في ثلاثية عبد الله صخي..  نبش المتوارى تاريخياً عبر متوالية الزمان والمكان

في ثلاثية عبد الله صخي.. نبش المتوارى تاريخياً عبر متوالية الزمان والمكان

هاشم شفيق
يمكن اعتبار رواية «اللاجئ العراقي» للقاص والروائي العراقي عبد الله صخي، الجزء الثالث والمُكمِّل لثلاثيته التي ابتدأها بعمله الروائي الأول «خلف السدة»، وتلته بعد ذلك رواية «دروب الفقدان»، لتكون الجزء الثاني من عمل واسع واكتشاف لحقبة تاريخية مهمة من مسار العراق الحديث. وبذا تكون «اللاجئ العراقي»

هي الخاتمة لهذه الثلاثية، المثيرة في تعدد شخصياتها وأزمنتها، وأمكنتها التاريخية الحافلة بالأحداث والتحولات والمراحل المختلفة، تلك التي مرّ فيها العراق على صعيد الحقول السياسية والثقافية والاجتماعية والفكرية. إنها رواية تظهر بأجزائها الثلاثة الأبعاد السوسيولوجية والسايكولوجية والانثروبولوجية التي طبعت حياة طبقة معينة، مؤثرة وفاعلة من طبقات المجتمع العراقي، وهي فئة لطالما وقعت تحت طائلة التهميش والنسيان والإهمال من قبل القوى الحاكمة للعراق الحديث.

ما يُميِّز جماليات هذه الثلاثية، هو تناولها لموضوع روائي جديد، لم يسبق أن تناوله أحد، بكل هذا الزخم والشساعة والتوغل في ثيمات شريحة معينة من المجتمع العراقي، وتسليط النور على الجوانب المعتمة والسوداء والقاحلة في حياة هؤلاء الناس، حياة الإنسان البسيط والفقير والمنكوب بالفاقة والحاجة والعوز والمرض، على مرّ زمن من حكمه من حكام العراق الحديث، منذ نشأته في مطلع العشرينيات، وحتى كتابة هذه السطور، هذا ناهيك عن النسق الجمالي الذي تميَّزتْ به الرواية، في تناول طريقة الفن الكتابي البلوري، السلس والواضح والشفاف، ومن ثم الولوج في صوغ البناء الكلاسيكي المتدرج والمتسلسل والصافي في بنية السرود المحكية في الرواية، مع الميل إلى مزج التكنيك الحكائي الحديث. وهذا ما ظهر في الجزء الثالث الموسوم بـ «اللاجئ العراقي»، حيث تمّ استخدام تقنية «الفلاش باك”لتداعيات الذاكرة وصوغها للأحداث وتحولاتها العديدة، وهي تمر عابرة المحطات والمطارات والعواصم العربية والعالمية.
ولئن جَسَّد ماركيز ملحمة «مائة عام من العزلة”بطريقة مفعمة بالتفاصيل ومليئة بالشخصيات والمرويات، وكشف عبرها عن تاريخ قرية وريف «ماكاندو”كونها مكاناً متخيلاً، فإن مكان عبد الله صخي هو مكان موجود ومجسَّد وعياني، هذا فضلاً عن أنه متحدِّر من صلب هذا المكان النموذجي والتاريخي، المتعين والواقعي والحي، والمتمثل في ثلاثة أمكنة تاريخية، وهي على التوالي «خلف السدة» و»منطقة العاصمة”و»مدينة الثورة”الاسم الأكثر شيوعاً لهذه المدينة، وهي تمتد من الجزء الشرقي للعاصمة بغداد وحتى «تل محمد»، وهي المنطقة المتاخمة لـ»منطقة العاصمة”التي عُرفتْ بهذا الاسم أثناء الحكم الملكي، والمعني هنا مكان «خلف السدة» هذا الذي نزح إليه المهاجرون الأوائل منذ بدايات القرن العشرين من الجنوب العراقي وريفه إلى العاصمة بغداد، إبان بدايات العهد الملكي.

خلف السدة

تبدأ رواية «خلف السدة»، وهي الجزء الأول من الثلاثية، بالإشارة إلى بدايات الهجرة الأولى لهذه المجتمعات الريفية من جنوب العراق إلى العاصمة بغداد، يسوقها رجل الكلّ كان رهن إشارته، وهو شخص تقي، وذو خصال نزيهة، تصل به لكي يكون إماماً فيما بعد لهذه الجموع المقادة من قبله، إلى هذا المكان المحلوم، في تغيير نمط وسلوك وعيش، وإنقاذ هذ الشريحة من الظلم والقهر والقسوة التي لحقتْ بها، من قبل نظام الحياة القاسي في جنوب العراق، وتسلط الإقطاع فيه. قائدهم إذاً، هو شخص مثلهم، ولكنه متديِّن ورع وله كاريزما خاصة، إنّه السيد جار الله الذي حط رحاله في تلك الأرض، من خلف السدة، واختارها موقعاً لتُبَّاعِه وأحفاده القادمين من المهاجرين الأوائل، إلى هذه البقاع الجرداء والبرية الواسعة والمساحات الفارغة، من سدة ناظم باشا في بغداد التي بُنيتْ بطلب منه لدرء فيضان نهر دجلة السنوي عن العاصمة بغداد.
الرواية وعبر أجزائها الثلاثة تتحدث بلسان الراوي، لتمر من خلاله شخصيات عدة، تتحرك وسط أحداث لا تحصى تمر بها هذه الجموع الباحثة عن معنى لوجودها، في بلد ينمو، ويتمظهر في تخليق جديد، بعد تحرِّره، إلى حد ما، من سطوة المحتل البريطاني. فشخصيات مثل مكية الحسن وسلمان اليونس وعائلته التي تتشكل من ابن هو علي السلمان، وهو الشخصية المحورية والأساسية والمفصلية التي تَبني وتُشيِّد هذه الثلاثية، بسردها تاريخ الأجداد ومجيئهم إلى بغداد، وسرد الوقائع والتمظهرات التي طرأت على حياتهم الجديدة، بالإضافة إلى ثلاث بنات، وهن صبيحة ومديحة وحليمة، لتبرز إلى جانبهم وعلى مسار ثلاثة أجزاء شخصيات عديدة أساسية وأخرى هامشية وعابرة، يستوجب السرد والزمن المرور على بعض تفاصيلهم الحياتية، مثل أزواج بنات سلمان اليونس ومن ثم أحفاده، وكذلك أخيه وزوجته. وعبر التطور الزمني الذي يتنامى، وتتنامى عبره الشخصيات، تبرز شخصيات وحيوات لا تحصى لشخوص يظهرون ويختفون، في متون هذا العمل المهم، مثل سوادي حميد، قارع الطبل في الأعراس والأعياد وغيرها من العادات والتقاليد التي تمر بهذا المجتمع، المُتديِّن والريفيّ النزعة والموروث، حيث هناك الممنوعات الكثيرة في التعاطي العاطفي، وكذلك السياسي والديني، فالشيوعية تُعد من النوافل، وعدم الاهتمام بالواجب الديني كذلك، وأيضا ما يستتبع ذلك من شرب الخمرة، ولعب القمار وتعاطي المخدرات، فهي تُعد من الموبقات. ويظهر كنيّز بائع الباسورك، وعلوان عزيز الميّال إلى الاشتراكية واليسار، وعريبي الذي يتقن الغناء هو وعائلته التي تولم العزائم للجيران، وهم كثر ومتشابهون في حياتهم البسيطة. فمكية الحسن الأم تحسن عمل الطب بالأعشاب، وزوجها سلمان اليونس قضّى حياته يعمل في أفران الطابوق، مما ورَّث لأبنه مهنة العمل في البناء، منذ كان صغيراً، وحتى بلوغه ودخوله الجامعة، بقي يعمل عاملاً للبناء، بينما حلمه هو أن يصبح مطرباً يسمعه المئات من الناس.
يكشف الجزء الأول من الثلاثية، مرحلة التأسيس لهذه الشريحة الكبيرة من المجتمع العراقي، ومن ثم تطور نسقها الحياتي، والانتقال من العيش البسيط والبري والبدائي على ضفة مستنقع آسن يُسمَّى «الشطيِّط”إلى النزوح في العيش نحو حياة فيها احترام لبشريتهم، ألا وهي حياة تأسيس مدينة لهم وإعطاؤهم قطع أراض تجمعهم، يبنون عليها بيوتهم، بدلاً من السكن العشوائي في الصرائف وبيوت الصفيح والقصب والطين، وبذا بدأت مرحلة أخرى، فيها حياة أخرى، إذ مُدَّتْ لهم فيها أنابيب المياه، ومن ثم خطوط الكهرباء، ليبنوا مساكنهم المتواضعة والجديدة في مدينة «الثورة»، ذلك الفضاء الخالي التابع للدولة الحديثة، المتمثلة بالجمهورية، ورأسها الحاكم حينذاك، والمحبوب من هذه الفئة المعدمة، عبد الكريم قاسم، رئيس وزراء العراق الجمهوري.

دروب الفقدان

في هذا الجزء وهو الثاني، يتم رصد الجانب السياسي والاحتراب التاريخي بين الحزب الشيوعي وحزب البعث العراقيين. صراع دائم ودام وعنيف وقاس على السلطة، سوف يودي بمقتل رئيس الوزراء وظهور البعث، متمثلاً بالحرس القومي، ثم انكفاء المدينة على نفسها، أي مدينة الثورة لفقدانها شخصية الزعيم المفضلة لديها، ما سيترك في داخلها جرحاً طويلاً، لم يندمل بسهولة، لبشاعة المقتلة واستهتار القتلة في التمثيل بجثته والمس بشخصيته الوطنية.
تمر في هذا الجزء، وهو أضخم من الأول والثالث، أحداث تترى، لتظهر حولها شخصيات ورموز ومفردات وثيمات، تروي تاريخ السنوات اللاحقة التي راحت تكبر فيها الشخصيات، وتهرم، إما بسبب الأمراض وهي كثيرة، أو بسبب الحوادث التي ألمت بالشخصيات، كالقتل والموت في السجون تحت التعذيب، أو بسبب عللها الحياتية والفيزيولوجية، كموت سلمان اليونس الأب في الجزء الأول، ومن ثم غياب الأم مكية الحسن في الجزء الثاني، ومن ثم ظهور واختفاء السياسيين والحزبيين من الشيوعيين العراقيين في فترة حكم البعث الثانية. وعقب التصفيات الكثيرة التي طالت كوادره وقاعدته، يقرر الحزب الشيوعي الرحيل عن البلاد، إلى كل دول العالم كالبلدان الاشتراكية، أوانذاك، والعربية مثل سوريا ولبنان، وهذا ما ستطالعنا تفاصيله المتسلسلة زمنياً، عبر التشظي الذي طال عدداً كبيراً من العراقيين، ولا سيَّما بقيام السلطات البعثية، بعد مآسي الحرب العراقية الإيرانية، بدخول قواتها الكويت، لكي تكتمل الكارثة، تلك التي حاقت ببلد مثل العراق، وقع ضحية السياسات الخارجية والإقليمية والداخلية، ينضاف إليها تهوّر قادته وحكامه بمصائر هذا الشعب المكلوم.

اللاجئ العراقي

إذا في «اللاجئ العراقي»، وهو الجزء الثالث من الثلاثية، ستواجه علي السلمان قضية الرحيل، مع من رحل وهرب ونفذ بجلده، من البطش البعثي، من عناصر وكوادر الحزب الشيوعي وأصدقائه، فيرحل إلى دمشق ليعيش حياة قلقة ومضطربة، متقلباً في مهن موقتة، كقاطع صخور في معمل، أو في مكتب للمحاماة، أو مطرب في مطعم وحان ليلي، حيث سيتعرض من خلاله إلى الاعتداء، والضرب والسخرية من قبل السكارى، متناسياً بأسى حبيباته، مثل بدرية وبلقيس ونادية، ليرتبط فيما بعد بخولة التي سيراها في دمشق وهي يسارية مثله، ولكنه سرعان ما سينفصل عنها، بعد أيام قليلة من وصوله إلى لندن، ثم ظهور نسرين السورية، تليهنَّ ساندرا في مسكنه الجديد بعد الانفصال عن زوجته، لتحنو عليه وتمنحه الدفء، ولكنّ هذا الحب الجديد، قد جاء متأخراً لتنتهي حياة علي السلمان في غرفته ميتاً ووحيداً، وليس ثمة من يبكي عليه سوى ساندرا الإنكليزية.

عبد الله صخي: «اللاجئ العراقي»
دار المدى، بغداد 2017