سلمان شكر.. أحلام «الوتر الطروب» وكوابيس مجتمعه

سلمان شكر.. أحلام «الوتر الطروب» وكوابيس مجتمعه

علي عبد الأمير
يشكل، سلمان شكر، الموسيقي الرائد والإسم البارز في مدرسة العود البغدادية، جزءا من ظاهرة عاشتها الثقافة العراقية المعاصرة، وفنونها الجميلة على نحو خاص، فهو المحمول على أجنحة تحمله الى مساحات فسيحة من الحلم والخيال والمغايرة، ولكن وسط بيئة إجتماعية ضيقة.
فصاحب الأنغام الدالة على روحية خاصة في مقاربة الاوتار، حد انه سمي بـ»الوتر الطروب”على حد وصف مجايله، عبقري العود والكمان والنغم المبتكر،

جميل بشير، ولد في بغداد عام 1920 لأسرة لا تعير الموسيقى شأنا، بل ان لوالده موقفاً متزمتاً من محاولات الفتى الحالم تعلم العزف على آلة العود في عشرينيات القرن الماضي وثلاثينياته، فأقدم على تحطيم عدد من أعواد إبنه التي اقتناها في مطلع صباه وشبابه، غير ان الفتى أخلص لأحلامه، فصار عازفاً على الكلارنيت بعد ان ضمه الرائد حنا بطرس الى جوقه الموسيقي.

لاحقا، انتقل من مرحلة الأحلام الى فصول المعرفة، ولكن بشيء من التعثر، فدخل سلمان شكر الى”معهد الموسيقى العراقي”(الجميلة لاحقا)، عام 1936 ضمن الدورة الأولى، لكنه ترك الدراسة لمدة ثلاثة أعوام بسبب”كوابيسه”العائلية، ليتخرج العام 1944 بعد ان تتلمذ على يد أستاذه، الموسيقار الشريف محيي الدين حيدر، وظل وفياً للأخير ولتجربته الفنية – التربوية التي تركت بصماتها على أغلب تجارب عازفي آلة العود في العراق.
لقد أحب سلمان شكر آلة العود حباً من نوع خاص، ولم يعرف عنه انه عزف بمصاحبة مطرب أو أدى الألحان التراثية او الشعبية، فالموسيقى بالنسبة له تملك بعداً روحياً، ومضموناً فلسفياً، فهو لطالما قرأ”إخوان الصفا»، الجنيد البغدادي، الحلاج، إبن عربي، الفارابي، إبن سينا، وصفي الدين عبد المؤمن البغدادي، كما إستوعب غيرهم الكثير.
المتصوف”الارستقراطي»
و يرى الباحث الموسيقي عاصم الجلبي، ان رفض شكر، لمرافقة عازف العود لفرق الغناء الشعبي،”هو للحفاظ على المحتوى الموسيقي والفلسفي لمدرسة بغداد للعود، هذا المحتوى الذي وضعهُ أستاذه الشريف محيي الدين حيدر بإعطاء آلة العود منزلة أوسع وأكبر من كونها آلة مُصاحبة ومراسلة، وانما بإظهار هويتها وشخصيتها كآلة منفردة تستطيع ان تعبر عن ذاتها وعن إمكانياتها الصوتية وعن قدرتها في التعبير. بعبارة أخرى للحفاظ على أرستقراطية هذه الآلة».
واخلاصه للموسيقى المجردة:”بشارف”و»سماعيات”وتقاسيم، دفعه أواسط الستينيات الى تأسيس”خماسي العود البغدادي»، مؤكدا على ملامح إسلوبه في العزف على العود:”التهذيب العالي في إستعماله للريشة والدقة المتناهية في مواضع الاصابع».
وذهب شكر الى أقصى مديات الآنتماء الى الموسيقى الصرفة، فدرس عميقا الموسيقى العربية الكلاسيكية، و»قدمت معزوفات موسيقية، لأول مرة، من القرن الرابع أو الخامس عشر الميلادي موثقة ومنسوبة إلى الموسيقار عبد القادر الُمراغي (1350-1435 م)، عبر جهد معرفي أثناء دراسته في”جامعة درهام”بانجلترا مع المستشرق البريطاني البروفسور، جون هيوود، والبحث في كتاب”الادوار”للموسيقي والعالم صفي الدين بن عبد المؤمن الارموي البغدادي (1216- 1294م).
وفي السياق المخلص للموسيقى، كان شكر”دائم المحاولة في أعماله الموسيقية لأيجاد رابط ما بين الموسيقى العربية والغربية، وكشاهد على ذلك خماسيتهِ”حورية الجبل”و”مهرجان في بغداد»، ففي الأولى يستخدم قالباً مسُتخدماً في الموسيقى الغربية، الا وهو”الروندو»، المتكون من أجزاء متعددة ومختلفة مربوطة بجزء يعاد دائما بعد نهاية كل جزء من الاجزاء، أما عمله الثاني”مهرجان في بغداد»، فقد صاغهُ على صيغة المتتالية”السويت»، وقد قام فاسلاف كوبتسكا، المدرس في معهد الفنون الجميلة، بتوزيعها لرباعي وتري رافق العود الذي أدى الاقسام المنفردة. كان ذلك سنة 1966 حيث قام الأستاذ سلمان شُكر بعزف القسم الخاص بالعود بالمشاركة مع آرام تاجريان و آرام بابوخيان (كمان أول وثان)، جورج مان (فيولا)، وحسين قدوري (تشيللو)، ضمن”خماسي العود البغدادي”.
وفي الثمانينيات من القرن الماضي، وأثناء تواجده في لندن قام بعمل مشترك مع البروفيسور هيوود، وهو”كونشرتو العود مع الأوركسترا»، والذي تم تقديمه بالتعاون مع هيئة الإذاعة البريطانية”بي بي سي»، و»لندن سيمفوني أوركسترا».
هنا نتوقف عند ملمح عميق، يكاد الموسيقار شكر يشترك فيه مع جيل من البناة العراقيين في مجال الفكر الحديث وفنونه الجميلة، الا وهو انشغالهم الجوهري في”تأصيل الحداثة»، فمعارفهم وعلومهم الحديثة كانت سبيلا للبحث في الدفين من ثقافتهم وذخائرهم الروحية، فهو وبعد كل تحصيل معرفي كان يذهب الى التنقيب أكثر في إرث بلاده الروحي وهويتها الثقافية، على الرغم من ان جوانب مظلمة في سلوك بيئته الإجتماعية، كالتي تعنيها قيم كراهية الموسيقى في العوائل المحافظة العراقية، ومنها عائلته، التي واجه بصبر وجلد، محاولاتها في تكسير أجنحة الموسيقى المحلقة به نحو فضاء الروح والمعرفة.
وثمة رأي بارز للباحث في فنون الموسيقى وألوانها، علي الشوك، يمكن من خلاله تتبع اثر ممتد الشريف محي الدين حيدر، مرورا بتلميذه سلمان شكرا وصولا الى نصير شمّه:”كانت تربطني علاقة طيبة بالفنان الراحل سلمان شكر منذ خمسينات القرن الماضي. وهو الذي عرفني بموسيقى أستاذه الموسيقي اللامع الشريف محيي الدين حيدر (من العائلة المالكة العراقية). وسُجلت لهذا الموسيقي الكبير معزوفاته:”كابريس»، و «ليت لي جناحاً»، و «الطفل الراكض»، وهي أداء سلمان شكر، وكانت فتحاً موسيقياً على العود ولا تزال. والشريف محيي الدين حيدر هو مبتكر الأداء الحديث العالي في تقنيته، حيث يستعمل الريشة في الضرب على الوتر [الوترين] نزولاً وصعوداً في ان واحد. ثم نهج على هذه الطريقة تلأميذه منير وجميل بشير، وسلمان شكر، وفيما بعد نصير شمة، والآخرون. هنا، يذكرنا هذا العزف بموسيقى بأغانيني وفرانز لست. وأنا أعتقد ان الموسيقى (العربية)، أو موسيقى العود على وجه الخصوص، أصبحت فناً محترماً منذ تقنيات الشريف محيي الدين حيدر. وهذا يذكرني بمقولة سارتر في حوار سيمون دي بوفوار معه:”التقنية نظام ميتافيزيقي». وسأقول من دون مجازفة ان مقطوعات الشريف محيي الدين حيدر الثلاث، المشار إليها أعلاه، تبقى أروع ما سمعته من موسيقى على العود. وأنا أدعو القرّاء إلى سماعها، ربما بواسطة اليوتيوب، لكن ليس أداء الشريف نفسه، فقد سجلها في آخريات أيامه، بل أداء سلمان شكر إذا توافر. (أنا أحتفظ بأداء سلمان على شريط خاص بي).
واعتز أيضاً بعزف سلمان شكر مقطوعات من تأليفه. كما أعتز بعزف لمنير بشير، وعزف لنصير شمة. ان موسيقى نصير شمة تتميز بتقنية عالية في العزف. وأنا لم إسمع لعازفين آخرين، لذلك أرجو الا أكون قد غمطتهم حقهم. لكنني سأشير إلى عالمية منير بشير التي قرأت عنها - إشارة إليها - في كتاب ألماني مترجم إلى الآنكليزية، نعته المؤلف بالاسطوري منير بشير. وأنا سأتوقف قليلاً عند تسجيل لموسيقى منير بشير أرسله إليّ صديق قبل سنوات عدة، لا أزال أعتّز به، واسمعه بخشوع. هذا التسجيل ينتهي بصوت سوبرانو وأصوات أجراس كنسية جميلة، أنا أعتبره من بين أفضل ما أبدعه منير بشير. وأنا حضرت مرة عزفاً له في أواسط التسعينات في بودابست، في صالة فرانز لست. ومنير ذو فيزيونومية تملأ العين. وهو يحيط نفسه بشيء من الطقوسية. فتجده يضع عوداً آخر قربه للإستبدال، ويعزف بكل أبهة».