مقتطفات من كتاب  خواطر الصباح   للعروي ..   يوميات 1982، 1999”

مقتطفات من كتاب خواطر الصباح للعروي .. يوميات 1982، 1999”

1996
17 مارس
أعلن منذ أيام عن وفاة الكاتبة والمخرجة مارغريت دوراس من الشيخوخة والإدمان•• إحدى الشخصيات التي رافقت شبابنا وساعدتنا على السير في طريق النضج السياسي والعاطفي• شاهدنا، بداية الستينات، هيروشيما، قرأنا موديراتو كانطابيله، تحلقنا حول الحديقة العمومية•• كان صوتها خافتا متميزا يخترق ستار الوعي ليؤثر في الاعماق• تسمعه فتنفصل عن محيطك وعقلك لتحاورها عن مآسي البشر•• ثم انقطع بيننا حبل الوصال أواسط السبعينات• تابعت حملتها النسوية ونظرنا نحن الى جهات أخرى• من حين لآخر كانت تعترضنا تصريحات نستغرب لها•

قالت مرة إن سارتر لم يكن كاتبا• أتصور أنها عنت أنه لم يكن أديبا فنانا بقدر ما كان مفكرا وناقدا• قالت ذلك بدون شك بعد مماته• الحكم، عند التدقيق، صحيح الى حد• أسلوب سارتر تجريدي، متعال عن الواقع وعن الطبيعة حتى عندما يتوخى التعبير الادبي كما فعل في سيرته الذاتية الكلمات• إلا أن ذلك ميزة فرنسية، من فولتير الى زولا وربما بروست نفسه• الفرنسية لغة قانون وفلسفة لا لغة شعر ونثر أدبي، لا تطرب السمع دون أن تلامس الفكر كالألمانية والانجليزية، حسب قول العارفين• وهذا ما حدا بدوراس الى تكسير الجملة الفرنسية ـ لذا لن تكون أبدا مرجعا مدرسيا ـ بالإكثار من الفواصل والقواطع•
هذا النوع من الأدب نسوي، ليس لأنه خاص بالنساء، بل لأن النساء يلجأن الى الصمت كوسيلة للتعبير أكثر من الرجال وحتى من الاطفال• اجتهدت دوراس لإبداع عبارة جوفاء تتجاوز اللفظ• لجأت في النهاية الى السينما اعترافا بعجز نسبي وفي محاولة جريئة للتخلص بالمرة من الوصف (مثل سارتر في آخر التحليل) والتركيز على لحظة الانفجار، عندما تنهار الحواجز الواقية، حواجز الثقافة والتربية وينكشف النبع، ذاك الذي وُضع في عهد المرأة• عندها لا مناص من أن تبدو المرأة”خارجة عن عقلها”لأنها تخضع آنذاك لقانون فوق قانون المجتمع•
كانت دوراس مثال الأنانية ومثال الاستقلال• استهدفت جمالية غير معهودة، في التأليف الفرنسي بالضبط• لا ننسى أنها نشأت في محيط غير فرنسي، في الهند الصينية• ما لم يلتفت إليه كثيرا النقاد الفرنسيون هو سبق المرأة الانجليزية في هذا الباب• لم تحتج فرجينيا وولف الى تكسير اللغة، بل اكتفت بالاغتراف من وفرة قاموسها وتنوع تراكيبها وغزارة أصواتها وأخيرا من تداخل والتباس معانيها• فانتهت الى شاعرية أثبت وأعمق• لكن مارغريت دوراس هي التي رافقت شبابنا لا غيرها•
31 مارس
قالت: لا يحق لحزب سياسي أن ينظم مناظرة في حرم الجامعة، إن في ذلك استفزازا للأغلبية• وإلا وجب الاستعداد للمواجهة والاصطدام•
قلت: المهم ليس ما حدث في كلية عين الشق• ما أزعج الناس، والنخبة السياسية بخاصة، هو مستوى التواطؤ بين السلطة ـ وزارة الداخلية بالتحديد ـ والحركات الاسلامية• لو صارت الامور سيرة طبيعية لالتمست القيادة الطلابية، التي تمثل حاليا الاغلبية الاسلامية باعتراف الجميع، من إدارة الجامعة ان تعترض على مبادرة الاقلية اليسارية، لا أن تلجأ هي الى العنف لمنع التجمع• بما أن الادارة لم تتدخل، ساد الاعتقاد أنها استغلت الحادث لتمنع المعارضة من ترويج انتقاداتها في صفوف الطلبة• القيادة الطلابية الحالية، الاسلامية الاتجاه، تبدو وكأنها آلة في يد الحكم•
لاشك أن مسؤولين كثيرين يعتقدون ان الخطر، كل الخطر، مجسد في المعارضة اليسارية التي تعبر عن مطالب سياسية، مطالب تؤدي، طال الزمن أم قصر، الى تناوب حقيقي، وبالتالي الى تنحيتهم من الحكم، سيما في الظروف الدولية الجديدة• فيستنتجون ان الاسلاميين، المشرذمين الى”زوايا”عديدة، لا يشكلون خطرا على نفوذهم• يعتقدون أنهم يستطيعون دائما توجيههم أينما أرادوا•
في الوقت نفسه يروجون أن الاسلاميين يمثلون”تلقائيا”الأغلبية غير المسيّسة الوفية للأعراف القديمة، القبلية، الريفية، الدينية، إلخ• وهذا بالضبط ما لا يؤهلهم لتكوين حزب بالمعنى الحديث• فيجعل منهم مادة طيعة قابلة لكل”تشكيل"• عكس اليسار ذي الطبيعة الصلبة التي تستوجب استمالة أتباعه فردا فردا، بالترغيب أو بالترهيب• ثم في وضع المغرب، وضع السلطة والمعارضة، لولا التنظيمات الاسلامية، المتعددة والمتنافسة فيما بينها، لمالت الأغلبية الى التخريب، الى هدم كل ما يبدو عصريا، أي كماليا••
خلاصة مؤلمة: لولا الضغط الخارجي ـ مقالات الصحف، تقارير الأمم المتحدة، تحريات السفراء الأجانب ـ على الأقل في الظرف الحالي ـ لربما انغلقت كل أبواب النشاط في وجه اليسار المسيس العصري• يستمر في الوجود لأنه يضمن العلاقات المربحة مع الغرب، وحتى لا يجد المغرب نفسه في وضع السودان•
لولا هذه الوضعية الشاذة لمنعت هذه السيدة الفاضلة من إبداء رأي يخدم أعداء الحرية والتفتح•
13 مايو
في نهاية الستينات كنت أهتم بما تؤلفه النساء العربيات• فجمعت قدرا لابأس به من النصوص (ليلى بعلبكي، كوليت خوري، لطيفة الزيات، خناثة بنونة، إلخ) واقترحت على من أبدى اهتماما مماثلا أن يرسم ملامح المرأة العربية الجديدة من خلال هذه النصوص• لم ينجز المشروع ربما لصعوبته، إذ تتداخل فيه عوامل ومؤثرات كثيرة وأيضا لأن أوضاع البلاد العربية جد مختلفة•
واليوم يقال لي: حان الوقت أن تطلع على ما تكتبه نساء المغرب، اللائي دون سن الاربعين، عن الحياة الزوجية وعن تربية الاطفال وعن الجنس والعلاقات مع الأجانب• بالفعل المؤلفات كثيرة وتستحق ان تدرس• مع أني أتأسف أن تُكتب على الاغلب بالفرنسية وتنشر بمساعدة البعثة الثقافية الفرنسية• كنت أصفق لذلك لو كان بجانبها تأليف عربي في قدر حجمها وتنوعها• أتخوف أن يحصل نوع من التوجيه والتحيز لموضوعات معينة• لمست ذلك عند دور النشر في باريس• من لا يتعرض وبإسهاب للجنس والسحر و"الكيف”و"الحال”لا ينشر بدعوى أن غير هذا لا يجذب القارئ الفرنسي•
14 مايو
نسمع كل يوم: لاديمقراطية إلا في مجتمع متقدم غني، وها الجمهورية الهندية تبرهن بوضوح على العكس•• ها الحكومة المركزية تنظم الانتخابات وتنهزم، عكس ما يحصل في الدول العربية والافريقية• توجد إذن عوامل أخرى تفسر تعثر سير الديمقراطية عندنا•
إذا قيل: السر في وجود قضاء حر وصحافة مستقلة، نجيب: لماذا يوجد هذان العاملان في الهند ولا يوجدان في مصر مع ان الانجليز حكموا البلدين؟
الاشتراكية، التأميم، التصنيع، عدم الانحياز•• هذه ركائز السياسة التي انتهجها نهرو وتولاها عبد الناصر لعدة سنوات• لماذا إذن هذا الاختلاف في النتائج؟
ما أكثر ما كتبنا عن الموضوع وما أبعدنا عن فهمه!
ـ لماذا كلفتم أنتم في الداخلية بتوظيف الدكاترة العاطلين؟
ـ حصل إخلال بالأمن بسبب الاضرابات• عدد الدكاترة قليل، بالنسبة لغيرهم، وخطرهم على سمعة البلاد كبير• لذا أخذنا المبادرة ونحن على وشك حل المشكل•
ـ هذه السنة• والسنة المقبلة والتي تليها؟
ـ كم العدد؟ يمكن أن نتصرف••
هذا مشكل تربوي، ثقافي، يحول الى مشكل أمني• الداخلية مؤهلة لإيجاد حل سريع لأمر طارئ يلفت أنظار الملاحظ الأجنبي، سيما إذا كانت الداخلية مكلفة بالإعلام• لكن أين الحلول العامة الجذرية؟ على مسؤولية من التفكير فيها؟
هؤلاء الدكاترة وغيرهم من المجازين وحاملي البكالوريا والشهادة الثانوية، وحتى العاطلين بدون شهادة، الى من يتوجهون سوى الدولة• والدولة هي من؟
كلام موظف سام يريد أن يقنعني بحسن نيته ـ وقد يكون صادقا ـ وفيه ربما لب مسألة الديمقراطية: عدم الاستقلال عن الدولة، بل ربما انعدام حتى تصور الاستقلال عنها• حتى السائب متعلق بالدولة• هناك عامل مناهض للديمقراطية وللسلوك الديمقراطي موجود داخل وعينا قبل أن يكون خارجه• الدولة هي المخزن، بالمعنى الحرفي، يأخذ الميرة بالقوة ويوزعها دون مراقبة• المعارض يبدو للجميع، حتى لأنصاره، كبديل وبديل فقط• ما الوعد إذا لم يكن إعادة التوزيع؟
الفرق بين الهند ومصر هو في مستوى الدولة، فيدرالية هناك، مركزية هنا• فرق تغذيه العوامل الأخرى• جانب فقط من المسألة لكنه مهم•
13 مايو
بعد الانتخابات الاسرائيلية وفشل بيريس، تجدد ما حصل للسادات• ظن الناس أن رحلته للقدس تفتح الطريق نحو السلام الشامل• انقسم العرب ووجدت مصر نفسها معزولة في مواجهة إسرائيل• ثم جاءت الانتخابات لتبرهن على أن الاسرائيليين لا يودون إنهاء حالة الحرب• فأفرغت مبادرة السادات من مضمونها الحقيقي• لكنه، بحكم عزلته، لم يستطع أن يتراجع• أبرمت مصر صلحا منفردا وبدأ المشوار الطويل المؤلم الذي أدى الى اتفاقية أوسلو• كان المحتوى أقل مما يصوره مشروع السلام المصري الذي كان بدوره أقل مما وعد به السادات قبل سفره الى القدس•
كل مرة تضغط أوروبا وأمريكا، بدعوى التوسط، على المفاوض العربي• فيتنازل عن مطلب محدد مقابل وعد الوسيط• ثم تأتي حكومة جديدة في إسرائيل لتتبرأ من المفاوضات السابقة• هذا تراجع لكنه خاضع لمنطق سياسي حقيقي طالما لجأت إليه انجلترا حتى استحقت ان تدعي ألبيون الماكرة• ما انتزعه بيريس مكسب لإسرائيل وما وعد به، على لسان الغير، مشروط• كيف لا يحاول الاسرائيليون ـ من أي مشرب كانوا ـ التملص منه؟
ستقول الحكومة الجديدة: لا نتراجع عما أبرم فعلا، وهو قليل، أما ما أرجئ للتفاوض فيه فنحن مستعدون لمناقشته، لكن بدون شروط، أي مفصولا عما سبقه من تنازلات عربية• سيواجه المفاوض الفلسطيني عدة لاءات• كيف يتصرف؟ التراجع ممتنع والتسويف مضر• يبقى البحث عن حل آخر، غير الذي كان مضمنا في الإطار السابق• وهذا ما يطالب به اليمين الاسرائيلي (نحن أولاد اليوم، بل أبناء الدقيقة)• الحل البديل يعني غير الاستقلال، غير إخلاء المستعمرات، غير الجلاء عن مدينة الخليل، غير عودة اللاجئين، إلخ• لا يمكن التوجه الى الامريكان كطرف ضامن للاتفاق لأن الفلسطينيين، من جانبهم، لم يوفوا بعهدهم، أي ضمان سلام تام وفوري للإسرائىليين• وهل كان هذا في مقدورهم؟ وهذا هو في الحقيقة سر هزيمة بيريس• بما ان السلام لا يتحقق إلا بعد تنفيذ الحل العادل• هناك تعجيز من الجانبين•
عكس ما يروج يسهل على أنصار إسرائيل إقناع الأوربيين والامريكيين بوجاهة رأيهم• بعد شهور لن يندم أحد على بيريس، خاصة في ظل الاستعدادات للانتخابات الرئاسية في أمريكا•
22 يونيو
قبل أسابيع انعقد مؤتمر شرم الشيخ بحضور الولايات المتحدة وإسرائىل وغياب سوريا، واليوم يجتمع مؤتمر في القاهرة بحضور سوريا وغياب الدول غير العربية• من الرابح؟ سوريا التي تفض عنها طوق العزلة ومصر التي تستعيد دورها القيادي، على الاقل في نظر الغربيين• من الخاسر؟ تلك الدول التي بنت سياستها الخارجية على تحالف ضمني مع إسرائيل، وما أكثرها حتى وإن غلفت ذلك بتعاليل خداعة متنوعة• لا يوجد في الحقيقة فرق بين تلك الدول ومصر• إلا أن هذه تستثمر الوزن والموقع• وإلا ما حدث ويحدث هو ناتج عن عجز مصر، الثابت المتواصل• لو كانت لها قدرة على قيادة المعركة، منذ عشرين سنة، لمنعت إسرائيل من أن تتقوى الى حد أنها أصبحت لا تسمع لأحد• انقلبت الآية حتى تكلمت الصحافة الامريكية عن”مسكنة العرب"•
يقول المغرب، حسب يومية الشرق الاوسط، إنه يجب على العرب أن يبتكروا استراتيجية جديدة لا أن يُصدروا بيانا عاديا في ظروف غير عادية• لكن ما تتوخاه مصر وسوريا في الواقع هو مجرد بلاغ لمطالبة أمريكا بالضغط ـ ولو وديا ـ على الحكومة الجديدة حتى تستأنف المفاوضات• أما الاستراتيجية التي تقيد تحرك الحكومات وتفرض التزامات عليها فلا أحد يريدها حقا•
يقال: الاجتماع نجاح في حد ذاته• هذا صحيح، لكن لا يمكن استثماره بسبب خطر المواجهة مع الولايات المتحدة في مسألة العراق•
العجز يخلف التردد والإحجام• أول ضحية بطرس غالي• لاداعي للتأسف عليه•
18 أغسطس
تصفحت من جديد”الإخوة كرمازوف”بحثا عن الجملة: من منا لا يتمنى موت أبيه؟ طال البحث حتى ظننت أني اختلقتها أو اختزلت بها عبارات أخرى• وأخيرا عثرت عليها في خطاب إيفان أمام المحكمة بعد أن اختل عقله• إيفان الإبن العاق، المتأثر بعقلية الغرب، المتأثر بها والرافض لها، إذ المغترب بالمعنى الكامل، المغترب بلا تحفظ فهو راكيتين (ماذا تعني الكلمة لغويا ياترى؟)• أما إيفان، نصف المغترب أو المغترب السطحي، فإنه احتفظ بما يميز الروس (والبرابرة عموما) أي الصرامة• لذا يذهب الى الحد، مثل الغرب في أعلى (وأحط) مستواه، مستوى الجحود وبالتالي الخلاء• (من سبق إلى رمي الغرب بالعدمية، الروس أم الألمان؟)•
يحكم إيفان بالإفلاس على نفسه، فينسحب من الميدان ويترك وجها لوجه أخويه: ديميتري الذي ارتكب الجريمة العظمى، التنكر لروسيا وإن فعل ذلك في حالة سهو، دون قصد أو تصميم، خضوعا للأهواء، وأليوشا، الشاب البريء الذي يفهمه تلقائيا الاطفال الابرياء دون الرجال المنحرفين عن طبيعة البلد والناس•
أو ليس هذا خطاب الإسلاميين، خطاب الداعين الى الوفاء والاصالة أينما كانوا؟ دعوة الى الاصالة بدون أصالة؟
14 سبتمبر
أتردد منذ أيام عن التعليق على مشروع التعديل الدستوري الجديد وعلى قرار أحزاب المعارضة بالموافقة عليه• لاشك ان الدافع هو إرادة الحضور في مقصورة القيادة إذا حدث حادث، والا كل ماصرح به زعيم الحزب الوحيد الذي اختار المقاطعة صحيح•
لم يتحقق أي من الوعود التي أعطيت سنة 1995• لم يحصل تشاور بل اتبعت المسطرة المعهودة - الاستعانة بخبراء أجانب - مع ان الحرص على دقائق القانون مناقض لما يلوح به من عدم نضج المغاربة• ثم عرض المشروع للمصادقة ونظمت وزارة الداخلية حملتها المعتادة على أساس: التصويت بنعم تجديد للبيعة•
قبل ان تقرر أحزاب المعارضة الموافقة على المشروع أوضحت ان ذلك ناجم عن اعتبار الوضع العام• وللضغط الخارجي ايضا دور، ضغط غير مباشر، إذ كل المشاريع موقوفة او مهددة بالتوقيف بسبب حالة التريث•
20 ديسمبر
قال الملحق الصحفي لدى السفارة الامريكية، وهو شاب من أصل عربي: للإسلاميين حق في تأسيس حزب•• لا قيد على حرية الصحافة مهما كانت نقائصها•• الديمقراطية ممارسة يومية وليست مجرد قول• قال ذلك بلهجة حادة•
مطالب نسمعها يوميا داخل وخارج البيوت• ومع ذلك عندما تصدر عن أجنبي تبدو لنا مجحفة• لماذا؟ بما أنه لاينظر إلى الظروف ولا الى النتائج المتوقعة، نتساءل عن القصد• ما قاله هذا الشاب هو ماكانت تروجه الاوساط الرسمية الفرنسية عن الوضع في الجزائر حتى ظن الكثيرون انها راضية عما حدث، إذ اضطرت الحكومة الجزائرية الى أن تلجأ الى فرنسا طالبة منها المساعدة•
ليس هذا هدف الامريكان• ماذا يريدون إذن؟ هذا الشاب لم يعرف عن المغرب الا العموميات ويرى الامور من منظور من يقابلهم من المتذمرين، وما أكثرهم! لذلك اكتفيت بالرد: عليك ان تسمع الى المسؤولين من زعماء المعارضة• هدفهم هو ما تقول لكنهم يقدرون الظروف•
لم يقل كلمة واحدة عن مسألة الصحراء•
30 ديسمبر
مشكل لايلتفت إليه الاجانب، او يدركونه لكنهم لايحللونه التحليل الصحيح، هو عجز الاحزاب، وكل المنظمات، عن تجديد قيادتها• التناوب، او التداول، ليس شأن الحكومة فقط• في هذه النقطة بالذات تبدو فرادة المغرب، حتى بالنسبة لجيرانه• الامر مرتبط الى حد بمسألة الشرف• معلوم ان المؤسسة الشريفية، المستقلة عن نظام الزاوية، لاتوجد، بالتواتر المتصل الذي نعرفه، إلا في المغرب•
آخر مظهر لهذه الآفة أزمة حزب التقدم والاشتراكية (الشيوعي سابقا) وهو آخر ماكان يتوقع ان تظهر فيه بسبب ماكان يدعيه من ديمقراطية مركزية•
قيادة الاحزاب، حتى المعارضة، أصبحت في ظروف اليوم”قيادة”بالمعنى التقليدي، تلك التي تتوارث وتستلزم تزكية السلطة المركزية مقابل الولاء (البيعة الخاصة)• وتحول الحزب الى”قيادة”لم يحدث اعتباطا• طمس الامر أثناء المعركة الوطنية (لولا ذلك لما سطع نجم زعماء”شعبيين") ثم عملت الإدارة على إحيائه بعزم ومثابرة• ساعد الإدارة اقتناع المغاربة عامة ان السياسة حرفة خاضعة ككل الحرف لمنطق”القيادة"•
هذا ما وجب الإخبار به في اختتام هذه السنة، سنة 1996•
1997
3 فبراير
أنهيت قراءة كتاب طه حسين”مستقبل الثقافة في مصر"• ولي مع هذا المؤلف قصة• عندما كنت أجمع المواد لتحرير”الايديولوجية العربية المعاصرة”اطلعت على جل مؤلفات طه حسين الكبرى سوى هذا الكتاب لأني لم أجد نسخة منه في أية مكتبة عمومية في باريس• ثم عندما عدت الى المغرب كنت قد استغنيت عنه بعد اطلاعي على فقرات مهمة منه في كتابات من ناقش آراءه بدقة وإسهاب كساطع الحصري• والآن بعد العثور عليه ومطالعته أجد أني لخصت مواقفه بكيفية مرضية وإن كنت قد فعلت ذلك عبر وسائط• إلا أن ما شد انتباهي هو أني قد كتبت فيما بعد مقاطع تكاد أحيانا تطابق ما عنده، خاصة تلك التي تسجل تقاعسنا إزاء القيم الغربية وتهافتنا على اختراعاته المادية• يؤكد طه حسين تلك الازدواجية وما يلازمها من تردد ونفاق ورفض القاعدة المجربة: من أراد الغاية لزمته الوسيلة• ومما يحز في النفس ان نكون لانزال في حاجة الى تكرار المقولات نفسها كما لو كان كلام من سبقنا في هذا الاتجاه من دعاة النهضة مجرد لغو•
يدور معظم الكتاب حول السياسة التعليمية على مختلف مراحلها وحول ضرورة إعادة النظر فيها• والغريب هو ان الاخطاء التي يبرزها المؤلف ويؤاخذ عليها الحكومات التي توالت على مصر منذ استقلالها عن الانجليز، هي بالضبط تلك التي ارتكبها المغرب بعد استقلاله عن فرنسا ولايزال يرتكبها رغم انتقادات أوساط كثيرة في الداخل والخارج• طبعا لم يقرأ أحد من زعمائنا كتاب طه حسين، لكن المحقق هو أنه حتى لو قرأوه لما ثناهم ذلك عن سبيل الخطأ بدليل ان مصر نفسها لم تستفد منه•
لم أقرأ الكتاب حين كان من المفروض ان أقرأه• يغفر لي أني توصلت من جانبي الى الخلاصة نفسها: تطوير وتبسيط اللغة العربية، تشجيع تعلم لغات غير لغة المستعمر، تعريب أمهات الكتب الغربية حتى نتمكن من إبداع ثقافة عربية عصرية••
أعترف أني قد قسوت على المؤلف لكن كقصاص ومؤرخ لا كناقد ومترسل• ظل وفيا لدرس لطفي السيد• يريد لمصر ان تقود المنطقة، ان تعارض الغرب كند، ان تتحرر فعلا• أهداف لا تتحقق إلا إذا قررت مصر ان ترتبط نهائيا بالغرب (ثقافيا بالطبع)• أتصور كم تألم عندما رأى عبد الناصر ينتج سياسة”آسيوية”قادت الى هزيمة 1967•
قابلته مرة فقط• كان ذلك سنة 1961 بالقاهرة وهو عجوز في حاجة الى رعاية دائمة• كنت آنذاك اشتغل كمستشار ثقافي لدى سفارة المغرب وتم اللقاء في رحاب الجامعة العربية• تقدمت إليه فقال لي كلمة واحدة بحضور موظفين مندهشين: لاتفرطوا في الفرنسية!•
أرى نفسي جالسا في سيارة جنب الدكتور محمد البهي، المكلف بالعلاقات الخارجية في إدارة الازهر وخريج إحدى جامعات ألمانيا، سألته عن مدى تأثير طه حسين• فراح يعد لي على أصابعه هفواته وأغاليطه وانا أهز رأسي موافقا•
أتفهم من يعارض عباراتي مع أنه يوافقني في العمق إذ كان ذلك موقفي تجاه طه حسين!
6 فبراير
لايمر يوم دون ان يأتي بدليل جديد على اتساع الهوة بين أغلبية تعيش في محيطها المغربي العربي الاسلامي الشرقي وأقلية مرتبطة بالغرب، بفرنسا تحديدا، والتي تعيش في نطاق الاقتصاد العصري• مثل هذا الانقسام أمر عادي في كل البلدان وفي كل العصور• لكن لا أتصور أنه بلغ يوما المستوى الذي نلاحظه عندنا، في مجتمع نظن انه موحد متجانس ومستقل (وإلا ما معنى الكلام يوميا عن الحضارة المغربية)• بعد ثلاثين سنة من الجهد والتضحيات أحيينا الوضعية التي عرفناها أيام الحماية والتي كانت محل نقد ممثلي الوطنيين في المجالس الاستشارية•
هذا صحفي يتكلم عن كتاب صدر عن الاسلام والسياسة فلا يعتمد فيما يقول إلا على مانشر بالفرنسية وفي نطاق النقاش الدائر حول الموضوع في باريس• لايعلم شيئا عما نشر بلغات أخرى خارج المغرب وفرنسا، بل لايعلم شيئا عما صدر بالعربية في المغرب• وكما كان الفرنسيون أيام الحماية يحكمون على الاسلام، دينا وثقافة، من خلال أقوال وأفعال خادماتهم، فهذا الصحفي يحكم على حالة الاسلام عامة من خلال ما يصدر بالفرنسية وبوساطة مفاهيم المحللين الفرنسيين•
ومع هذا يتعجب من سرعة انتشار الافكار”الاسلامية"• إنما تمثل، فيما تمثل، نزوعا الى الاستقلال الفكري• لو كان ذلك الاستقلال محققا داخل الاتجاه العصري لمال إليه على الاقل قسم ممن ينحاز الى التيار الاسلامي لأنه يبدو وحده مستقلا ومتأصلا في المجتمع والثقافة• لا أدري كيف يتعامى المسؤولون عن هذه الجدلية• فلا يدركون ان القطيعة الحاصلة الآن في المجتمع هي التي تمهد الطريق لمواجهات عنيفة• نقطة طالما ركزت عليها كلما تعرضت لمسألة التعريب•
هل تعود الفرصة؟
13 مارس
سنة مشؤومة تلوح في الافق• لم تفد كثرة التساقطات السنة الماضية• حتى محمد بوستة، الذي كان ضيفا على برنامج”وجه وحدث"، قال في بداية المقابلة: ارحمنا يارب!•
كان موفقا في كثير من أجوبته كما يليق برجل محنك• إلا أن الخطر في مثل هذه المقابلات ان المعارضة تحاسب على الماضي والحاضر وحتى على المستقبل كما لو كانت مسؤولة حاضرة او غائبة• كان ذلك واضحا في مسألة التعليم•
يقول خصوم التعريب إنه المسؤول عن انخفاض المستوى• هل يفهم ان المستوى كان يبقى جيدا لو حافظنا على التلقين بالفرنسية؟ ها فرنسا نفسها، ومعظم الدول الافريقية الفرانكوفونية، تشكو من الداء نفسه• هناك إذن عوامل أخرى، اجتماعية، تكنولوجية، بيداغوجية، الخ• ثم عندما ننتقد سياسة التعريب هل البديل هو الفرنسية؟ لا أحد يصرح بذلك• عندها يترك المجال للتعريب، تحت إشراف رجل قريب من حزب الاستقلال، ثم يتفنن الخصوم في النقد والعرقلة، إن لم يكن التنديد والتشهير، من الداخل، وتضيع المصلحة الوطنية• أصل الداء هو عدم الجدية والصراحة عند الجميع•
كان الغرض من التركيز على هذه النقطة التخويف• وبالفعل استدرج بوستة حتى فاه بعبارات قد تفزع العديد من كبار الموظفين•
مع ذلك فلتت منه كلمة توضح الوضع الحالي• عن سؤال: كيف توقعون وثيقة شرف مع من تقولون إنهم المسؤولون عن تزوير الانتخابات؟ أجاب بعد تنهيدة طويلة: جلالة الملك عين المفاوض، هل لنا أن نرفض الاتصال به؟
أقول: الفخ الذي سقط فيه الجميع هو الاعتقاد ان المماطلة كسب• هذه استراتيجية نجحت نسبيا في ميدان السياسة الخارجية، لكنها لم تنجح لا مع غالبية السكان الذين يئسوا وعادوا لايهتمون بما تفعل او تقول الدولة، ولا مع الشركاء الاقتصاديين• كل النداءات الموجهة الى المستثمرين تواجه باللامبالاة• كل شيء هادىء في الظاهر، الارقام جيدة في الظاهر (سيما إذا قورنت بأرقام البلاد المجاورة مع اعتبار الفوارق) ومع ذلك الجميع يتردد• وثيقة الشرف وسيلة لإعطاء الدولة مصداقية جديدة•
12 أبريل
تطرح مجددا مسألة التعريب• الواقع هو ان قسما من الصحافة المكتوبة بالفرنسية، والمرتبطة ببعض المصالح، استغلت ماقاله بوستة في استجواب مع القناة الثانية لمهاجمته هو والمعارضة عموما• الحملة منظمة• هل الغرض، غرض أحد أجنحة النظام، هو التخويف؟
خصوم التعريب كثيرون فيطرحون المسألة بكيفية تعجيزية• لا يهمهم النقاش الموضوعي الهادىء• مصلحتهم في الترويع، مقابلة تشنج بآخر•
يقول ندير يعته وغيره: التعريب هو التقهقر، العودة الى القرون الوسطى، هو تحجيب النساء، هو التخلف الاقتصادي، هو التقوقع الثقافي•• الخ • في هذا الكلام كثير من الحق وكثير من الباطل• لقد سبق لي أن قابلت انا ايضا الاغتراب بالاعتراب، وأصبحت لا أتكلم عن التعريب فقط بل أقيده بالتحديث، مميزا بين التعريب اللغوي والتعريب الفكري والثقافي• ما أطالب به هو لغة توحدنا حتى ولو ميزتنا عن إخواننا في المشرق• من هنا الدعوة الى التبسيط وإصلاح الرسم والاملاء••
ألا إن من يقود الحملة ضد التعريب، وأكثرهم من كبار الموظفين، لايريدون التوضيح• مصلحتهم في التعتيم الذي هو أصل الداء•
15 مايو، باريس
قيل لي إن العداء للمغاربة يتنامى بكيفية ملحوظة، عداء لا يمس في الظاهر المشارقة• أصبحت مناطق كثيرة في باريس محرمة عليهم (المغاربة)• يتمنى الكثيرون ان تتحسن الاحوال بعد الانتخابات الاخيرة وفوز اليسار، لا فيما يتعلق بالقوانين - لا أمل في ذلك - بل في تصرفات المسؤولين الرسميين•