أول من قال: هنا القاهرة!

أول من قال: هنا القاهرة!

في عام 1923 كانت مصر تفتح اذنيها لاحدى عشرة محطة اذاعة، تقول كل منها: هنا القاهرة!.. وكان عدد اجهزة الراديو في مصر كلها، يزحف بصعوبة نحو العشرة الاف، او الاحد عشر الفاً، على الاكثر..
كان لكل الف راديو تقريباً، محطة اذاعة كاملة!

وفي عام 1923 كان الراديو من اهم الاشياء التي يطلب الريفيون الذين يزورون العاصمة، ان يروها.. كما يرون حديقة الحيوان، وترام الازهر!..

وكانت اجهزة الراديو، مبعثرة على "البنادر" وعواصم المديريات والمحافظات وبعض القرى.
وظلت محطات الاذاعة الاحدى عشرة ترفع عقيرتها كل صباح ومساء، حتى يوم 29 مايو سنة 1924.. في هذا اليوم اغلقت محطات الاذاعة افواهها، وذرفت دمعة او دمعتين على ماضيها الحافل، ثم اخلت الطريق لمحطة اذاعة ماركونين التي احتكرت الاثير، بقرار من وزارة المواصلات.
ان مستمعي سنة 1959 لا يذكرون شيئا عن محطات الاذاعة الاهلية التي كانت تزحم جو القاهرة، وتتصارع للفوز باستماع الناس الى "الاعلانات" التي كانت تذيعها!
نعم.. الاعلانات!..
كان مورد رزقها من الاعلانات.. التاجر فلان يعلن عن "امواس الحلاقة".. والترزي فلان يعلن عن احدث المودات للسيدات والرجال.. وتاجر العطور، ينفع زبائنه عن طريق الاذاعة باخر روائحه العطرية..
وخلال الاعلانات، او قبلها، او بعدها، تشتف الاذاعة المسامع باسطوانة لام كلثوم او عبد الوهاب او منيرة المهدية!
وكان التنافس على اشده بين محطات الاذاعة الاهلية..
والمقالب التي تدبرها كل محطة للاخرى كانت اكثر من الاعلانات والاسطوانات التي تذيعها..
ومع ذلك، وجدت بين اصحاب المحطات "مصيبتهم" الكبرى، عندما علموا باتجاه نية الحكومة الى اغلاق محطاتهم، وفتح الاثير كله لماركوني وحده!
عندئذ اجتمع اصحاب المحطات، والغوا "اتحادا" جعلوا له محطة اذاعة تسمى "دار اتحاد محطات الاذاعة الاهلية"..
ومن هذه الدار، اذاعوا على الجمهور كلماتهم الاخيرة.. قبل الموت!
اذاعوا "استعطافات" مؤثرة موجهة الى الحكومة.. فلما فشلت استعطافاتهم، بدأوا يودعون المستمعين، ومطربي الاذاعة ومحدثيها.. ويقول مذيعهم، بعد وصلة للشيخ صبح:
-والله رايح توحشنا يا شيخ صبح!.. فاذا كان الدور على الشيخ علي محمود قال المذيع:
- والله غيابك يعز علينا يا شيخ علي.. ويجيء دور متحدث كان يسمي نفسه "صادق صديق العائلات".. وهنا يقول المذيع في صوت متهدج:
- راحت ايامك يا سي صادق.. يا صديق العائلات!.
وانتهت مراسيم الوداع على هذا النحو المؤثر، وشيعت محطات الاذاعة الاهلية الى المقر الاخير، وقبل ان توارى فيه، القى الاستاذ اسماعيل وهبي شقيق يوسف وهبي، رثاء حارا على روح الاذاعات الاهلية – او على ارواحها جميعا – وكان اسماعيل وهبي، يملك احدى هذه المحطات..
واختتم الوداع بالقرآن الكريم.. وانصرف المشيعون.. الى محطة ماركوني!
كانت آخر كلمات سمعها الناس من ميكروفون "اتحاد المحطات الاهلية".. هي : "نشوف وشكم بخير".. ثم اردف المذيع قائلاً: "تصبحوا على خير"..
واصبح الناس، يستمعون الى محطة ماركوني..
**
ان صاحب هذه الكلمات الاخيرة المؤثرة كان يتزعم اصحاب المحطات الاهلية. وكانت محطته تسمع في اسيوط والاسكندرية، فضلا عن القاهرة، بينما كانت المحطات الاخرى، تتعثر اصواتها عند حدود القاهرة، ثم ترفض ان تتجاوز هذه الحدود..
كان شهيرا في القاهرة، والاسكندرية، واسيوط، وكان الناس يتناقلون اسمه، ويقولون: "حبشي جرجس اذاع اغنية معينة او علانا معينا"..
أما الان.. بعد ربع قرن، تطورت خلاله الاذاعة تطورا هائلا.. فمن الذي يذكر حبشي جرجس واعلاناته واغانيه!
انه الان في الثانية والستين من عمره..
يتحدث بلهجة الاذاعة القديمة، ويروي لمن يقابله حشدا من الذكريات..
انه يعرف كيف بدأت ليلى مراد حياتها الاذاعية، ويذكر اول اذاعة لاسمهان، واول "اغنية" للشخ رفعت.. نعم "اغنية". فان الشيخ رفعت بدأ حياته الاذاعية باغنية لا بربع قرآن!
وكان يقوم بتنسيق برامج الاذاعة "شاب" من اولاد الذوات – كما يقول حبشي – اسمه "مدحت افندي عاصم"!.. يقصد الموسيقار المعروف مدحت عاصم..
"وذات يوم جاءني شاب قال انه يريد ان يغني في المحطة، وكان يضع العود تحت ابطه.. وجلسنا نستمع الى الشاب وهو يغني:
يا ريتني طير وانا اطير حواليك
مطرح ما تروح يا عيوني عليك
ونجح الشاب في الاختيار، وكان اسمه، "فريد الاطرش"!..
"واتفقت مع الشاب على ان يحضر ليلا لتقدمه الى المستمعين، فاقبل في المعياد يرتدي "سموكن".. ووقف امام الميكروفون يذيع مباشرة – فلم تكن تعرف في ايامنا الاشرطة التي تسجل ثم تذاع – وعزف التخت مقدمة الاغنية، وجاء دور المطرب، ولكن فمه انغلق بقفل من حديد، واحتبس صوته في حنجرته، واتضح انه "مكسوف" وانه يريد ان يشعر انه يغني لنفسه، فاطفأنا النور، ووضعنا قطعة من الشاش على الميكروفون لكيلا يراه المطرب الخجول.. وعندئذ فقط بدأ القفل الحديد ينفتح.. وبدأ صوته يخرج من حلقه.. ونجح المطرب.. وشجعه المستمعون"..
هذه بداية فريد الاطرش في الاذاعة!..
**
وكانت بداية "اسمهان" في اذاعة حبشي، عن طريق التليفون..
اتصلت بحبشي تليفونيا، وقالت له انها ستغني له في التليفون.. وغنت مطلع اغنية ام كلثوم التي لحنها الشيخ ابو العلا:
وحقك انت المنى والطلب
وانت المراد وانت الارب
وقال لها حبشي: استعدي للغناء غدا.. ولم يكن قد تبين صوتها جيدا في التليفون، ولكنه اراد ان يقدم صوتا جديدا لميكروفونه..
وكانت اول اغنية لاسمهان في اذاعة حبشي:
ياللي هواك شاغل بالي
في غرامك انا ياما قاسيت
وقبضت "اسمهان" ثمن "الوصلة" سبعين قرشا بالتمام والكمال، واشترت بها زهورا.. كانت – رحمها الله – تحب الازهار!
**
ان جمعية الاذاعي الكهل حبشي جرجس لا تنفد.. لقد رأهم جميعا يدقون الابواب ليدخلوا.. رأى هؤلاء المشاهير الذين تلتمع اسماؤهم الان التماع نجوم الليل، يسيرون على اقدامهم الى محطة اذاعته، ليذيعوا لقاء قروش، او لقاء لا شيء.. ان "فريد الاطرش" مثلا قدم الوصلة الاولى مجانا، ودفع مصروفات الموسيقيين ايضا..
اما المرحوم انور وجدي، فبدأ في الاذاعة "الحبشية" – نسبة الى حبشي طبعا – كمنلوجست، يلقي المنلوجات التي تذيعها المحطة دعاية لاصناف الصابون وعلب السجاير والاصواف الانجليزية!
اخرج انور وجدي – ذات ليلة – تمثيلية تبدأ في صالة رقص، يغني فيها مطرب وترقص راقصة، ثم تدور معركة بين الرواد تنتهي في قسم البوليس، ويقول احد المتهمين ان خصمه قد طعنه بثلاث سكاكين طعنات نجلاء، فيسأله ضابط البوليس في دهشة:
- ولكن ازاي يا راجل يضربك ثلاث سكاكين وبدلتك ما حصلش فيها حاجة، ولا جسمك جراله حاجة؟ فيجيب الرجل في ثقة وزهو:
- مش ممكن السكين تفوت في بدلتي، لان قماشها اشتريته من محلات كذا ولانها من صوف كذا..
وكان انور يكتب الفكرة، ويخرجها، ويمثلها، نظير مائة قرش!!
**
وذات يوم همس "صديق العائلات" في اذن حبشي ان مقرئ جامع فاضل باشا بالقاهرة يجيد الغناء وانه مستعد لاذاعة اغنية، على الا يذكر اسمه.
وجاء الشيخ المقرئ الى المحطة، وغنى "وحقك انت المنى والطلب" بمصاحبة تخت المرحوم مصطفى العقاد.
ولم يعرف احد اسم "المطرب" حتى المح الابراشي باشا – وكان ناظر الخاصة الملكية – في معرفته، فهمس حبشي له باسمه راجيا من "الباشا" ان يكتمه!..
وكتم الابراشي باشا اسم "الشيخ محمد رفت" حتى سمعه الناس بعد ذلك يتلو القرآن الكريم، فجنوا به ورفعوه الى السماء، دون ان يعرفوا انه هو الذي فناهم "وحقك انت المنى والطلب".
ولكن تلاوة القرآن في الراديو، كانت مشكلة دقيقة قبل ربع قرن..
كان بعضهم يعتبرها "حراما".. فلم يجرؤ مقرئ على الجلوس امام الميكروفون.. ثم انفق حبشي مع الشيخ على حزين على اذاعة القرآن الكريم كل صباح.. لمدة نصف ساعة..
ولم يكد الشيخ حزين يتم التلاوة، حتى كانت مظاهرة ضخمة من المشايخ قد احاطت "بدار الاذاعة" في شارع فاروق – شارع الجيش الان – وكانت دار الاذاعة حجرتين في عمارة.
وكانت "العقدة" التي يريد المشايخ حلها:
- كيف يذاع القرآن من نفس الميكروفون الذي تذاع منه الاغاني؟
كانوا يستنكرون ذلك ولكن حبشي واجه الموقف بذكاء ونجا من غضبهم فعلا، وعرض عليهم الاشتراك في اختيار ذوي الاصوات الحسنة التي تتلو القرآن الكريم..
واصبحت تلاوة القرآن، بعد ذلك، مادة ثابتة في برامج جميع محطات الاذاعة الاهلية، وورثتها عنها اذاعة ماركوني..
**
واول حفلة اذيعت بالراديو لام كلثوم.. كانت لها قصة..
كانت الحفلة في مسرح الازبكية.. وجاء حبشي بالميكروفون، وجهاز الارسال، واعلن قبل ذلك في اذاعته انه سيذيع حفلة ام كلثوم، ولكنه لم يستأذن ام كلثوم نفسها في اذاعة حفلتها..
وغنت كوكب الشرق، بعد ان رفضت اذاعة الحفلة..
ولكنها لم تصدق اذنيها، عندما قال لها اصدقاؤها:
- ياسلام يا سومة.. دا انت كنت مدهشة جدا في حفلة الاذاعة!
**
احدى عشر محطة اذاعة صمتت منذ ربع قرن..
ولكن السيد حبشي جرجس ما زال يعيش في اصدائها التي اخمدها قرار المواصلات..
والاصداء هي كل ما تبقى للسيد حبشي، الذي يتهمك الان في اجهمزة الراديو وماكينات السينما، في محله المتواضع الذي افتتحه بعد اغلاق محطة راديو فاروق واخواتها..

عبد المنعم الجداوي
المصور / كانون الثاني- 1959

ذات صلة