه باقر قد حافظ على مسيرته الحافلة, فقد ظل باقر اركيولوجيا ومدققا ومحققا للنصوص الأسطورية, ومفسرا لها والأكثر من ذلك كله مؤرخا للحضارات القديمة.
أن يكون المرء مؤرخا وباحثا في مجال الأساطير, ليس أمرا مستغربا وذلك للأسباب التالية:
أولا- إن الكلمة الانجليزية المقابلة لكلمة تاريخ العربية - يؤكد المفكر والمؤرخ المغربي عبدالله ان كلمة (تاريخ) عربية - هي اسطوريا History , وهي تشي بتلك العلاقة الوثيقة بين المؤرخ ودارس الأساطير, يقول العروي في (العرب والفكر التاريخي 1973), إن كلمة History استعملت فعلا للتعبير عن القصص الخيالية, الميثولوجية, التي لا تخضع لقوانين المراقبة والفحص والتدقيق والتحقيق كحوادث التاريخ القريبة أو البعيدة).(2)
ثانيا: إن الصلة الجلية بين المؤرخ والباحث في الأساطير والتي تظهر في حياة العلامة طه باقر, تشهد في واحد من أهم وجوهها, على استمرار تقليد عريق في كتابة التاريخ عمره مئات السنين, فالباحث في كتب التاريخ العربي الاسلامي, كثيرا ما يعثر على تلك الصلة الوثيقة بين المؤرخ والباحث في الميثولوجيات, والأمثلة كثيرة ولا تحصى, وحسبنا المسعودي, في (مروج الذهب) كذلك الطبري المؤرخ الشهير وصاحب (تاريخ الأمم والملوك) والمعروف بتاريخ الطبري, فهو في آن واحد صاحب التفسير الشهير والموسوم بـ(جامع البيان عن تأويل آي القرآن) وهو التأويل الذي يطال ويفسر النص القرآني كنص - مقدس, وكذلك الحال عند الكثيرين.
ثالثا: إن الظاهرة الميثولوجية بكل زخمها وفعاليتها, هي ظاهرة داخل التاريخ وليست خارجه, وتشكل في وجهة نظرنا أساس الاجتماع البشري, لأن الاجتماع البشري يتأسس في الوهمي والأسطوري. وهذا ما يدفعنا للتساؤل عن سر الجفاء بين المؤرخ المعاصر وحقل الدراسات الأسطورية. عن الخير الخاوي الذي يملؤه في أحيان كثيرة الداعية الايديولوجي بأحكامه المبتسرة والجاهزة, خاصة وإننا لا نزال عالة وفي ميادين كثيرة, وأخص منها ميدان تاريخ الأديان, الذي من شأنه, أن يقدم لنا الكثير مما نحتاجه في قراءتنا لأحداث التاريخ؟ خاصة وأن المحاولات التي ولدت متأخرة على يد بعض المؤدلجين العرب الذين احتموا بالمادوية المبتذلة, والتي سنأتي عليها لاحقا, ولدت ميتة, بحيث ينطبق عليهم قول الشاعر (كساع الى الهيجا بغير سلاح)
إن البحث عن الدور الريادي لـ(طه باقر) هو بحث عن موقع الأسطورة في فكر طه باقر, والذي يعكس في تلك الفترة كما سنرى, انحيازا في فهمه للأسطورة, انحيازا يحيلنا بشكل واضح إلى الإطار المرجعي الذي ينهل منه, وأشير الى ما يمكن أن نصطلح على تسميته ب-(المدرسة الأمريكية في فهم الأسطورة) التي تعكس في رؤاها مواقف عديدة مختلفة ومتباينة في آن.
من هنا فإني, وفي اطار سعيي الى التعرف, على موقع الأسطورة في فكر طه باقر, سوف أتوقف عند محطة هامة في فهمه للأسطورة, اغدو بين اروقتها جيئة وذهابا علي أعوض النقص في بعض المعلومات, التي هي بمثابة نتيجة لبحث يكتبه عربي سوري عن عربي عراقي في هذا الزمن الصعب زمن القطرية الضيقة وأسوارها العالية والتي يجري التطبيل لها في كل حدب وصوب (هذه المعلومات قد تقع في الهامش لا في المتن, ولكن النقد الحديث كثيرا ما يجعل من الهامش مفتاحا للدخول إلى المتن لمعرفة كيفية انبنائه). وتتمثل هذه المحطة في ملحمة جلجامش, الملحمة التي قدم لها وترجمها طه باقر بمساعدة بعض زملائه ممن كانوا يعملون في ورشة مديرية الآثار, والتي سيعاود اليها بعد مضي وقت لا بأس به, ليخرجها بثوب جديد. وهذا لا يعني أن عمل طه باقر قد توقف عند الملحمة الأثيرة على نفسه, بل تعداها الى تحقيق وترجمة معظم ملاحم الخلق البابلية والرافدية, وأخص بالذكر <<ملحمة الخليقة البابلية>>.
ملحمة جلجامش أوديسة العراق الخالدة!
إنها (الأوديسة البابلية) و(أوديسة العراق الخالدة), بين الوصف الأول المقارن وبين الثاني, مسافة زمنية تربو على العقدين وثمة اصرار على أنها - ملحمة جلجامش- أشبه بالأوديسة الهومرية, فمثل ما عندكم (الغرب) عندنا (أي الشرق). هذا ما يفصح عنه بشكل عام خطابنا النقدي والنهضوي الذي يمتد على مسافة تزيد على قرن ونيف, وما يكتبه بنفس الوقت, الكبت الذي يظهر مدى حضور الآخر (الغرب) فينا ومدى اختراقه لنا, فمنذ عدة عقود طويلة والغرب هو الذي يصيغ الأسئلة ونحن نجيب كما بين العروي في (الايديولوجيا العربية المعاصرة). يقول طه باقر في الترجمة الحرفية لنص الملحمة, الترجمة التي شاركه فيها بشير فرنسيس الذي كان يعمل مديرا للتفتيش في المديرية العامة (بوسعنا أن نسميها الأوديسة البابلية من حيث إنها كالاوديسة الهومرية تخلد أقدم قصص الأبطال والبطولة وتزخر بالمادة الأسطورية والدينية).(3)
إنها تزخر بالمادة الأسطورية والدينية, وهذا هو بيت القصيد وذلك على الرغم من أن خطاب طه باقر لا يريد أن يقيم لنا حدودا فاصلة بين الدين والأسطورة وذلك على الرغم من كثرة مقارناته الهامشية. أي التي تقع على هامش المتن وحيث الهامش يضيء المتن.
أعود للقول إنه وفي اطار سعيي الى التعرف على مضمون وموقع الأسطورة في صيرورة فكر طه باقر, سوف أقوم بتقسيم اجرائي مؤقت يخدم السياق الذي نتحرك فيه. التقسيم الأول يقع في المتن, بمعنى أنه يطال نص الملحمة وتاريخية, شكله والتحولات التي طرأت عليه, وذلك لمعرفة مدى الجهد الذي بذله طه باقر في سعيه إلى تقديم نص أسطوري في غاية الجمال والرونق. أما التقسيم الثاني وبالأصح المستوى الثاني, فإنه يدور في فلك فهم طه باقر لملحمة جلجامش وذلك من خلال المقدمات التي كتبها للترجمة العربية الأولى والثانية, ولذلك فاننا لن نكتفي بالدوران معه بل سنناوشه لنكشف ما يبرزه هذا الفهم وما يسكت عنه أو يحجبه.
على صعيد النص: يرقى تاريخ اكتشاف الملحمة إلى أواسط القرن الماضي, فقد عثر على القسم الأعظم من الملحمة في خزانة الكتب العائدة الى الإله (نبو) إله الحكمة والكتابة, في مكتبة قصر الملك الآشوري آشور بانيبال (668- 633ق.م) وقد عثر عليها فريق المنقبين الأوائل في خرائب نينوى في شمال العراق, الفريق الذي يضم كلا من (أوستن ليرد) و(هرمز رسام) و(جورج سميث) وتوالت الكشوفات في مواقع أخرى.
كان أول من ترجم الملحمة هو جورج سميث من المتحف البريطاني 1872 فأثار عمله رجة حماس, قام بعدها واحد من علماء الآشوريات هو بول هوبت Haubt, بنشر هام عام 1884- 1891 تحت عنوان <<ملحمة نمرود البابلية BasBabylonishe Nimrodepox ان جلجامش هو نمرود الذي تذكره التوراة (سفر التكوين 1:8-10). كذلك فان النص الذي ترجمه باقر وفرنسيس تحت عنوان (ملحمة جلجامش والطوفان) هو ترجمة حرفية لم تلق قبولا عند طه باقر فيما بعد- عن ترجمة الكسندر هايدل Heidel والموسومة بـ ملحمة جلجامشThe Gilgamish Epic 1946)) والتي ستظل بمثابة اطار مرجعي لترجمات عربية لاحقة- سوف نتعرف عليها- أقل جمالية وتعبيرا في ترجمة طه باقر اللاحقة.
إذن, بين الترجمة الأولى التي نشرتها مجلة (سومر) العراقية, والتي وضعت نصب عينيها بث الثقافة الاركيولوجية في العراق, وبين الترجمة الثانية التي نشرتها وزارة الاعلام العراقية وبإلحاح من طه باقر, هناك فارق في الدرجة وفي النوع, أقض مضجع طه باقر, ولم يعرف طعم الراحة إلا بعد أن قام باخراج الملحمة بثوبها الجديد. يقول باقر عن الترجمة الأولى (كانت ترجمة حرفية, ولم يتسع الوقت لمقابلتها بالنصوص الأصلية الا في مواطن قليلة) وقد اغتنم باقر فيما بعد تدريسه للنصوص المسمارية لطلاب قسم الآثار في كلية الآداب, حتى تجمعت لديه المادة الكافية, لأن ينهض بترجمة جديدة للملحمة ومن لغتها الأصلية (البابلية) وذلك بأسلوب عربي مبين ودقيق نظرا لوشائج القربى بين اللغتين العربية والبابلية. يقول باقر واصفا ترجمته اللاحقة (بذلك تكون هذه الترجمة العربية هي الترجمة الوحيدة من بين جميع التراجم العالمية الشهيرة التي تقارب الأصل البابلي بالنظر إلى وشائج القربى الوثيقة بين اللغتين العربية والبابلية)(4) ويضيف (واعتمدت على أحدث وأهم ترجمات عالمية موثوقة لمشاهير الاختصاصيين مستفيدا من المقارنة).(5)
هذا الجهد الريادي الكبير الذي توج نفسه باصدار طبعة شعبية للملحمة علها تتجاوز الإطار الاكاديمي, الذي نشأت فيه الملحمة سوف تقف القطريات العربية لتحول دون مروره وستشهد هذه الحقبة على تدخل السياسي بالثقافي الأسطوري, فالعلاقات السورية العراقية التي شهدت انفراجا في أواخر عقد السبعينيات وسمحت للملحمة بالمرور إلى المكتبات السورية عادت وأوصدت الباب نهائيا على إثر خلاف, وبذلك حالت دون أن تصل الملحمة الى أكبر قطاع ممكن, وستكون هذه الظروف القطرية ملجأ لانتشار ترجمات للملحمة وأخص منها ترجمة فراس السواح التي ستعوض النقص ما أمكن.
لكي يتعرف معنا القارئ على الفارق بين الترجمة الأولى والثانية, سوف نسوق أمامنا مقطعين للمقارنة. تتحدث الملحمة عن محاولة الآلهة عشتار وصال جلجامش, بعد أن عاد وخله انكيدو من مغامراتهما التي نحرا بها (خمبابا) الشيطان الذي يحرس غابة الأرز. ترنو الالهة عشتار ربة الجمال والولادة والخصب إلى جمال جلجامش (تعال يا جلجامش وكن عريسي) لكنه يصدها ويعيب عليها هناتها وتعدد عشاقها الذين مسختهم على مذبح شهوتها, في (تموز) إلى (طائر الشقراق) الذي لا يزال يندب جناحه, إلى (ايشولنو) بستاني أبيها الذي مسخته ضفدعا. تقول الأبيات في الترجمات القديمة والمرقمة من 64- 78على لسان جلجامش.
- وأحببت <<ايشولانو>> فلاح نخيل أبيك
- فكان يأتيك بعذوق التمر على الدوام
- ويزود مائدتك كل يوم بالكثير
- وأما أنت فكنت تصوبين عينيك عليه
وتذهبين إليه وتقولين:
- يا <<ايشولانو>> يا من هو لي هلم ننعم بقوتك
- ومد يدك ومس خصرنا
- فيجيبك ايشولانو
- ما مرادك مني
- ألم تخبز أمي? ولم آكل?
- هل آكل الخبز الذي يأتي بالشر واللعنات
- والبردي يكفيني للدفء من البرد
- ولما سمعت مقالته
- ضربته ومسخته خلدا
- وجعلته يعيش في وسط - فلايصيد...
- ولا ينزل إلى.... (6)
أما الترجمة التي اعتمدت الأصل البابلي ووشائج القربى العربية البابلية فنجدها تبوح بشاعرية عالية:
ثم أحببت <<ايشولنو>> بستاني أبيك
الذي كان يحمل إليك السلال الملأى بالتمر بلا انقطاع
وجعل مائدتك عامرة بالوفير من الطعام كل يوم
(ولكنك) رفعت اليه عينيك فراودته وقلت له:
تعال إلي يا حبيبي <<ايشولنو>> ودعنا نتذوق متعة رجولتك
مد يدك والمس مفاتن جسمنا
فقال لك <<ايشولنو>>
ماذا تبغين مني?
ألم تخبز أمي فآكل منها حتى آكل طعام اللعنة والعار?
وهل يدرأ خص القصب الزمهريري
وهل ستكون الحلفاء غطائي ازاء البرد القارص
ولما سمعت كلامه هذا ضربته بعصاك ومسخته ضفدعا
وجعلته يعيش في عذاب مقيم
فإذا ما أحببتني فستجعلين مصيري مثل هؤلاء.(7)
إن نص ملحمة جلجامش, الذي هو أكثر من نص إذا أخذنا بتعريف الاثنولوجي الفرنسي كلود ليفي سترويس للنص الميثولوجي.(8) وبوحداته التكوينية السمينة, هو رؤية للوجود الانساني وقلقه, وقد تمكن باقر من ترجمتها في كتاب يمكن وصفه على الطريقة الأدونيسية بأنه <<أم الكتب القديمة>>(9)
مضمون الأسطورة في خطاب طه باقر:
في غمرة حماسه لملحمة جلجامش, راح باقر يعدد لنا مناقبها ويرصد تأثيراتها في الآداب العالمية القديمة, وأصدائها المتأخرة في الأدب العربي, وذلك على صعيد الثقافة العالمة بحسب مصطلح محمد عابد الجابري في <<تكوين العقل العربي>> الذي يطال حقل الثقافة الرسمية المكتوبة بشقيها البياني والعرفاني. فالملحمة في شكلها الناجز تظهر على أنها:
أولا: أحسن نموذج يمثل لنا أدب العراق القديم.
ثانيا: يصفها الباحثون بين شوامخ الأدب العالمي.
ثالثا: أقدم نوع من أدب الملاحم البطولي في تاريخ جميع الحضارات.
رابعا: وهي أطول وأكمل ملحمة عرفتها حضارات الشرق الأدنى.
خامسا: هي أقدم ملحمة, فقد دونت في الألف الرابع قبل الميلاد, وحوادثها ترجع إلى أزمان أبعد من هذا التاريخ.
سادسا: تمثل الملحمة التراجيديا الانسانية الأزلية المتكررة.(10)
هذا غيض من فيض ما يكتبه طه باقر عن ملحمة جلجامش, كتابة كان يريد لها أن تتجاوز حدود الحاجة ومجرد الكتابة, وتتجاوز بنفس الوقت كل أشكال <<الثفثفة>> والتعبير ل-<<رولان بارت>>(11), الذي يدور من حول الملحمة شرحا وتأويلا, وما بين هذا وذاك ثمة حماس هائل يوجه مسيرة طه باقر في شغله على الملحمة, وفي تقديمه وإخراجه لها, هذا الحماس يمثل قاسما مشتركا لمعظم المشتغلين في الملاحم والأساطير, وبالأخص على ملحمة جلجامش, وأخص بالذكر حماس فراس السواح لها في ترجمته وتقديمه لها.(12) فالأسطورة لها سحرها وجاذبيتها, وإذا ما أخذنا بواحد من التعريفات الحديثة للأسطورة, الذي يربط الأسطورة بالحقيقة, بما هو حقيقي وقدسي.(13) فانه يمكن القول إن حضور الأسطورة ببعدها هذا, سرعان ما يدفع الباحث إلى حماسة قصوى (تدفعه حماسته الى الشعور بأنه وفي قلب الحقيقة وأنه يمتلك كل الحقيقة) وهذه هي ميزة الأدب الديني والأسطوري.
أعود للقول, إن حماسة طه باقر للملحمة, دفعه إلى فك أسرها, الأسر الذي تحكمه عليها الدراسات الأكاديمية وتحصره في دائرتها, واخراجها في طبعة شعبية, فالطبعة الشعبية من شأنها أن تضمن التواصل مع أكبر قطاع ممكن من جهة, ومع التراث الشعبي بحيث يمكن للتأويلات اللاحقة له أن تنفتح على آفاق قد تجد صداها في ملحمة جلجامش, وهذا ما كان يضمره باقر ويصرح به أحيانا, وعلى سبيل المثال فأحد التأويلات اللاحقة يقول بالصلة بين أوتو- بنشتم بطل الطوفان البابلي في الملحمة, ذاك الذي حبته الآلهة بالخلود وضنت به على سائر البشر, وبين الخضر عليه السلام, الذي هو شخصية أسطورية حباها الله بالخلود كما تقول الميثولوجيا الاسلامية اللاحقة, التي تعج بها النصوص الحافة الاسلامية, وأقصد بالنصوص الحافة مجموع التفاسير والشروح والتأويل التي طالت القرآن الكريم.(14)
من طه باقر, إلى الكثير من الباحثين العرب في مجال الأسطورة, إلى استاذ جامعي عربي, والحماس تزداد وتيرته, فلقد دفع الحماس هذا الأخير الى توجيه <<نداء إلى الأحياء>>, الأحياء الذين يمتلكون الثروات, أو الذين يسيطرون على مراكز القرار علهم يقومون بطباعة مؤلفاته, فمن شأنها أن تحرر الأدمغة المغسولة التي غسلتها كتب التوراة ولاهوتيي العهد القديم والمتصهينين في الداخل, داخل المجتمع العربي, الذين يقدرون بعشرات الملايين في الأرض العربية على حد تعبيره.(15)
في مستوى آخر يمكن القول انه من كارل ماركس الذي أفل نجمه مع نهاية العقد ما قبل الأخير من قرننا المنصرم, إلى طه باقر, ثمة اعجاب مشترك يصل الى حدود الدهشة بأساطير الأولين, أساطير البدايات الأولى, والدهشة تأتي من قدرة ذلك الانسان البدائي والبدئي والوحشي كما تصوره التراث الاناسي (الانثربولوجي) على التعبير عن مغامراته الأولية بأساطير خلدته عبر الزمان. فبالرغم من سخرية كارل ماركس من آلهة الاغريق المهزومين أمام الحضارة المعاصرة وتقنياتها, الذي يتبدى بتساؤله: من هو آخيل (بطل الحروب الطروادية) أمام البارود?. ومن هو جوبيتر (إله الصواعق في الميثولوجيا الاغريقية) بالمقارنة مع مانعة الصواعق? إلا أن الأساطير لا تكف عن ممارسة حضورها عليه. يقول كارل ماركس: غير أن الصعوبة التي نواجهها لا تكمن في فهم وكيفية ارتباط الفن اليوناني والشعر الملحمي اليوناني بأشكال معنية من التطور الاجتماعي, بل في كونهما ما زالا ينطويان على متعة جمالية بالنسبة لنا, ويعتبران من نواح عديدة معيارا ومثالا أعلى لا سبيل إلى الوصول إليه.(16)
من وجهة نظر طه باقر أن النتاج الأدبي في وادي الرافدين ذو مكانة خاصة في تاريخ الآداب البشرية لأنه يمثل لنا أولى محاولات الانسان للتعبير عن الحياة ومعانيها بأسلوب الخيال والفن, فالانسان القديم الذي انتقل إلى الطور الحضاري كان مدفوعا بتأمله للحياة لأن ينظر بمنظورين. الأول موضوعي ليفيد من الأشياء ويسخرها في عمرانه البشري, والثاني خيالي فقد كان ينظر إلى الأشياء نظرة خيالية أسطورية, فيعبر عن مظاهر الكون والحياة تعبيرا فنيا خلفه لنا على هيئة قطع فنية أو أدبية نسميها كما يقول باقر نحتا أو رسما أو تصويرا أو قصة أو ملحمة أو أسطورة.(17) ولكن اعجاب باقر بالمحاولات الأولى يظل موازيا لاعجاب ماركس السابق. يقول باقر: وبالرغم من أن هذه كانت أولى المحاولات في تأريخ تطور الانسان فان أروع وأعجب ما سيده الفاحص لآداب وادي الرافدين هو أنها, مع ايغالها في القدم وسبقها جميع الآداب العالمية, تتسم بالصفات الأساسية التي تميز الآداب العالمية المشهورة, سواء أكان ذلك من ناحية الأسلوب وطرق التعبير, أو من ناحية الموضوع والمحتوى, أم من ناحية الأخيلة والصور الفنية>>.(18)
سوف استمر في عرض رؤية طه باقر للأسطورة, ففي بحثه عن أهم ميزات الأدب السومري - البابلي المسطور الذي هو أقدم أدب عرفه العالم القديم, يرى باقر أن أهم ميزات هذا الأدب, الذي تشكل ملحمة جلجامش طليعته باعتبارها نتاجا بابليا صرفا هي:
أولا: إن الأدب السومري- البابلي لم يعان من تحوير ونسخ وتبديل وكما هي الحال مع الآداب الأخرى, يقول باقر: فقد وصل إلينا على هيئته الأصلية غير محور, أي كما كتب ودون بأنامل الكتبة السومريين والبابليين في الألف الرابع قبل الميلاد.
ثانيا: إن الشعر كان أقدم نتاج أدبي في حضارة وادي الرافدين, وأن منشأه كان من الغناء والقصيد الشعبي, ويفيض باقر هنا في شرح الخصائص بين الشعر والأسطورة.
ثالثا: لعل أهم ميزة في هذا الأدب, هي كثرة التكرار والاعادة مما قد يبعث السأم والملل في بعض المواقف وهذا ما سنعالجه بالمناقشة بعد قليل.
رابعا: من ميزات هذا الأدب استباق الحوادث والأحداث, وتقديم الحل والنهاية والتغني بأمجاد البطل?
خامسا: هناك ميزة هامة وتتعلق بتدوين هذا الأدب وتتمثل في كثرة النسخ في معظم أرجاء العراق وعند غالبية الأقوام القديمة.(19)
الفقرات السابقة تمثل بصورة دقيقة, مضمون الأسطورة في فكر طه باقر, وهو المضمون الذي يؤثر محاورته للتعرف على مكامن ضعفه وقوته, عن ريادته في أرض بكر, وعن أطره المرجعية التي ينهل منها رؤياه ومواقفه والتي تملي عليه رؤية مدرسية للأسطورة لم يتجاوزها طه باقر إلى ما عداها, على أن ننتقل بعد ذلك, الى محطة هامة في هذا الدور الريادي تنفتح على آفاق جديدة ورحبة.
إن أي تقديم أو قراءة أو نقد لنص كبير الأهمية ويعد مثلا حيا ونابضا بالخلود الفني مثل ملحمة جلجامش, يظل نصا موازيا وحافا بالنص الأصلي, يناوشه ويحاوره, ويحاول أن ينقل للقارئ- قارئ نص المناوشة والمحاورة والذي هو نص نقدي- متعة النقد, خاصة, وأن نص المحاورة هذا هو نسيج من اقتباسات تنحدر من منابع ثقافية متعددة. رولان بارت في <<لذة النص>> يتساءل ويقترح بآن واحد, يتساءل عن كيف نقرأ النقد? ويجيب مقترحا أن هناك وسيلة واحدة, بما أنني قارئ من درجة ثانية, فعلي أن أغير موقعي, فبدلا من أقبل أن كوني موضع ثقة كتلك اللذة النقدية فانه بوسعي أن أضع نفسي في موضع المتلذذ بالتلصص عليها, أرقب خفية لذة الآخر, وأدخل في الانحراف, عندئذ يصير الشرح في نظري نصا, نتاج تخيل, غلافا منفصما, هكذا هي انحرافية الكاتب وهكذا هي انحرافية الناقد المضاعفة مرتين وانحرافية القارئ المضاعفة ثلاث مرات, وهكذا إلى ما لا نهاية.(20)
شخصيا, سوف أنحي التلصص جانبا بالرغم من كونه مجديا, لأقف مع طه باقر عند أهم النقاط التي أراها جديرة بالحوار, والتي لازمت خطابنا النهضوي في موقفه من الأسطورة, مسببة له الكثير من العاهات الثقافية.
أولا: ترتبط الأسطورة عند باقر بالبدايات الأولى, لنقل البداية/ البدائية, وتظهر على أنها مغامرة من مغامرات العقل في محاولاته فهم الطبيعة. هذا الربط سيظهر جليا في مشاريع فكرية عربية كما أسلفت, ذات صيت وصدى واسع تغلب عليها الايديولوجيا لصالح نزعة أوروبية تطورية وعنصرية بآن. لنقل مع سمير أمين لصالح ماركسوية مبتذلة وتبسيطوية. وفي رأيي أن طه باقر لم يبق أسير هذه الشواغل الظرفية الايديولوجية ولا الخطاطات التطورية, فقد تمكن من اجتياز النفق الايديولوجي, فهو بتأكيده على أن الأسطرة وبمقدار تمفصلها مع المتخيل, تنتمي في النهاية الى الفن يكون قد أفلت من ربقة الايديولوجيا, ومهد بآن الى رؤية جمالية فنية للأسطورة. هذا السبق هو حالة نوعية وعلامة فارقة ودالة, وذلك قياسا بحالات قادمة ظلت محكومة بهاجس القياس, قياس البيضة على الباذنجانة على حد تعبير حسن قبيسي وبقيت محكومة بشبح السلف المؤدلج ومشدودة الى ربقته.
إن الملحمة الأسطورية تعالج ظاهرة الخلود وكيف الوصول إليها, وهي معالجة تقع في المتن منها, ولها بعدها الوجودي الذي لا يتزامن فقط والحياة البدائية, فبعد آلاف من السنين الفاصلة, نقرأها وكأنها كتبت لنا خاتمة الأمس, نمشي مع بطلها في تجواله, فكأنه واحد منا, كأن واحدنا يمشي وظله, وجزءا من نفسه.(21) يقول جلجامش ولسان حاله كل واحد منا.
لقد أفزعني الموت حتى همت على وجهي في البراري
إن النازلة التي حلت بصديقي وصاحبي تقض مضجعي
آه لقد صار صاحبي الذي أحببت ترابا
وأنا سأضطجع مثله فلا اقوم أبد الآبدين
فيا صاحبة الحانة, أيكون في وسعي ان لا أرى الموت الذي أخشاه وارهبه.(22)
إن الفن كما يرى هربرت ماركيوز في كتيبه الموسوم ب-<<البعد الجمالي>> ينوس بين ايروس (إله العشق) وبين ثاناتوس (إله الموت)(23). ومن هنا فان الملحمة عمل فني كبير يجعل من الأسطرة وسيلته في التعبير وبذلك يضمن خلوده, وينفتح بآن على آفاق رحبة وقصوى تجعل من الملحمة نصا عظيم الأهمية وقابلا لتأويلات عدة وهذه ميزة الأدب العظيم. إن ظاهرة الموت في القرن العشرين لا تزال تحتفظ ببعدها الميثي/ الاسطوري وذلك على صعيد كل الديانات السماوية. هذا البعد يظل شاهدا على أن الأسطرة ليست ملكة بدائية ولا مغامرة من مغامرات العقل الأولى, بل ملكة دائمة تتمفصل مع أرقى أشكال الوجود الانساني.
ثانيا: في بحثه عن ميزات الأدب البابلي, كان باقر قد سئم ومل من التكرار الذي تعج به النصوص الأسطورية, وهذا ما حدا به أحيانا إلى حذف هذا التكرار بالرغم من أنه وكما يقول باقر, قد يحمل تغييرا أو زيادة, وهذا ما دفعه الى اعادة ادراج التغيير والزيادة وحذف التكرار, وعلى سبيل المثال فقد حذف الحوار بين أوتو- بنشتم الذي حبته الآلهة بالخلود وبين جلجامش الذي جاء يسأله عن سر الخلود, وهو المقطع الذي يظهر كلازمة في نص الملحمة والذي يتكرر مرارا, على طريقة سورة الرحمن في القرآن الكريم التي تتكرر فيها اللازمة (فبأي آلاء ربكما تكذبان) كما في غيرها من السور.
من وجهة نظر بارت أن للتكرار وظيفة سلطوية, يقول: إن اللغة السلطوية- تلك التي تنشأ وتنتشر تحت حماية السلطة- هي قانونيا, لغة تكرار>> (24) ولكن الاناسي الفرنسي كلود ليفي ستروس Strauss في بحثه عن <<بنية الأساطير>> يرى أن للتكرار وظيفة جوهرية تتمثل في اظهاره لبنية الأسطورة>>(25) فالتكرار يمس بنية الأسطورة ويوازيها, إنه ينشأ مع نشوء مثل الأسطرة. وهذا ما حدا ب-<<بارت>> أن يتراجع, فهو يجد نفسه ملزما تحت الضغط القادم من حقل الدراسات الأسطورية الحديثة الذي يؤكد أن للتكرار وظيفة طقوسية هامة يقول بارت: فالتكرار ذاته قد يولد المتعة, والأمثلة الاثنوغرافية وفيرة: ايقاعات مسيطرة, موسيقى تعزيمية, ابتهالية, صلوات, طقوس- التكرار المفرط هو الدخول في الضياع, الدخول إلى صفر المدلول, بذلك- أي بهذا التكرار- نرى أن النص الأسطوري يضمن كونه نص متعة, فنص المتعة كما يعرفه بارت هو الذي يضعنا في حالة من الضياع, ويرهق (ربما إلى نوع من الملل- وهو الملل الذي انتاب باقر مرارا) ويهز الثوابت التاريخية والثقافية والبسيكولوجية لدى القارئ والذي يزعزع الثابت من اذواقه وقيمه وذكرياته, مؤزما علاقته باللغة.(26) ولكي لا نبتعد كثيرا في تجريديات بارت وتحديداته لنص المتعة ونص اللذة. نقول أن وقع النص المقدس/ الملحمي على قارئه وسامعه, كنص غير مألوف, يكاد يصل الى درجة الأسر. ولعل في حادثة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه, عندما سمع خباب بن الأرت وهو يتلو القرآن على صهره سعيد بن زيد وأخته فاطمة بنت الخطاب, بلغ التحول عنده مسراه عندما قرأ بعد أن تطهر طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى, إلا تذكرة لمن يخشى, تنزيلا مممن خلق الأرض والسموات العلى فذهب وأعلن اسلامه. والأمثلة كثيرة فالحضور الكبير للنص الأسطوري المغاير والمختلف هو الذي دفع الملأ من قريش لأن ينظروا إلى القرآن على أنه <<قرآن عجب>>, كما تقول الآية قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا. الجن:1 فالتكرار الذي يضمن هذا الحضور ليدفع بالنص الأسطوري إلى آفاق قصوى وجديدة.
ثالثا: لا أدري ما الذي دفع <<طه باقر>> إلى القول بأن الأدب السومري- البابلي الذي تمثل الأسطورة متنه ووسيلته بآن, لم يعان من تحوير ونسخ وتبديل كما هي حال الآداب الأخرى. فقد وصل إلينا - والقول لباقر- على هيئته الأصلية غير محور, لكنه سرعان ما يقودنا إلى أفق آخر يجب ما قبله, فبالرغم من أن هناك ما يشبه الملحمة في الأدب السومري أو كأنه نسخة طبق الأصل إلا أن الملحمة تعد نتاجا أدبيا بابليا صرفا.(27)
في رأيي أن خطاب باقر, أو لنقل حماسه الزائد دفعه إلى ان يفكر هو الآخر بطريقة ميثولوجية وكأن حال خطابه يقول إنه لا يمكن للتحوير ان يطال هذه النصوص الأسطورية الهامة, وهذه هي احدى أوجه التفكير الأسطوري, وهو أمر ليس بالمستغرب, فها هو ستروس Strauss يؤكد في <<الفكر البري>> على موازاة الفكر الأسطوري للفكر العلمي.(28) هذا بالإضافة الى أمر نراه مهما ويتمثل في أن عدوى الأسطورة من الممكن لها أن تغزو عقل المشتغلين عليها, وأولئك الذين يرددون تلاوتها ويرونها كتابا عجبا?
في <<النص القرآني وآفاق الكتابة>> يقول أدونيس: إن كل كتابة هي اعادة كتابة, لكن في سياق آخر.(29) وقد سبق لنا القول إنه يمكن القول إن كل اسطرة هي اعادة أسطرة لكن في سياق آخر. فالنص الأسطوري تقوم بنيته على الحرتقة, والتي سرعان ما تنشأ عنها أكوان أسطورية/ ميثولوجية جديدة.
يقول ستروس في <<الإناسة البنيانية>>: معلوم أن الأساطير تتحول, وأن هذه التحولات التي تحصل بين رواية للأسطورة الواحدة وأخرى, أو من أسطورة الى أسطورة أخرى, أو من مجتمع إلى آخر بالنسبة للأساطير نفسها أو بالنسبة لأساطير مختلفة, تؤثر على هيكلية الأسطورة حينا أو على <<كودها>> حينا آخر, أو على المرسال المقصود منها حينا ثالثا. لكن هذه التأثيرات لا تحول دون بقاء الأسطورة أسطورة, فهي تراعي بذلك ما يمكن تسميته مبدأ الاحتفاظ بالمادة الأسطورية, وهو مبدأ يعمل على أن يكون من الممكن دائما أن تنشأ عن كل أسطورة أسطورة أخرى>>.(30)
نسوق كل هذا, في سبيل القول إن بنية الفكر الأسطوري تقوم على التحوير والتبديل, وأن هدفنا ليس تبيان نظرة طه باقر للأسطورة, بل التأسيس لنهج جديد في النظر إلى الأساطير ودراستها, النهج الذي سيغيب في الكثير من الدراسات التي طالت الأسطورة, والتي أخضعتها لعاهات ثقافية ومزاجيات وايديولوجيات قادتها إلى طريق منحرف. إن القول بأن الأساطير البابلية لم يطلها التحوير والنسخ, يوازي القول الذي يتقوله متعبد زاهد في صومعته ما مل من الصراخ بأن كتابه المقدس لا يطاله التحريف لا من قريب ولا من بعيد, وهذه خاصية تجمع بين جميع كهنة الكتب المقدسة, ونقود معظم المشتغلين عليها الذين ما ملوا من الافتنان بسحرها وموسيقاها وطريقتها في فن السرد, بحيث يمكن وصفها بحق بأنها نصوص اللذة والمتعة, ونضيف بقولنا إنها <<نصوص الفتنة>> التي لما تزل تمارس حضورها العجيب في الزمان والمكان?
رابعا: يلفت طه باقر نظرنا في تقديمه لملحمة جلجامش, إلى أمور في غاية الأهمية دون أن يقف عندها مطولا, منها ان الشعر كان أقدم نتاج أدبي في حضارة وادي الرافدين, وهذا يعني من وجهة نظرنا أن هناك خطا تواصليا وتصاعديا يربط بين النصوص الأسطورية التي ينظر إليها على أنها في النهاية هي نصوص لغوية وهذا ما لا يقره تحليل الأساطير? وتمتد- أي هذه النصوص, من ملحمة جلجامش الى القرآن الكريم كنص ذي بنية متينة, نص هو في غاية الروعة والجمال والتوهج, غاية تجعل منه رؤيا للكون والحياة والجواب عن أسئلة الوجود والأخلاق والمصير, وهذا ما يجعل من سوره لألأة وتوهج والتعبير لأدونيس.(31) هذا من جهة, ومن جهة أخرى فان هذا الترابط الوثيق ما بين الأسطورة والشعر في القديم كما يرى باقر ويؤكد, من شأنه أن يعيد طرح التساؤل على الشعراء المعاصرين الذين يقيمون تقابلا وتضادا بين الشعر والأسطورة, يدفع وفي أحيان كثيرة إلى تكلف وعناء شديدين في توظيف الأسطورة داخل النص الشعري, توظيف يتجاوز الجانب الفني والجمالي, ليصب لصالح توظيفات ايديولوجية (التغني بعشتار وعشيقها الإله تموز بمناسبة أو غير مناسبة) أو لصالح رغبة أو حاجة للكتابة سرعان ما تجعل من القصيدة نصا يجتر التكلف ويبالغ في توظيفه للأسطورة, وهذا باستثناء حالات نجحت في هذا المجال ولا مجال لذكرها الآن.(32)
من الأمور الهامة أيضا, أن طه باقر يقوم بعملية فك ارتباط, بين الأسطورة والتاريخ في قراءته لملحمة جلجامش, فجلجامش التاريخي غير جلجامش الأسطوري. الأول شخصية تاريخية مذكورة في اثبات الملوك الذي تنسبه على السلالة الأولى في الوركاء وتخصص له حكما دام (126) عاما. وفي رأيي أن فك الارتباط هذا سيأتي ثماره لاحقا في دراسات لاحقة طالت شخصيات كبيرة في التاريخ, وقامت بفصل كبير بين الصورة الميثولوجية للبطل وبين صورته التاريخية, وعلى سبيل المثال شخصية سليمان بن داوود وهي الشخصية التي ترسم لها الميثولوجيا الاسلامية هالة أسطورية تجعله يكلم جميع الحيوانات. من مستشاره الهدهد (كان يسمى يعفورا) إلى النملة (جرسا) التي نزلت حولها السورة القرآنية المسماة ب-<<سورة النمل>>.(33) وقد أخذ هذا الفصل شكلا تعسفيا في بعض الدراسات التي سنقف عندها لاحقا, وذلك عندما قامت بتقزيم الحدث الأسطوري وتقطيعه وتفصيله ليناسب ما اصطلح عليه بـ<<سرير العقل التعليلي>> الذي يساوي ويوازي <<سريربروكست>> في الميثولوجيا الاغريقية. وفي وجهة نظرنا أن هذا التقزيم يتجاهل السؤال الهام والذي تدور من حوله الكيفية التي يتحول فيها الحدث التاريخي إلى حدث أسطوري. هذا التساؤل وإن ظل غائبا في الكثير من الدراسات التي طالت الأسطورة إلا أنه سوف يستعيد أهميته مع بداية عقد الثمانينيات عند بعض الباحثين في مجال الميثولوجيا, وذلك بهدف تجاوز النزعة الانطباعية التي يدفع بها تجاوز النزعة الانطباعية التي يدفع بها وباستمرار العقل التعليلي الى الواجهة, وذلك في اطار سعيه الى تجاوز اللامعقول الأسطوري إلى عالم العقلانية الرحب وكما يظن أصحاب هذا الخطاب.
نشر هذا البحث في مجلة نزوى
العدد 39، تموز 2004
الهوامش :
...........................
1 - مرسيا إلياد, رمزية الطقس والأسطورة, ص09 (دمشق, دار العربي, 1997).
2 - عبدالله العروي, العرب والفكر التاريخي, ص48 (بيروت, دار الحقيقة, 1973).
3 - طه باقر وبشير فرنسيس, ملحمة جلجامش, مجلة سومر, الجزء الأول, مجلد5, ص42- ص80, 1950, بغداد.
4 - طه باقر وفرنسيس, المصدر السابق, ص31.
5 - المصدر نفسه, ص32.
6 - المصدر نفسه, ص73.
7 - المصدر نفسه, ص62- ص73.
8 - مقابلة مع كلود ليفي ستروس أجراها ريمون بيللور, مجلة بيت الحكمة, العدد (4), ص14, الدار البيضاء المغرب.
9 - أدونيس, النص القرآني وآفاق الكتابة (بيروت, دار الآداب, 1993) ص20.
10 - طه باقر وفرنسيس, المصدر السابق, ص62- 73.
11 - رولان بارت, لذة النص.
12 - فراس السواح, كنوز الأعماق: قراءة في ملحمة جلجامش, دمشق 1987.
13 - مرسيا إلياد, رمزية الطقس والأسطورة, ص92.
14 - انظر كتابنا من الطين إلى الحجر (بيروت, المركز الثقافي العربي, 1997).
15 - هذا ما يتوجه به جورجي كنعان إلى أهل الخير, وهو <<اسم مستعار>>.
16 - كارل ماركس, نقد الاقتصاد السياسي, ص158.
17 - طه باقر, المصدر السابق, ص5.
18 - المصدر السابق, ص5- ص9.
19 - المصدر نفسه, ص13.
20 - رولان بارت, لذة النص, ص13.
21 - فراس السواح, ملحمة جلجامش وأثرها في الثقافات القديمة, ص98- ص127, مجلة المعرفة السورية, 1978.
22 - طه باقر, ملحمة جلجامش, ص78.
23 - هربرت ماركيوز, البعد الجمالي, ترجمة جورج طرابيشي (بيروت, دار الطليعة, 1986) ص14.
24 - رولان بارت, المصدر السابق ص25.
25 - كلود ليفي ستروس, بنية الأساطير, الإناسة البنيانية, ص90.
26 - رولان بارت, لذة النص, ص50.
27 - طه باقر, ملحمة جلجامش, ص11.
28 - كلود ليفي ستروس, الفكر البري, ترجمة نظير جاهل (بيروت, المؤسسة الجامعية للدراسات, 1984), ص33.
29 - أدونيس, النص القرآني وآفاق الكتابة, ص35.
30 - ستروس, الإناسة البنيانية, ص235.
31 - أدونيس, المصدر نفسه, ص32.
32 - أشير الى التوظيفات الناجمة للسياب ومن وجهة نظر البياتي أن الشاعر وعندما يلجأ إلى الأسطورة فانه يقوم بتحصين القصيدة هذا الزمن. جريدة السفير, 11/8/1995.
33 - يقول ابن كثير ان اسمها جرسا وانها من قبيلة يقال لهم بني الشيصان وانها كانت عرجاء, وكانت بقدر الذئب, المجلد الثالث, ص337, دار المفيد- لبنان.