الشيطان كلب أسود ..   ذلك ما عرفه جاسبريناي في الشرق الأوسط

الشيطان كلب أسود .. ذلك ما عرفه جاسبريناي في الشرق الأوسط

ترجمة / عادل صادق
عمل الكاتب الهنغاري ساندور جاسبريناي Sándor Jászberényi (1)، مؤلف (الشيطان كلب أسود)، مراسلاً صحفياً في مناطق الصراع العالمي لعدد من الصحف الهنغارية لسنواتٍ كثيرة. وتستند مجموعة قصصه القصيرة هذه على تجاربه كصحافي في الشرق الأوسط، وفقاً لما يقول أيرنو سيب في عرضه للكتاب.

وكان جاسبريناي قد نشر، في أوائل عام 2013، كتاباً غير قصصي عنوانه (يوميات مراسل حربي في بودابست ــ القاهرة)، مزوداً بصوره الخاصة به. و الكتابان يستندان على التجارب نفسها تقريباً ــ الصدامات والاضطرابات في الشرق الأوسط ــ من خلال القصص القصيرة المتعلقة خصوصاً بالثورة المصرية (عام 2011).
وتصور القصص عالماً مكوَّناً من الطابوق الأخلاقي، بقواعد مرئية على نحوٍ واضح. وشخصيات جاسبريناي تتصرف هنا بطريقة ربما كان الكثيرون منا سيودون أن يتصرفوا بها ــ السير قُدُماً إلى المصورة الفوتوغرافية الجميلة خلال التقاط صور في ساحة التحرير، والطلب منها الخروج، وهو ما سيكون أمراً بارداً بالتأكيد. ويذكرنا هذا التصرف الوقح بـ”غريب L’Étranger”ألبير كامو (قارن ذلك بالجملة الأولى من القصة التي عنوانها”في الصحراء، إنها باردة في الصباح":”وعند الصباح، كان أبي ميتاً”.) فهذه القصص يميزها الشعور بالاغتراب والوحشة.
ويشبه عالم هذا الكتاب ذلك الخاص بـ”ماكس المجنون”(2)، مع مقاديرمن الغبار، والقذارة، والدم، والكحول: فأوصاف الشرق الأوسط وهنغاريا متماثلة في بؤسها وافتقارها للديكور. وإذا كان عالمك يدور من الداخل، فإنك لن تجد عندئذٍ أزهاراً تزهر في الخارج أيضاً، وذاك هو السبب في أن الشيء الأساس هو الكيفية التي تشعر بها داخل فضائك الضيق: فهذه الشخصيات ربما تجعل حتى أسعد مدينة على الأرض قاتمة، ومغبرة، وحارة بشكل لا يطاق. والجحيم ينطوي على تنوعات كثيرة، لكن جاسبريناي يبدو في ذلك كله وكأنه في موطنه.
“لم أرغب أبداً في أن أعيش حياةً لطيفة. لم أرغب في أن أصبح مواطناً نموذجياً، ولا أردت أن تكون لي أسرة وأولاد. فمتى ما تحدث لي أمور كهذي، تكون النهاية على الدوام فشلاً فظيعاً. ولدي رد وحيد على أكثر المواقف تجريداً، الحياة والموت، وأشعر بأني أفضل حالاً حين يصل ذلك إلى مثل هذه المسائل البسيطة، من دون تعقيدات انعكاسات حضارةٍ محتضرة”. (صفحة 17)
إن هذه القصص خيال قصصي مستند على التجربة حقاً: فالكاتب هنا يحوّل الواقع إلى خيال؛ وفي كل قصة وكل تعبير، نجد اللغة تجرّب بإعادة خلق أدق شعور ممكن سبق أن عاشه على نحوٍ شديد جداً. (“لا يمكنني أن أكتب عن شيءٍ لم أعشه أو لا أستطيع أن أجعله الشيء الممكن بصورة أشد أصالةً”، كما قال المؤلف في مقابلة أجريت معه.) والتجارب الموصوفة هنا ليست في المقام الأول حول مدن، أو حب، أو عمل، وإنما حول مشاعر يبدو أن جاسبريناي يحاول التوصل إلى تفهمها في كل قصصه. ولا يمكن انتزاع هذه المشاعر إلا بلغة عسيرة مقتصدة وحوارات داخلية dialogues متوترة.
تحدث القصص في أوضاع شديدة الوطأة إلى حد أن رجلاً مستنفَداً حزيناً جداً ذا نظرة فارغة وروح قاتمة مثل جيسون بورن وحده الذي سيكون قادراً على التعامل معها، لكن شخصيات جاسبريناي الذكور جميعهم يشبهون ذلك. فهم يجلسون ويعملون في منطقة حرب، واضعين على وجوههم أقنعة ضد الغازات؛ ويهرّبون تسجيلات الفيديو في ملابسهم الداخلية وينطلقون مع نساءٍ والرصاص يتطاير هنا وهناك. وبينما يبدون كأنهم أبطال خارقون من الخارج، تجدهم يُشعلون حرباً باطنية معقدة من دون انتصارات، مع خسائر مستمرة، ولا يمكنهم الاستمرار في البقاء إلا بأجوبة مفهومة وبسيطة على نحوٍ غير محدد، ولحم مفروم، وعاهرات، ومجموعة من الفيتامينات. وفي الواقع، فإن كل الرجال يشبهون ذلك، لكن هذا أمر لا يمكن ملاحظته عادةً من أية زاوية، ولهذا السبب يجب أن يُكتب.
وتنتهي شخصيات جاسبريناي بمشاهد شرقأوسطية متنوعة لأن الواحد لا يصبح، إلا في ثقافة أجنبية، في مدن أجنبية ولغة أجنبية، عاجزاً عن إنشاء عالم أخلاقي كهذا من حوله. وبهذه الطريقة، يكون سعي جاسبريناي مماثلاً لذاك الذي في نثر كورماك مكارثي، أو همنغوَي، أو الأفلام الغربية، بقدر ما يتعلق الأمر بذلك.
والكتاب لا تكثر فيه الشخصيات الأنثوية. ففي قصة”قاتل محترف"، نجد ولدين يطلقات على غربان ببندقية نفخ لأنهما لا يستطيعان زيارة أمهما المريضة جداً، وهنا، تكون المرأة حاضرة في غيابها. والنساء الأخريات في الكتاب عاهرات، أو عشبقات، أو محترفات. وفي حالة أخرى، ليس هناك من شيء سوى القضاء والقدر.
إن المرء نادراً ما يقرأ كتاباً يكون فيه الطقس قوة إبداعية أساسية؛ وهذا الجانب المهم من الحياة عادةً ما يُستخف به. ففي هذا الكتاب، على كل حال، تكون الحرارة الشديدة دائمة الحضور ــ والعناصر الطبيعية فقط هي الأعداء المهمون للبطل المتوحد.”لقد كان ذلك كله بسبب الهواء، الهواء الشديد الحرارة، الرطب، المتّسم بالضغط العالي الذي يبدو بارداً في الأول. كان يخبّل عقل الواحد، يجعله بارداً، كما لو انه ينفذ داخل مخ عظمه”. (صفحة 92)
وفي إحدى القصص نجد جاسبريناي يقرأ كتاباً لهمنغوَي في شقة أبيه، وقد ذكر المؤلف مرةً في مقابلة أجريت معه كم كان همنغوَي مهماً بالنسبة له حين أعطاه الدافع الذي أدى به في النهاية إلى تأليف (الشيطان كلب أسود). وتُعد مجموعة قصص جاسبريناي القصيرة الأولى من بين الأفضل في الأدب الهنغاري المعاصر. وقد اختار المؤلف مكاناً غير عادي لاختبار القضايا الأخلاقية، ومع ذلك فإن هذا المكان بعيد عن كونه مكاناً غريباً: فهذه القصص يمكن أن تحدث في أي مكان؛ وستكون هناك على الدوام شخصية لجاسبريناي تكون الروح أشبه بديوراما (3) حربٍ لها ــ والبقية مجرد ديكور.

عن/ hlo.hu
إشارات المترجم:
(1) ساندور جاسبريناي Sándor Jászberényi كاتب هنغاري ومراسل صحفي في الشرق الأوسط،. وقد غطى أحداث أزمة دارفور، والثورة في مصر وليبيا، والحرب في غزة، وانتفاضة الحوثيين في اليمن، وأجرى مقابلات مع العديد من الجماعات الإسلامية المسلحة. ونُشرت قصصه في المجلات الأدبية الهنغارية البارزة وأخرى في الخارج.
(2) ماكس المجنون Mad Max فيلم إثارة استرالي من عام 1979 يدور حول انهيار مجتمعي، وقتل، وانتقام يحدث في استراليا المستقبل.
(3) ديوراما diorama: صورة يُنظر إليها من خلال ثقب في جدار حجرة مظلمة.