الرفيق غانم حمدون.... لماذا فعلتها؟!

الرفيق غانم حمدون.... لماذا فعلتها؟!

مقداد مسعود
ما بعد منتصف نهار 25/ شباط / 2017 فتحت النت..فكانت صدمة البريد معلنة برسالة تعزية مرسلة لي من مجلتنا الثقافة الجديدة...لا أعرف ماذا أقول...؟! تأملت رقم موبايلك : لم أجد ضباب لندن يغطيه..كان دافئا رقم موبايلك مثل صوتك العريض النبرة والمتجعد بعض الشيء..صوتك بقهقهاته العالية دائما وأنت تهاتفني رأيت صوتك فوق سنام جمل من جمال أجدادك..

ورأيتك تتنقل بين ورق فوتوغراف بالأسود والأبيض كانت حواف الصور مصفرّة، وتلتفت لي ملوّحا..رأيت عشر حمامات تنطلق من كفيك..ورأيت عشر حمامات ثانية، ورأيت ُ..وتوالت الحمامات من كفيك وجاوزت الثمانين حمامة..حمامات بيض مثل ذلك الورق الخفيف الذي نملأه بالحفيف الأخضر المنبجس من زهرة الرمان الكبرى ورأيتُ ثم رأيت ُ الحمامات تصوغ مدورة ً من سربها وتهبط نحوك..ها أنت في مركبة من هديل ناصع في عروجك الهادىء جدا...ثم غمرني بياض لا يشبه الضباب ولا يشبه اليأس الذي لم أصدّقه ُ يوما.. كل ما بحوزتي الآن هو النظر إليك من خلال صوتك..ها أنا أعصر ذاكرتي كقميص مبلول في طاسة زجاجية ثم أتأمل عصير القميص / الذاكرة : فأرى صوتك ساخناً كرغيف للتو...من التنور
ذات مكالمة صحت بي : يا ابن مسعود أنت واسع القلب، ضيق المكان..كيف تواصل حلمك؟ أجبتك بالتوازي مع سخريتك الحلوة المرارة : دائما أواصله بالنوم
كلما رفستني اليقظة..فأنا ورطتني الكتب بمعرفة عيوبي كلها بعد أن أهدتني قلقا
أشد رهفا من رادار معقد مثلي..وكل الذين صفقوا لي حاصروني بالمرايا..
فكسرت الإطار ودست صورتي..طمعا بالجوهري ولم أصله..فأزددت ُ طمعا بالطمع وعزفتُ زيادة نقصاني في كلاهما : الزيت والسراج..
فصحت َ بي : أعرض عن اليوتوبيا
فأجبتك : أطمئن يا رفيق أنني لست ُ مصابا بالأمل وأتحاشى العاجز المستبد
ولا مهنة لي سوى صفيري المتهم بإشعال الحرائق.
في 18 شباط 2017 أنت أتصلت بي على الأيميل وطلبت مني أن نستأنف التواصل الذي أنقطع منذ أكثر من سنة..فأرسلت لي رقمك، والسبب أنني غيرتُ رقم موبايلي.. فأنت تعلم أنني أرفض التعامل بغير الأيميل أوالموبايل..فأرسلت ُ لك رقمي وتم التواصل في الليلة نفسها وكان أختلاف الوقت بين البصرة ولندن سببا لقهقهاتك الخافتة ومدعاة سروري أن أسمعك ولكن للأسف يبدو حتى أجهزة الأتصالات تنسج تراجيديتها فينا..أخبرتني أنك أخذت بإقتراحي ولديك الآن كتابات لم تنشر عن سيرتك الثانية..واستمر حديثك حول أسرتك الموصلية وأنك تنحدر من أسرة عريقة تشتغل في تجارة الجمال..واستمر كلامك يعانق إصغائي...
وفي الليلة التالية أخبرتني ضاحكا ومفتخرا بأنني صرتُ من أصحاب المؤلفات وأنك فخور بسعي الدؤوب وأوصيتني أن أهتم بصحتي أكثر فأنا من المسرفين فيها... وفي الليلة الثالثة أنقطع التواصل أنت تتصل وأنا أفتح الموبايل ولاأسمعك
وفي الرابعة.... وفي الخامسة...وووووفي... كم لامبالية بنا أجهزة الاتصالات!! وأي حرمانات كوميدية صرنا نكابدها!!..الآن أتأمل هذه الصداقة بيننا ونحن لم نلتق إلاّ صوتيا... في المؤتمر الثامن لحزبنا الشيوعي العراقي سألت عني، ثم أخبروك عن حضور شقيقتي فقادك الدكتور عباس الفياض صوبها وتم التعارف بينكما تحت خيمة مؤتمرنا الثامن...
في المؤتمر التاسع كنت ُ أنا الذي يبحث عنك ويسأل الرفاق القادمين من لندن وأخواتها عنك..
قبل المؤتمر الثامن أرسلت لي كتابا مطبوعا (الأصدقاء الثلاثة) للروائي والكاتب شاكر خصباك وأوصيتني الاهتمام بهذا المثقف العراقي العظيم الملغي من الاستحقاق النقدي...فأخبرتك أنني كتبت عن روايته المشهورة (الحقد الأسود) والتي تتناول مجزرة 8 شباط 1963...وأخبرتك أن ناقدا عراقيا أحترم جهده النقدي
تناولها في حاشية صفحة من صفحات كتابه (حين تقاوم الكلمة) وأعتبر رواية (الحقد الاسود) أقرب إلى الريبورتاج!! فسألتني من هو..؟ أجبتك الناقد محمد الجزائري...
بعد فترة قصيرة أرسلت لي الرسائل المتبادلة بينك وبين المفكر الراحل هادي العلوي.. وتناقشنا حولها على دفعات عبر ليال صيفية... وذات يوم سألتك عن تجربتك الفذة مع مجلتنا المزدهرة (الثقافة الجديدة) فعرفت ُ منك الكثير الكثير
عن تجربة عملك واحتمالك لأمزجة المثقفين العراقيين الشيوعيين في المنفى وفي المجلة وكنت تتكلم بحب كبير للجميع..
رفيقي الخالد غانم حمدون...
كلما أردت كتابة هذا الكلام..كنت تهمسني ليكن ذلك بعد موتي..
تقولها ضاحكا كأنك ذاهب للقاء حبيبتك الأولى...
فأتضح لي أنك من المصابين بالسعادة الدائمة..
وأن الإلفة هي حواريتك الدائمة مع الكائنات والأشياء
ورغم هذا وذاك..فأنا لا أحسن تصنيفك بين الأشجار
هل أكتشفت امتلاء المنافي بالوطن، فرأيت وطنا تشتت بين خرائط ذات ممر واحد
أين الوضوح المغمض العينين في كل هذا وذاك؟
أيها المناضل الدؤوب ياحامل الراية عاليا طوال عمرك الأحمر الأحمر..
يارفيقي الحبيب العزيز..لم أر منك سوى صوتك
طوال صحبتنا التي بدأت بعد سنوات من سقوط الطاغية ولا مسك ختام لها