نم يا غانم حمدون، لم يعد ثمة من تسهر لأجله

نم يا غانم حمدون، لم يعد ثمة من تسهر لأجله

رياض رمزي
“هذا هو العالم يا صديقي/ ألمٌ وعذاب/ والموتى يتفسّخون تحت ساعة المدينة/ والحرب تعبر باكية/ صحبة مليون من الفئران الرمادية/ والأغنياء يهبون عشيقاتهم/ أطفالا متألقين/ الحياة ليست نبيلة ولا خيّرة/ ولا مقدسة كما يزعمون/... لهذا أيها العجوز وايتمان/ لا أرفع الصوت/ ضد الطفل الذي يكتب اسم صبية على مخدته...

ولكني أرفع صوتي ضدكم/ يا مخنثي المدينة ذوي اللحم المتورم/ والأفكار القذرة/ يا منجمي الوحل الجشعين/ أيها الأعداء المؤرقون/ المناوئون للحب الذي يمنح أكاليل البهجة/ ضدكم يا من تهبون للصبيان/ قطرات الموت القذر والسم المرير». لوركا من قصيدة إلى والت وايتمان.
نعم يا غانم أنتهى بك المطاف إلى قبر بارد في لندن راضيا بوحدتك بعيدا عن رفاقك في البلاء. ليس لك أن تقلق، ففي بلادنا لا توجد مدافن لعظماء الأمة.
الموت حدث يستمر قليلا لكن تأثيره يظل طويلا. ما قيمة عمر الفرد إن كان عمر الأرض 4567 مليون سنة؟. فعمر من يقارب التسعين عاما، مقيسا بعمر الأرض، لن يتجاوز كسور الثانية الواحدة. في هذا العمر المديد للأرض غابت مخلوقات وحيوات وحلّت محلها أخرى، حلّت محلها أخرى وأخرى ثم أخرى...حتى الديناصورات التي عاشت حقبة جيولوجية كاملة عاشت، قياسا إلى عمر الأرض، أسبوعين فقط. الكوارث كفعل مطوّر للنوعيات البائدة أنتجت، بعد انقراض ما سبقها، أنواعا جديدة محسّنة. عندما أهلك طوفان نوح الجيل الأول على هذه الأرض أنتج جيلا جديدا وذكيا قام ببناء حضارات عظيمة. لماذا؟. لأن نوح كان ذكيا وألمعيا أحتاط للكارثة فجلب بشرا قام بأختيارهم بنفسه، حتى أنه- كما يقال- جلب في قوارير من ثلج حيوانات منوية للتخصيب، إن تعاور النخبة المصطفاة من رجال السفينة هلاك طارئ. لماذا؟. لأن الله أئتمنه على هذه البلاد التي أسرّ نوح للمقربين منه أن الله قال له أنها خميرة الأمم، و ناشدهم بضراعة قائلا أن هذا التكليف الإلهي عبء لا يطاق، فالأرض التي تتحداها كارثة، كزلزال أو فيضان أو احتلال تحتاج إلى سلالات محسنة من البشر تحمي نفسها، فنحن- كما قال نوح- عذيقها المرجّب و لوح خلاصها المجرّب، وكل ما تبقى لها بعد الطوفان. كلام تنقصه الأمانة القول، عندما حطّت الحمامة التي أطلقها نوح على جبل قريب، أن الدنيا وقتئذ كانت فقط صباحا مشمسا و سماء زرقاء و سكون يشي بحجم الكارثة. كلا لأن نوح خاطب الإله وهو يشير إلى رجاله”و ما هو موقع هؤلاء الرجال؟». كلمات غمرتهم بهبّة من شجاعة و أجابوه كفرقة في كورس”سنتحول إلى شامات تنغرز في أديم هذه الأرض». وضعوا مناديل تحت قبة قمصانهم و بدأوا العمل، غير مدركين أن أسماء أحفاد أحفاد أحفادهم ستوضع في قائمة القتل بعد آلاف من السنين في الثامن من شباط، وأن بلادهم ستتحول إلى عنبر لا يسمع فيه غير أنين جرحى ومهزومين، و على رأس البلاد تجار قاموا بذبح طيور الحمام النادر و صنعوا من رياشها وسائد علقوها في بلاد الغرب، مفاخرين بأنهم أزهقوا أرواح جوقات من نسل تلك الحمامة التي أعلنت أنتهاء الطوفان و بدء الحياة. قاموا ببناء مساجد و حسينيات منتظرين تعويضات إلهية مضاعفة لقاء ما أنفقوه، لأنهم يعرفون أن لا شيء ينفق بالمجان وفق قوانين دينهم.
أما غانم فقد كان يبشر بإسلام آخر فحواه أن هناك عدالة ربانية مطلقة. وعندما أنتمى إلى اليسار أقتنع أنها تتحقق على يد نخبة مصطفاة من البشر. هكذا باتت همومه أنشغالات فكرية بتكليف قدسي. فالحب -على سبيل المثال- حفظ عهد و التزام، مثل حبيب يثبت ولاءه لمعبوده بالذهاب إلى مزاره كل صباح و عشية. و لأن المزار مقيم فيه فأنه يزيده تضرّما ولا يسمح بعلاقة شهوانية يتراخى تأثيرها عليه عقب الوصال.
هذا هو الفرق بين دينهم و دين غانم. الأولون يحوّلون رغباتهم الخاصة إلى ضرورة، و غانم يجعل الضرورات العامة و الوطنية هما شخصيا. سعادته في تأجيل متعه حتى يأتي الغد الموعود، متمثلا بقول شوقي”وإذا أخذت العهد أو أعطيته/ فجميع عهدك ذمة ووفاء». هل الرغبات يقين أم متعة؟. إن كانت يقينا فهي عبء، وإن كانت متعة فهي مغْنم. هناك ثلاثة ملايين و نصف يستلمون رواتب كسجناء سياسيين كلهم ينتمون لحزب الدعوة الحاكم، لأن البلاد بالنسبة لهم مثل أسواق الضواحي يتعين الذهاب إليها باكرا للحصول على أفضل السلال. البلاد سوق يعج بذوي الملامح الريفية المسرعين لممارسة البيع والشراء وإختطاف أفضل الصفقات.
أين هؤلاء من غانم الذي أهرت آلام البلاد روحه قبل البدن، الذي خسر من وزنه كثيرا ونتأت عظام كتفيه؟. غانم الذي ما أن يلحق سوء بالبلاد حتى تنتصب حواسه مثل حمامة تحذر صويحباتها من كواسر في الجو تلوح من بعيد، وهي تهز رأسها نحو الجهتين أسفا عندما تفترسهم. أليس هذا هو الجنون بحذافيره؟.
عاش غانم وقبل بقدره كشيوعي وراح يعيش تبعا له بروح رواقية، مؤمنا بذلك القدر من خلال روماتيكيته و ليست حقائقه. كان مغمورا بشعور سابح يناحر الموج و التيار و عينه على تلك الجزيرة التي سيسعد ببلوغها. كان وهو يقاوم الموج يتذكر، كي يبعد التعب عنه، مآثر سبارتاكوس، جان دارك، فهد، سلام عادل...
توصّل غانم مستخدما أيمانه الديني إلى النتيجة التالية”الشر لا يعزى إلى الله بل لإستغلال البشر للبشر». ضمن هذا الحيز الذي تركه الله لعباده قرر أن يستنطق وقائع الحياة مثل ربان سفينة قرر لها أن تلقي مرساتها في ميناء اسمه الحزب الشيوعي العراقي. قام بترجمة رواية الدون الهادئ لشولوخوف مع آخرين، كما ترجم مع آخرين رأس المال لماركس....
ألتقيته في الجزائر أين كان يعمل أستاذا. ثم ألتقيته مصادفة هنا في لندن في مترو الأنفاق. حينما شاهدني بادرني بالقول”أبن صاحبي طيب الذكر أبو عصام». كان والدي قد توفى قبل زمن.
عندما سمعتُ بخبر موته رددتُ مع نفسي بيت شعر لوركا وهو يرثي المصارع الذي انتصر على أشجع الثيران، و لكن ثورا واحدا اسمه موت هو الذي صرعه”قفة جير جاهزة/ الباقي موت و لا شيء غير الموت». أقول لك يا غانم يا أبن حمدون”عدْ إلى غمدك فقد مات الذين تحبهم و أصبحت كالسيف فردا». كلا هذا بيت شعر أوردته بتهوّر، لأنك، يا غانم، تشذ عن قانون الموت. فما ينطبق على موتك ما قاله أبو تمام»
كذا فليجل الخطب و ليفدح الأمر/
فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
مضى طاهر الأثواب لم تبق روضة/
غداة ثوى إلا أشتهت أنها قبر
ثوى في الثرى من كان يحيا به الثرى/
ويغمر صرفُ الدهر نائله الغمر
عليك سلام الله وقفا فأنني/
رأيت الكريم الحر ليس له عمر