وداعاً سادن (الثقافة الجديدة)،  قلعة فكر علمي.. ثقافة تقدمية !

وداعاً سادن (الثقافة الجديدة)، قلعة فكر علمي.. ثقافة تقدمية !

د. صالح ياسر
بحزن عميق، تلقينا لحظة رحيله الأبدي.. أية خسارة كبيرة ألمت بساحتنا الثقافية، برحيل شيخنا الجليل، المربي الانسان والاستاذ الجامعي المرموق والشيوعي النبيل، والرئيس الاسبق لمجلس تحرير مجلة (الثقافة الجديدة) د. غانم حمدون.. هكذا ترجل الفارس عن صهوة جواده، فآثر الرحيل وقلبه عامر بالثقة بأن القضية التي كرس كل حياته لها ستنتصر حتماً.

«بهدوء”وكما عوّد أصدقاءه ورفاقه ومحبيه، رحل د. غانم حمدون في فجر يوم 24/2/2017، بغير وداع وهو الذي يكره الوداع، هكذا انسحب المهذّب الانيق العفيف الشفيف. وهكذا، قرر ان ينام نومته الأخيرة، وبرحيله الأبدي انكسر واحد من الاقلام هي بين الأغني ثقافة، والأصلب في مقارعة الغلط.
تعلمنا منذ الدرس الاول في ممارسة السياسة ان من يقف ضد تيار الغلط والعسف.. لا بد ان يكون شامخاً وصلباً.. ولا بد ان يكون مجبولا من طيبة هذه الارض.. مدعماً بثقل أحجارها الكريمة.. وكان غانم واحداً من هؤلاء الشامخين الصلبين الودودين الواهبين بلا حدود.
د. غانم حمدون ناسك متعبد في محراب الحقيقة والحزب. في كل لحظة كان يبحث عن ذاته وعن الحق وسلوك طريقه برغم قلة سالكيه. كان (أبو ثابت) رجل مبادئ وفي.. أمضى سنين عمره باحثاً عن الحقيقة، سابراً أغوار ذلك الطريق المحفوف بالمخاطر والصعاب، يلهمه في ذلك عقل متوقد ومستنير. وفوق ذلك كان أسلوب حياته الشخصية مختلفاً، فلقد عاش حياته زاهداً في كل ما كان كثيرون يلهثون خلفه. وبرغم كل العواصف وأنواء السياسة المتقلبة لم يحد د. غانم حمدون قيد أنملة، عن التزامه السياسي، غير آبه بالمتغيرات، بعكس اللاهثين خلف الثروة والسلطة. لقد كانت سيرته الشخصية مثالا لما يمكن ان يكون عليه الإنسان من تناغم وانسجام مع الذات ونقاء سريرة.
على امتداد سنين معرفتنا وصداقتنا ورفقتنا، لم نلحظ يوماً أن له، ككل إنسان، حلماً خاصاً به، فلقد كانت أحلامه لا حد له. كان يحلم بعالم أكثر إنسانية وأكثر مساواة وأكثر عدلا وأقل عنفاً، وقد كرّس حياته وقلمه وفكره النير، عاش د. غانم حمدون حياة خصبة دفاعاً عن القضية الكبيرة للكادحين وبسطاء الناس، لذا كانت حياته على امتدادها الواسع درسأً كبيراً لك يعيش المثقف والمناضل والإنسان حياته كما يجب ان تعاش؛ درساً كبيراً ومثلا ملهما لأجيال عديدة من رفاقه واصدقائه وأحبته. وعزاؤنا ان الفقيد الكبير ترك لنا ولهؤلاء، وغيرهم أيضاً وهم كُثر، إرثاً طيباً من المواقف الأصلية والذكريات الطيبة والسلوك الإنساني الرفيع والروح الشفيفة والتي لا تساوم على القيم والمبادئ الكبرى للرعيل الذي انتمى إليه الفقيد الحالم بوطن حر وشعب سعيد.
مات غانم؟ لا، لم يمت، بل رحل. رحل إلى عالمه الجديد بعيداً عن الصخب والمواقف الغلط، وهناك في مقبرة (غرينفورد) غرب لندن وجد راحته الابدية حيث الهدوء الساحر ورذاذ المطر وهمسات أوراق الربيع على أغصانها الخضراء.
سنفتقدك يا غانم، سنفتقدك نحن أصدقاؤك ورفاقك ومحبوك. ومع ذلك نعاهدك أننا سنواصل السير على دروب العالم التي عليها سُعدنا بالمسير معك، وفي ساعات الشك كلماتك ومواقفك ستقوينا. فهذا ليس وقت موت، وليس وقت انكسار قلم، ولا وقت وهن قلب، لقد كنت على الدوام نقطة نور في مخيلتنا وابتسامة خجولة وذكية في قلوبنا، ولسان عفيف اسكت خصوماً ومدعين كُثر.. فلماذا تحول كل هذا إلى حزن عميق ودموع حارة.
رحل د. غانم حمدون تاركا فينا حبا كبيراً كمعين لا ينضب، وذكريات حلوة لا تغيب، ونفساً وطنياً لا ينازعه عليه إلا الشهداء الكبار. حتى الاختلاف معك يا (أبا ثابت) كان ايضا متعة ما بعدها متعة، ولكن يبقى السؤال المحير هو: هل نختلف معك لأننا نحبك أم اننا نحبك لأننا نختلف معك؟ فقد كان الاختلاف معك كالحراثة في الأرض، تجرحها سكة المحراث ولكنها تمنحها العافية والغلال.
غانم.. الحياة لا تموت، الحياة لا تأبه للحظات المتوترة، فنم مطمئناً. حقيقة الموت الوحيدة هي.. الرحيل الأبدي، لكن الصداقة لا ترحل، نعم يرحل القلب او الجسد المتعب، لكن الفكر المتحرّر الذي حملته يا غانم وبقيت وفياً له طيلة سبعة عقود ونيف ليس مجرد محطة، بل له أسماء وتواريخ وابطال وشهداء من الرجال والنساء الواهبين بلا حدود، أنهم الكواكب اللامعة، ستواصل السير على دروبهم المضيئة، ونلتقي الأحباء ممن يواصلون رفع الراية لتبقى خفاقة. نطوف المعامل وارض النخيل، وحقول الذرة والحنطة، والأهوار، تخوض في لجة الماضي والآتي، في قرانا ومدننا وبيوت العمال والفقراء التي تتطلع إلى الفجر، ولم تعرف الكهرباء، استوطنتها الأمراض، وفتك فيها المستغلون، وسماسرة المدن ويكتسحها اليوم”أبطال”النظام الطوائفي/ المحاصصي الذي ما انفكوا يتحدثون عن”منجزات”كثيرة حققوها طيلة الأربع عشرة سنة الأخيرة!
فما أكثر الأبطال الذين لم تدون اسماؤهم على مسلة، أو على ورقة بردي، أو على أثر من الآثار التاريخية الباقية، ولكنهم باقون معنا يشاركوننا جلساتنا وصخبنا واحلامنا وآمالنا وخلافاتنا حول الطرق الجديدة غير المطروقة.
(ابا ثابت) نفتقدك... و»هل يعزينا فرح أهل السماء بك؟».. لقد خسر معك الموت لعبة المفاجاة.. ولكن مع ذلك باق أنت بين أجمل أقلام بلادنا المسكونة بـ»جنون”الحرية والعدالة والمساواة والكرامة.
وداعاً د.غانم حمدون.. فمنذ الآن دونك لن يكتمل النصاب!
أيها العاشق لمن تركت الوردة الاخيرة؟

عن/ مجلة (الثقافة الجديدة)