كنا 14 ضابطا قرر حسين سري عامر اعدامنا!

كنا 14 ضابطا قرر حسين سري عامر اعدامنا!

"موعدنا غدا مساء.. في بيت حسين ابراهيم"
تلك كانت تعليمات الهيئة التأسيسية للضباط الاحرار، تلقيناها من الرئيس جمال عبد الناصر مساء يوم 15 يوليو سنة 1952.
وكنا نعرف لماذا دعانا جمال الى هذا الاجتماع، ففي صباح ذلك اليوم صدر الامر بحل مجلس ادارة نادي الضباط، بعد ان ادرك الملك ان بقاء هذا المجلس يعتبر تحديا لرغباته،

واتصل رئيس الوزراء وقتئذ حسين سري بالفريق حسين فريد رئيس هيئة اركان حرب الجيش، وقال له ان اي ضابط يحتج على هذا او يفتح "بقه" بكلمة يعتقل في الحال، كما يجب تطهير الجيش من جماعة الضباط الاحرار.
وكان لحل مجلس ادارة نادي الضباط اثره البعيد ومغزاه العميق عندنا نحن الضباط الاحرار، فقد انتهزنا فرصة انتخابات المجلس يوم 31 ديسمبر 1951 ورشحنا فيها عددا من زملائنا حتى تسير غور الاثر الذي تركته منشورات الضباط الاحرار في نفوس ضباط الجيش، وكانت النتيجة نصرا باهرا، فقد انتصر جميع مرشحينا بينما سقط اذناب الملك، بل لقد وقف احد اعضاء الجمعية العمومية اثناء انعقادها وكان من ضباط سلاح الصيانة، وقال:
- باعتباري زميلا في السلاح للشهيد عبد القادر طه، فانني اطالب الجمعية العمومية بالوقوف دقيقتين حدادا على الرجل الذي راح ضحية القدر والنذالة.
وهب الضباط جميعا وقوفا، وكانت لطمة قوية استقرت على وجه الملك واذنابه من كبار ضباط الجيش، فقد كان معروفا ان الملك هو الذي حرض على قتل الشهيد عبد القادر طه.
تلك كانت بداية النهاية، فقد طاش صواب الملك، ودار رأس ذنب السراي حسين عامر قائد سلاح الحدود، وكانت ثورة جامحة وراء جدران القصر، تمضخت عن قرار اغلاق نادي الضباط.
اجل كنا نعرف ان شيئا كهذا لابد ان يحدث، وكنا نريد ان يلمس ضباط الجيش بانفسهم مدى احترام الملك لحريتهم، وكيف انه يراها هبة ومنة يمنحهما لهم متى شاء ويمنعها عنهم وفق هواه ولكن هذا لم يمنع من ان اغلاق النادي ترك اثرا آخر بالنسبة للضباط الاحرار، فقد كانت محتويات المنشورات السرية التي اصدرناها ووزعناها لنشر الوعي بين صفوف الضباط، وكانت موضوعات الاحاديث في الاجتماعات الفردية التي كان يعقدها كل منا لزملائه في وحدته او سلاحه، كانت هذه وتلك تجعل من الضباط الاحرار في نظر الاخرين قوة هائلة تستطيع ان تصمد امام جبروت الملك ونتحدى طغيانه، وها هو ذا يصدر امره بحل المجلس واغلاق نادي الضباط، وفي هذا مافيه من الاستهانة بقوة الضباط الاحرار ونفوذهم، بل هو صفعة اراد الملك او يوجهها لاولئك الذين وافتهم الجرأة لتحديه.
وجلس جمال يفكر ماذا نفعل؟ هل نتلقى الصفعة في رضوخ واستسلام وبذلك يفقد الضباط الاحرار هيبتهم وقوتهم وشجاعتهم التي يتوسعها فيهم زملاؤهم ضباط الجيش؟
ثم.. لقد استطعنا ان نضم عددا من الضباط في مختلف الاسلحة الى خلايانا الفرعية، وهو عدد ليس كبيرا حقا، لكن من يدرينا اننا نستطيع ان نحصل على عدد مثله مستقبلا اذا انفض من حولنا اليوم، عندما يرى هزيمتنا امام الملك؟
لم يكن هذا التفكير وليد الخوف او التردد في الاقدام على القيام بحركة ايجابية ضد هذا التصرف، وانما له سبب آخر.
ففي شهر مارس سنة 1952 بعد ان وقع حريق القاهرة، الذي اراد به الملك ان يحرق كفاح الاحرار ضد الانجليز في القتال، ليحفظ كيانهم وكيانه، ويحميهم ويحمي نفسه، وبعد مصرع الضابط الشهيد عبد القادر طه، حدث ان عقدت الهيئة التأسيسية للضباط الاحرار اجتماعا، اتفق الرأي فيه على القيام بالثورة في شهر نوفمبر 1952.
ولتحديد هذا الموعد حكمة.
فقد كان الملك قد عطل البرلمان حتى يجنب اذنيه سماع تلك الاصوات التي كانت ترتفع من بين قلة قليلة من ذوي الوطنية في صفوف الاعضاء، وتعلن سخطها على الاوضاع المقلوبة التي تسير عليها البلاد، وقد علمنا ان هذه القلة بين اعضاء المجلس قررت ان تجتمع في البرلمان رغم انف الملك يوم موعد انعقاده العادي في شهر نوفمبر 1952، وتوقعنا ان يكون ذلك الحدث سببا في انفجار سخط الشعب على الملك واذنابه، وقررنا ان ننتهز فرصة الارض الممهدة للثورة، وتقوم بحركتنا.
ولكن قرار الملك السابق بحل مجلس الضباط، نضمن – وهو لا يدري – فصل الختام في قصة الحكم الفاسد، وقررنا ان نعجل بتنفيذ الخطة.
وبعد ان قال لنا جمال – انه يرى ان نبادر بتنفيذ الخطة في يوم 5 اغسطس 1952، طلب دعوة اعضاء اللجنة التأسيسية للضباط الاحرار كلهم للاجتماع به في اليوم التالي، لبحث الموضوع واتخاذ قرار فيه..
وفي اليوم التالي 16 يوليو 1952 عقدت الهيئة التأسيسية اجتماعا اخر حضره من اعضائها: جمال عبد الناصر، وعبد الحكيم عامر، وعبد اللطيف البغدادي، وكمال الدين حسين، وحسين ابراهيم، وانا.. خالد محيي الدين، وكان الملك قد اصدر امرا بتعيين مجلس ادارة مؤقت، حرص على ان يكون اعضاؤه جميعا ممن لا تحوم حولهم الريب والشكوك، والمعروفين باخلاصهم له، اي من غير الضباط الاحرار طبعا.
في ذلك الاجتماع اقترح بعض الزملاء ان نقوم بعمليات عنيفة، ولقى الاقتراح قبولا مبدئيا، ومر يومان ونحن نفكر في اخراج الفكرة الى حيز التنفيذ.
ولكن جمال عبد الناصر جاءنا في اليوم الثالث وقال لنا:
- فقد فكرت طويلا في مسألة القيام بالعمليات العنيفة التي اتفقنا عليها من قبل، فوجدت ان الحل السليم هو ان نتأكد اولا عن مدى سيطرتنا على الجيش، فاذا اطمأن بالنا الى هذا، استطعنا ان نسقط الحكومة، ونفرض شروطنا ونحقق اهدافنا.
وعدنا نفكر في مدى سيطرتنا على الجيش، وجلس كل واحد من مندوبي الاسلحة بيننا بعد قوائم باسماء زملائه الضباط الذين يمكنه الاعتماد عليهم، ثم اتفقنا على ان نقوم بالحركة يوم 4 اغسطس.
وقد اخترنا هذا اليوم بالذات لانه يصادف الموعد الذي تعود فيه بعض وحدات الجيش من العريش الى القاهرة، وبينها قوة كتيبة مدافع ماكينة، تستطيع الاعتماد عليها في تنفيذ الخطة، وحتى يكون المواطنون قد صرفوا مرتباتهم، وفي وسعهم تأمين نفقات معيشتهم حتى آخر الشهر، وذلك من باب الاحتياط لما قد يستجد من ظروف طارئة بعد اعلان الثورة.
ومضى كل منا يضع خطة تفصيلية للعملية التي يستطيع ان يقوم بها، معتمدا في ذلك على ضباطه وجنوده والاسلحة التي يستطيع الحصول عليها.
وبدأت اتصالات جديدة بين اعضاء الهيئة التأسيسية واعضاء الخلايا الفرعية للضباط الاحرار، وتم حصر اسماء من نستطيع الاعتماد عليهم من الضباط، ودراسة امكانيات كل سلاح وفي يوم الاحد 20 يوليو، ابلغنا جمال عبد الناصر انه حدث تغيير في موعد الحركة بسبب معلومات اتى بها ثروت عكاشة.
قال ثروت ان احد اصدقائه اتصل به تليفونيا من الاسكندرية، وانبأه ان حكومة حسين سري قدمت استقالتها، وان نجيب الهلالي بشكل الوزارة الجديدة، وانه سيعين حسين سري عامر وزيرا للحربية، وان حسين سري عامر صرح بان الحل الوحيد لاعادة الهدوء الى صفوف الجيش هو القبض على الضباط الاحرار والتنكيل بهم، وانه اعد قائمة من 14 ضابطا، ينوي الفتك بهم وكان لا بد ان نسبق حسين سري عامر، فنضربه قبل ان يضربنا، وقررنا ان نقوم بالحركة في مساء اليوم التالي 21 يوليو، وارجأنا تحديد ساعة التنفيذ الى ظهر الغد، ثم اسرعنا نتخذ جميع الاجراءات اللازمة، من حيث اعداد القوات اللازمة وتوزيع الذخيرة، والوقود، وتجهيز العربات والدبابات والسيارات وغيرها.
وفي اليوم التالي ذهب كل منا الى عمله كالعادة، وقبل ان يذهب جمال عبد الناصر الى كلية اركان الحرب ليقوم بتصحيح اوراق امتحان الطلبة الضباط، مضى يطمئن الى مدى الاستعدادات التي اتخذها كل منا تمهيدا لتنفيذ العملية، ثم قال ان الوحدات القادمة من فلسطين التي سنشترك معنا في العملية لم تصل بعد، وينتظر وصولها بعد الظهر.
وبعد الظهر قررنا تأجيل تنفيذ العملية الى مساء اليوم التالي، اي ليلة 22-23 يوليو.
وفي صباح يوم 22 يوليو عقدت الهيئة التأسيسية للضاط الاحرار اجتماعا في بيتي، وجلسنا نضع الترتيبات الاخيرة للعملية.
وكانت الهيئة التأسيسية تتألف وقتئذ من تسعة اعضاء، لم يحضر منهم غير جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر – وكان قد جاء من خدمته بالعريش زاعما المرض، ليشترك في الحركة – وعبد اللطيف البغدادي، وكمال الدين حسين وحسن ابراهيم، وخالد محيي الدين، اما الثلاثة الباقون فكانوا في خدمة وحداتهم خارج القاهرة.
في هذا الاجتماع درسنا جميع امكانياتنا على ضوء التقارير الواردة من الضباط الاحرار في مختلف الوحدات.
وفي تلك الجلسة ناقشنا آخر واجبات الخطة النهائية، التي اشترك في وضعها جمال وعبد الحكيم وزكريا، وقرأنا الفاتحة وتعاهدنا على المضي الى الهدف بايمان واخلاص، والله على ما نقول شهيد.
وانصرف الزملاء بينما حملت ابنتي – وكانت مويضة – الى الطبيب كعادتي كل يوم، وعندما عدت الى البيت وارتديت ثيابي العسكرية، كانت الساعة الثامنة مساء فتأهبت للنزول، حتى اجتمع بزملائي في سلاح الفرسان، وتراجع مرة اخرى الترتيبات النهائية للعملية.
ومضيت الى بيت ثروت عكاشة، وكان هناك حسين الشافعي، وبينما نحن نراجع عمليتنا المقبلة دخل علينا الرئيس جمال عبد الناصر، وكان يرتدي قميصا وبنطولنا، فتناولنا طعاما خفيفا، وعندما اطمأن الى قوة روحنا المعنوية، انصرف وابتسامة الامل الكبيرة ترتسم على جميع قسمات وجهه، واذكر يومئذ انه قال لثروت قبل ان ينصرف، وكان يعرف انه رقيق العاطفة:
- ثروت... ارجو الا تجعل للعواطف اي تأثير عليك كنت اشعر ونحن في طريقنا الى العملية بشعور داخلي عجيب، وهو ان الحركة ستتم بسلام، ولم يداخلني قط اي شعور بالفشل، ولعل السبب في هذا هو انه اذا لم تقم الحركة فسيقبض علينا الملك واعوانه، كما صرح بهذا حسين سري عامر. واذا قامت وفشلت فسيقبض علينا ايضا، او قد ننجح في الافلات منهم، اي ان مصيرنا واحد سواء قمنا بالحركة او لم نقم، ومن هنا كان الاطمئنان وعدم المبالاة يستقران في اعماقي.
في ذلك الوقت كنت اعمل قائدا ثانيا للكتيبة الميكانيكية، وهي تتألف من قوات مشاة تحمل عربات "سبمتراك" اي نصف الجنزير، ونصادف تلك الليلة – ليلة الثورة – ان كان القائد الاول في اجازة فاحتللت مكانه، يعاونني في العمل زميل من الضباط الاحرار.
وعندما ذهبت الى معسكر الكتيبة، وجدت ان الضابط النوبتجي تلك الليلة برتبة "صول" وكان نائما فايقظته، وطلبت منه ان يوقظ جميع جنود الكتيبة، ويوزع عليهم الاسلحة من رشاشات وبنادق وذخيرة، كما يوزع على كل منهم بطانية.
وسألني الصول:
- ايه السبب؟.. هل هناك طوارئ!
فقلت::
- ايوة فيه اضطرابات في البلد ولازم نخرج
واكتفى الصول بما ذكرت لهن وانطلق يصدر الاوامر للجنود.
وكانت علاقتي بجنود كتيبتي طيبة جدا، وكنت موضع الثقة الكاملة عند الجنود وصف الضباط، ولذلك ما كاد الصول ينقل اليهم اوامري حتى اسرعوا يتأهبون لركوب السيارات في الطريق الى العملية.
كانت مهمتي تلك الليلة تقتصر على سد جميع المسالك المؤدية الى منطقة المعسكرات، ومنع المرور، مرور اي شخص يحاول عبورها، سواء من ناحية العباسية او مصر الجديدة او كوبري القبة.
وقسمت قواتي ثلاثة اقسام
القسم الاكبر رابط على مقربة من سينما روكسي، عند المنحنى المواجه لمحطة البنزين هناك، وسد المنفذ بين مصر الجديدة ومنطقة الجيش.
وقسم آخر رابط عند المستشفى العسكري وسد المنفذ تجاه كوبري القبة.
وقسم ثالث عند ادارة القرعة سد المنفذ بين العباسية ومنطقة المعسكرات.
وكنا قد علمنا ان نبأ قيام الثورة قد بلغ القصر في الساعة الحادية عشرة، وان الملك اتصل بكبار ضباط الجيش، وامرهم بالذهاب الى وحداتهم، لاحباط خطة الثورة، مستعينين في ذلك باصدار الاوامر العسكرية التي لابد ان يحترمها من هم اقل رتبة، ولذلك انطلقت بقواتي الى مواقعنا قبل الموعد المحدد لتنفيذ العملية، وكان منتصف الليل.
وحدث بينما قواتي تسد المنافذ الى منطقة المعسكرات، انني التقيت بضابطين احدهما برتبة اميرالاي، والثاني برتبة قائممقام، ويبدو انهما ظنا انني لست من الضباط الثائرين، او انني من قوة الطوارئ التي خرجت لاحباط خطة الثورة فطلبا مني سيارة تحملهما الى وحدتيهما، فسألتهما عن سبب ذهابهما الى وحدتيهما فقال اكبرهما رتبة:
- لان فيه ثورة في الجيش، وعندنا اوامر، توقفها، هات لنا عربية قوام.
فقلت لهما بكل هدوء:
- لا
- وارتفعت حواجب الضابطين الكبيرين دهشة، اذ كيف يجرؤ ضابط اقل منهما رتبة على ان يقول لهما: "لا" وسأل احدهما::
- لا!.. ازاي لا!
وفي بساطة اجبتهما وانا اضحك:
- لانني من الثوار
وصعق الضابطان، وعندما افاقا من دهشتهما قال احدهما:
- طيب احنا دلوقت نعمل ايه!
فقلت:
- تروحوا البيت
وتكرر مثل هذا الموقف مع كثير من كبار الضباط غيرهما، ولم نسمح بالمرور الا لوحداث الجيش القادمة من الماظة، التي تحمل كلمة السر وهي "نصر".
وتم لنا النصر.. من عند الله.

المصور/ حزيران- 1958