فنانة ثاقبة البصر في زمنٍ أعمى.. وداعاً ناهدة الرماح أيتها الإنسانةٌ الرائعة

فنانة ثاقبة البصر في زمنٍ أعمى.. وداعاً ناهدة الرماح أيتها الإنسانةٌ الرائعة

د. محمد الكحط
عادت الفقيدة ناهدة الرماح لبغداد التي عشقتها لتودعها، تجولت فيها، التقيت بها يوم الجمعة التي سبقت أصابتها في المتنبي بصحبة نقيب الفنانين العراقيين صباح المندلاوي وعشرات المعجبين بفنها، وكان الجميع فرح بلقائها، وهي كانت أكثر فرحا وأنتشاءاً رغم تعبها، سلمنا عليها، كانت تنبض بالحياة، ولم يدر أحد منا بأن هذه الإنسانة هذه الفنانة ستغادرنا قريباً والى الأبد. جاءت من الغربة لتطوف في شوارع بغداد ولتودع العراق ومحبيها.

التقيت بها في ستوكهولم سنة 2006، في أمسية أقامتها لها رابطة المرأة العراقية في السويد يوم الأحد 11 آب، حضر الأمسية عدد من نساء الجالية العراقية يمثلن جميع ألوان طيف وفسيفساء العراق الجميلة، قدمتها في حينها السيدة هيفاء عبد الكريم بكلمات تليق بها، وهي الفنانة المعطاءة والمتميزة.
اختارت الفنانة ناهدة أن تتكلم وتسرد ما تراه مناسباً بحرية مجيبة عن الأسئلة بطريقتها الخاصة، أبكت الحضور وأبهجتهم، غنت لهم ومثلت لهم وألقت الشعر وكادت تطير فرحاً في هذا اللقاء البسيط والجميل والعميق.
أنها فنانة إنسانة فقدت البصر ولكنها ثاقبة النظر، تحملت الكثير وقدمت الكثير خلال مسيرة طويلة منذ خمسينيات القرن الماضي عندما أختيرت للتمثيل في فلم من المسؤول سنة 1957، حيث كان التمثيل عملاً منبوذا من قبل المجتمع، مما أضطر أهلها جميعاً للتمثيل معها كي يتجنبوا القيل والقال آنذاك، وكانت الخطوة الأولى في طريق الفن، حيث تتالت العروض وصقلت الموهبة ومن العفوية إلى الأحتراف.
كانت ناهدة الشابة تتحسس معاناة والدتها وهمومها والتي كانت كأي أمرأة عراقية في ذلك الزمان تعاني الفقر والحرمان، وفكرت مراراً كيف تسعد أمها وكيف تبهج حياتها، ورغم زواجها المبكر وكما تقول هي عنه (لم أكن أعرف ما يعنيه الزواج)، مرضت فأخذها زوجها وأمها إلى الطبيب وحكت كيف ألتقت صدفة هناك بالفنان إبراهيم الهنداوي الذي عرض عليها التمثيل في فلم (من المسؤول)، مثلت العديد من الأدوار ومختلف الشخصيات، المرأة الخرساء مع سامي عبد الحميد في مسرحية ((الرجل الذي تزوج المرأة الخرساء)) وهي مسرحية فرنسية، ومثلت في مسرحية القربان للفقيد غائب طعمة فرمان.
تحدثت بشجن عن مواجهتها الأولى للجمهور وهي على خشبة المسرح حيث وقفت لتشاهدهم وجهاً لوجه فأرتعش جسدها وترددت في الكلام ليصرخ بها إبراهيم جلال (ناهدة خذي نفساً عميقاً) وأخذت نفساً عميقاً وكأنه قبلة الحياة التي ردت لها روحها فانطلقت تؤدي الدور خصوصاً عندما تسمع كلمات الإعجاب والإطراء، وعندما أنتهى العرض ألتف الجمهور حولها تعبيرا عن إعجابه، ولكن من بين الجمهور صعقها صوت أمها المتهدج فرحاً ليعلن للجمهور ((هذه بنتي..هذهِ الفنانة هي بنتي...))...قالت عنها ((أنها لحظات لا تنسى)).
لقد حققت حلماً ظل يراودها وهو أسعاد أمها وإسعاد الناس حيث ألم أمها وألم نساء العراق هو نفسه، وتحدثت بحزن عن رفيقة دربها رائدة المسرح العراقي الفقيدة الفنانة زينب، وما تعرضتا له من معاناة من المجتمع والتقاليد ومع السلطات الحاكمة، وسردت قصصاً شبه خيالية عما كانت تمارسه السلطات من أساليب تعسف ضد المرأة ومحاولات إسقاطها.
تعرضت ناهدة إلى الأعتقال مراراً. ففي سنة 1963 أبان الانقلاب الفاشي الأسود شاهدت في السجن عشرات الصور المروعة من صور وأساليب إهانة المرأة والحط من كرامتها وتحسست عن قرب كم هي المآسي التي تعاني منها المرأة العراقية حتى من أقرب الناس لها أهلها، وقالت ((أن هذه المواقف زادتني خبرة وصلابة وجعلتني أشعر بمسؤولية أكبر))، تحدثت عن مشاركتها مع زينب في مسرحية النخلة والجيران، تحدثت عن العاملين معها، لم تنس الماكيير ومصمم الديكور أو الملابس.
تحدثت عن مساهمتها في فلم يوم آخر، وعن أدوارها وعن زملائها في المسرح وكيف كانت حياتهم زاهدة وبسيطة كون هدفهم تنوير وإسعاد الجمهور، في وقت كانت تنقصهم صالات عرض طبيعية، وتكلمت عن غرفة تبديل الملابس المليئة بالعقارب، ومنصة المسرح التي يتسرب من سقفها المطر على رؤوس الممثلين، ولكنها كانت تكتسب خبرة كل يوم من الناس ومن زملائها، تحدثت عن فرقة المسرح الحديث التي كانت تعتبرها أكاديمية كاملة للفن، جمهورها كل أطياف المجتمع العراقي، من بسطاء الناس إلى المثقفين.
تحدثت عن لحظات انطفاء الوهج في عينيها وهي على المسرح تؤدي دورها في مسرحية القربان، وكان المخرج الفقيد فاروق فياض يلح عليها بتأجيل العرض ولكنها أصرت وخرجت للجمهور بعيون يحيطها الغوش والظلام، ولكنها ورغم مشاعرها الحزينة في تذكر هذا الحدث قدمت مقطعا من المسرحية ((عرس بالظلمة مايصير....تعالوا صرت فانوس لكل الناس...))، غنت ومثلت دور أم تذكرت زوجها الذي أستشهد تحت التعذيب سنة 1963، وأبنها الذي قتل في حلبجة بسلاح البعث الكيمياوي، تدفقت الكلمات منها بدفء وبعذوبة، تعلمت وعلمتنا الصبر والشجاعة والقوة والصلابة وهكذا هي المرأة العراقية دائماً شامخة تتغلب على الظروف وتتجاوزها وتبني حياتها من جديد وبشكل أبهى.
تحدثت عن معاناة خروجها من العراق وكيف كان جلاوزة الأمن يتتبعون خطواتها وكيف خرجت منهم بروحها المتحدية لكل ما هو سيئ.
في الغربة ورغم مرضها ومعاناتها مع عينيها المتعبة، لم توقف نشاطها بل تنوع وتعدد فأسست مع الآخرين المنتدى العراقي في لندن، وقدمت العديد من المحاضرات والأماسي في أوربا وأمريكا ودول الخليج.
ناهدة الرماح كانت تتنهد وهي ترى كيف يتنكر هذا الزمن الأعمى لمبدعيه وفنانيه، وكنا نأمل أن ينصفهم بعد أن زال وغرب زمن الدكتاتورية، ولكن واحسرتاه فلا اهتمام بالمسرح أو الثقافة، ولا ذكر أو أنصاف لمن قدموا وأعطوا، كانت تتألم لذلك لكن كان لها أمل وثقة بالمستقبل وبالغد المشرق الذي سينصف الجميع.
ناهدة الفنانة مثلت لنا وكانت ترانا بقلبها الكبير، صرخت بنا أحبكم والله أحبكم أنتم حياتي أنتم عيوني. أبكتنا وأبهجتنا مراراً في أمسية كانت بحق رائعة.
ناهدة الرماح في وداعك، لكِ ألف زهرة و ألف تحية أيتها الفنانة القديرة وأعلمي بأننا نحبك وستتذكركِ الأجيال وستظل حياتكِ نموذجا يقتدى بهِ.