فصل من كتاب..كتاب أبي الخصيب

فصل من كتاب..كتاب أبي الخصيب

ما يشبه المقدمة
ذات يوم سألني صديقي الشاعر البصريّ، الخصيبيّ الاصل، اليوسفاني المولد جمال مصطفى، المقيم في الدنمرك الآن، سؤالاً بدا لي رومانسيا جداً: ألمْ تنجب أبو الخصيب شاعراً بعدنا؟ قلت بلى، وسمّيت له بعض الأسماء، ثم نصحني بإلحاح العارفين أن أكتب معجماً للألفاظ المتداولة في أبي الخصيب.

وقتذاك، كنت منشغلاً بشاغل الشعر والصحافة وتفاصيل البيت والأسرة، لكنني قلت له: والله هي فكرة ممتازة، قد اتمكن من الشروع في كتابة شيءٍ من ذلك، لعلمي بأنَّ النسيان لا بدَّ آتٍ على كثير من المفردات لدينا، والتي لم يعد الكثير منها متداولاً الآن، بحكم نزوع الناس نحو (التمدّن) وتقليد سكان المدنية، التي يجد بعض الشباب، من سكان القضاء أنها الأليق بهم، وما يلوكه آباؤهم وأجدادُهم من مفردات إنما هي محط استهزاء وسخرية سكان المدينة، الذين راحوا يلهجون بكلمات المقيمين الجدد فيها، القادمين من ريف العمارة والناصرية. وفيهم من راح يتبغدد بلسانه أيضاً، في هجران واضح لألفاظهم، ألفاظنا، نسيج أرواحنا الذي نسجته أنوال سنين طوال من العيش بين النخيل والظلال والانهار، حتى غدا حلواً متشهىً، كمثل رطبنا وتمرنا ومروءتنا، كمثل كلماتنا والفاظنا التي لا أجمل ولا أسهل منها في اللسان، ولعمري حين يقول الخصيبي: (منيّل) منّجل. (المنجل)المعروف، والمستخدم لدى الفلّاح، أجدها أطرى بين الشفتين وأسهل لفظاً، ذلك لأن حرف النون متبوعاً بحرف الياء أسهل في اللفظ من حرف النون متبوعاً بحرف الجيم. كذلك حين يقولون: (وايد) التي تعني (كثيراً) عندهم، فهي أسهل وأخف في النطق من كلمة (هوايه،هوايا) التي يتداولها سكان شمال البصرة والجنوب والوسط العراقيين.
بفعل سياسي اقتصادي ربما، ناتج عن هيمنة موظفي بغداد، على إدراة شؤون المدينة، أولئك القادمين من أعاليها، وتناوبهم لعقود طويلة على مقاليد الحكم والقرار فيها، تشكل نوع من الارتداد اللفظي عند السكان، خامره شعور بالدونية والنكوص، فالمدينة كانت محكومة من غير أهلها بسبب من مركزية الدولة العراقية، منذ العهد العثماني حتى سقوط بغداد في ربيع 2003 كما هو معلوم للجميع. ولأن النزوحات السكانية من محافظتي العمارة والناصرية فاقت عدد سكان البصرة الأصليين، خلال الخمسين أو الستين سنة الماضية، فقد تراجع استخدام المفردات الخصيبية (الجنوباوية) هكذا كما يحلو للبعض تسميتها بشكل لافت للنظر، وعلى مدى العقود تلك كانت المهن داخل السوق خالصة للسكان أولئك، فالبقال وبائع الطحين والسكر والشاي والسمك وتاجر الفاكهة والخشب والحديد والاسمنت وعامل النظافة والبائع المتجول وحارس المصرف والعامل المستخدم في المستشفى وفراش المدرسة والدائرة الحكومية والأجير والشرطي.... الخ، جلّهم، كانوا من غير سكان جنوب البصرة، ذلك لأن الخصيبي الجنوباوي ظل متمسكاً بأرضه، ملّاكاً لها، فلّاحاً فيها، صائد سمك، شغيلاً في مكبس التمر، بائع خضار غير مقيم في السوق، متبضعاً متعجلاً سريع العودة للبيت. بهذه وبأسباب تشبهها خلت المدينة منه، لكنها ظلت تستوعب مئات الآلاف، إن لم نقل الملايين من الوافدين، النازحين، الباحثين عن أسباب الحياة في المدينة الغنية بمخزونها، والمتاحة لهم في مفاصل النفط والجيش والشرطة والميناء وووو.
ونزولا عن رغبة صديقي الخصيبي وبنيّة الحفظ، بعد أن بلغني باليقين المسموع والمرئي بأن قضاء أبي الخصيب خرج برمته من كونه أراضيَ زراعية وبساتين وانهاراً وبكل ما تعني متطلبات الزراعة، وآل بقرار من حكومة البصرة الحالية، وبصمت فدرالي وشعبي إلى جزءٍ ملحق بالمدينة، ودخل ضمن تخطيطها العمراني المتخلف. وبحماس لم أعهده بي من قبل، قلت مع نفسي بأنني سأعمل على تدوين ما هو أقرب الى المُعْجم، وسأذهب لكتابة ما هو أبعد من ذلك، ربما، وسأعمد إلى خط كتاب حاوٍ على ما أمكنني تدوينه، مما يتعالق بحياة الناس هنا، وسيكون مشتملاً على الكثير من آلية السكن وصناعة البيوت في محيط القرية والأكواخ والكبارة، في البساتين وكيفية سكنى الناس هنا وهناك، في بيوت هي من القصب والطين واللبن وسواها وسأجمع فيه ما يتعلق بشؤون الزراعة وزراعة النخيل بخاصة، وكل شأن من شئون النخلة، وما بها وفيها وعليها، وكل ما يتعلق من أعمال الحراثة والغرس وكري الأنهار والسقي ومتطلباته من الدلو وعدة السَّقي (المنزح) والصيد في السباخ والأنهر وما إلى ذلك، من شؤون آخرَ، كملابس الرجال والنساء والأطفال وما حوالي ذلك من اللهو واللعب، وكل ما يدور في حياتهم من تربية المواشي والدواجن وزراعة اشجار الفاكهة وكيفية تقليمها وتطعيمها وووو وسأفصّل مُسهبا تفاصيل كلِّ صغيرة وكبيرة، من حياتهم التي لا تشبهها حياة في أي مكان من العراق.
لكنني، وبكل أسف، أقول: وجدت الالمام بتلابيب الحياة كاملة في ابي الخصيب، أمراً غاية في الصعوبة، إنْ لم يكن من المستحيل، فالحياة هنا من السعة والتباين والاختلاف والتنوع، في تفاصيلها التاريخية والجغرافية والدينية والاجتماعية ووو بما لا يمكن تدوينه في كتاب واحد، وقد لا يقوى على تدوينه كاتب، شاعر، كثير المشاغل مثلي. لذا وجدتني مرهقاً، مكتفياً بكتابة هذا الكتاب، الذي أتمنى ان يكون فاتحة لكتب أخر، وأنْ يتطوع لأهلنا خصيبيٌّ آخر، يؤتيه الله المقدرة والمكنة لإتمام ما شرعت به. ومن الله التوفيق.

الفصل الاول

قلتُ لهم ما يتوجبُ على أخ مثلي قوله
قبلَ أنْ أنادي عليكَ، وقبلَ أنْ تُحْدِثَ أبقارُ الفجرِ الجَلَبةَ في النَّخلِ، كنتَ شققتَ في الحائطِ مَخرجاً لكَ،
وخرجتَ، هو ذاك الشقُّ، الذي تُسمّيهِ باباً. وما هوَ ببابِ خشبٍ، ولا صفيح.
ولا أظنّكَ أغلقتهُ خلفكَ. ستغلقهُ على ماذا؟ وعلى مَنْ؟
كنتَ تركتهُ موارَباً، لتدخلَ منهُ روائحُ سرورِ الأرضِ، بدخولهِا في الماء،
ولتلتئم عندَ عتبتهِ الرِّيحُ الأولى وأزهارُ الدُّفلى،
ولتدخلهُ التَّباريحُ.
قلتَ لي: قم، استعجل.. لمْ يبقَ بينَ أيدينا من السَّاعاتِ ما يكفي،
معَ أنَّ الفجّرَ كانَ بأوّلهِ. شددتُ حِزامي مُسرعاً، وبخطفٍ ليس البرقُ بأسرعَ منه، نزلتُ المُسنّاةَ،
أسبغتُ وضوئيَ على مَكْرهةٍ من البردِ، ووقفتُ ذليلاً امامَ ربِّك،
أقمتُ صلاتَهُ، وسألتهُ ألّا يحرمني منكَ، فأنتَ عضُدي،
وأنتَ دليلي في الحَلكِ والظلمُوت،
ومن فجٍّ عميقٍ، في جبَّة الفجرِ جاءَني النِّداءُ،
أنْ أسكُنْ انتَ وصاحِبُك النَّخل، ولا تبرحاً شَقيقَينِ، مُتحابَّين.
ولا تستبّدلا جورَ الفاقةِ والعوزِ بهميانِ الذُّلِ والهوان.
وكونا بين البساتينِ إخوانا.
كونا مثل غصني كرمٍ، ائتلفا والتفَّا فتعانقا،
حتى لم تكدْ تبدو من الأول أساريرُ الثاني، أو كونا كحقليْ لوبياء،
غمرَ أرضهَما الماءُ، فأينعا وأورقا وأزهرا وأثمرا.
هل أطلتُ الوقوفَ بينَ اليدينِ السَّماويتينِ ساعتَها،
لا أذكرُ، لكنني، رأيتكَ مُصغيا معي للنداءِ ذاكَ،
وحين علِمتُ بانَّك سمعتَهُ ووعيتَهُ، تبسمتُ في وجهكَ وضحكتُ.
لقد كنتُ وإيّاكَ هلالي شمّامةٍ، نبيعُ رائحتنا للشمس،
ومثل كرمة على جدول في الصدور، شبعت وارتوت، فهي لا تني تسعى وتتشابك
أخذتُ الماءَ والظِّلالَ، أطوّقكَ، كلما غالتني غائلةٌ.
كانَ الخريفُ عندَ بدايتهِ، وكانت الرِّيحُ متأنيةً،
فهي دافئةٌ في ساعةٍ من النَّهار، لكنَّها باردةٌ،
في غالبِ الساعاتِ من الليل،
والموسمُ مازالَ عنّدَ مُدخلهِ الصِّدق، نحنُ في نهايةِ أيلول،
لم نحرث بعدُ الأرضَ، التي قلنا سنزرعُها للشتاء،
بذورُ الطماطمِ والباذنجانِ والخِيارِ بصُررِّها مرزوماتٌ،
معلّقاتٌ في إطارِ الخِصّ.
ومن خلفِ أجمةِ الآسِ والنَّارنجِ، وحيثُ يقفُ عصفورٌ وحيدٌ، صِحْتَ بي:
تعالَ. فانّْبتُ مِسحاتيَ لِصقَ مِسحاتِك، وأخذنا بأطرافِ تلكَ الأرضِ،
نُنقصُها ركلاً وتراباً مقلوباً وغِبارا،
ابتدأنا بحافَّةِ النَّهرِ الذي كريناهُ بالأمس، ولم ننتهِ، انتَ على يمينهِ، تكادُ تلامس مِسحاتُكَ الماءَ، وأنا على يَساركَ،
أتكفّلُ عنّك قطَّ أصُولِ النَّخل،
وفكَّ ألغازِ تشابكِ العِنب بالليمونِ والتوت.
هوَ دأبُنا، فالنَّخلةُ ضالّةُ الفَلّاح، مدّخرُ قوتِ عيالهِ وشهُوره.
هلْ أتممنا رصَّ الأرض، ما انفتح وانقلبَ منها بيننا، وما لم ينقلب..
هل وفّينا النَّخلةَ حقَّها ماءً وقطَّاً وتدثيراً وتسميدا؟ أظنُنا كذلك.
وإلّا ما معنى هذا الذي يتَصببُّ من جبهتكَ ومن جبهتي؟
انتَ اشتريتَ الراديو، الفليبس، من سُوقٍ في البصرةِ القَديمة،
وأنتَ صعدّتَ بأعمدتهِ السَّطحَ، وانبتَّ سِلكَ الهَواء، ثم مرّرتهُ من ثُقبٍ في البابِ،
حتى أدخلتهُ فيهِ. ومع فلفل كورجي وحسن خيوكه ويوسف عمر..
كنا أمضينا الليالي الطِوال، سهرانَينِ، مستمعين، مُستمتعَينِ،
ومنهُ، فرِحنا بصعُودِ نجمِ ستالين والجيشِ الأحمر،
ومنه عرفنا نهايةَ الحربِ الكونيةِ الأخيرة،
لكنكَ، سرعان ما تخليتَ عنهُ، ذهبتَ به الى السُّوقِ ثانية، وبعْته.
ومن سوقٍ هي الأقرب إلى سقيفةِ السَّمكِ، اشتريتَ بثمنهِ
صندوقَ الثَّلجِ الخشبي، بصنبورهِ النُّحاس، ذِي القُفل
وبفضلةٍ من نقودِكَ، اشتريتَ مِسحاتكَ الجديدة.
اليومَ نحتفلُ بمضيِّ السَّنواتِ على دخولهِا دارك،
هي افضلُ من مِسحاتي، أيما، والله، مهيجرانيةٌ أصليةٌ، صاغها الحدادُ مخصوصةً لكَ،
ليدكَ. أما انا: فقد اشتريتُ مِسحاتي الأخيرةَ، من السُّوقِ، بالداكير
مثلَ أيّ آلةٍ، من حديدٍ وخشبٍ، يستخدمُها فلّاحٌ فقيرٌ.
لكنَّكَ لم تهزمْني في عمل من أعمال الحراثة او الكَريٍّ،
كنتُ صِنوكَ، الذي لا بدَّ لكَ منّي.
حتى وإنْ ازددتُ لحماً وشَحماً، وبدوتُ اليومَ أكبرَ.
وها، قد صارتِ الازهارُ الصّفر خِياراً، واحمرّتِ الطماطمُ
وصارَ الباذنجانُ اسودَ بين أخضرينِ،
أنا أنشغلُ بماكنةِ السَّقيِّ من ساعةٍ، أديرُ عَجلتَها..
وأنتَ تملأُ الزنابيلَ بالأخضرِ والأحمرِ والاسود،
انا أُترْعُ السَّواقي، وأذهبُ بالماء إلى هذهِ وتلكَ،
أروّي أصولَها، وأفيضُ على ما تشققَّ من الأرضِ تحتها،
وأنتَ تخيطُ ما امتلأ من أكياسِ الجنفاصِ والسِّلال.
صِحّتَ بي: لم يبقَ من الشَّمسِ التي حولنا إلا القليل،
فهرعتُ اليكَ، أحملُ عنكَ الغِلّات إلى حيثُ القنطرةِ الأخيرة،
انحنى ظهري، وضَمُرَ ساقاي، وانا انقلُ عنكَ الاقفاصَ والاكياس.
لا عليكَ، ستبدو بحالٍ افضلَ في الغَد،
أعلمُ أنَّكَ كنتَ تعاني من آلامٍ في ساقك، مُذْ سقطتَ من النَّخلة، قبلَ سبعِ سنوات،
كنتُ سقطتُّ مثلكَ، من قَبل،
لكنَّ نخلتي لم تكُ شاهقةً، مثلَ نخلتك،
وكنتُ وحدي، أيضاً آنذاك،
ووحدي، قبل الظلام، نهضتُ بما أصابني،
بألمٍ قليلٍ في كتفي، أخذتُ التي أنا فيها ونهضتُ،
تلفتُ، أيْ، نعمْ. لكنني كنتُ وحيداً منكَ ساعتئذٍ،
آلمني أكثرَ، أنّك لم تكُ معي.
صليتُ العِشاءَ في المسجدِ، لبستُ دشداشتي البيضاء،
واعتمرتُ يَشماغيَ الأحمرَ،
ومن قنينةٍ بماءِ وردٍ ونَعناعٍ قليل، أخذتُ زينتي إلى هناكَ، ودخلت
لم أعثرْ على نِعالكَ عندَ الباب، ولم أجدْكَ بينَ المُصلّين،
حين سلّمتُ عن ذاتِ اليمينِ وعن ذاتِ الشَّمال.
قلت: لعلّكَ كنتَ أكثرَ مني تعباً،
لعلَّ الليلَ عنّدكَ كان أظلم باكراً، احلكَ من الذي عندي.
لا عليكَ، فقد وجدّتُ العذرَ لكَ عندَ الإمام،
قلتُ لهُ عنكَ، ما يتوجّبُ على أخٍ مثلي قوله.