حواضر البوح... خواطر الوضوح في مجموعة بشرى الهلالي الشعريّة (لن تُشفى منّي)

حواضر البوح... خواطر الوضوح في مجموعة بشرى الهلالي الشعريّة (لن تُشفى منّي)

حسن عبدالحميد
لم تزد الكاتبة (بشرى الهلالي) في عموم متون مجموعتها الشعريّة الأولى المعنونة (لن تُشفى منّي)الصادرة هذا العام عن (دار أفكار)- دمشق بالتسّاند مع (دار ميزوبوتاميا)- بغداد عما أضافته تعاريف متفرعة للفلسفة من حيث كونها (معرفة الروح)، كما لم تبتعد- كثيراً- عن وجهات نظر(ويليام جيمس) بخصوص تعريفه لها(أي الفلسفة)

من حيث هي؛(محاولة شديدة العناد للتفكير بوضوح)،بعد أن تماثل الوعي لدى (بشرى) وتّناسق من عنديّات ما تختزن من حرارة وجدٍّ وحمم هيام تحوم نحو عاطفة الحُبّ، من خلال تفويضات الحاجة إليها كمنحى تفاعلي مع الآخر(الواحد) منه أو (المتعدد) وفق تتبع مناسيب المتأصل منه في أصل جوهر ذلك الواحد أوأوجه التعدّد فيه، بما يُتقارب مع ما يذهب إليه أحد المتصوّفة ممن أغواهم الغور في مهابة هذا التوصيف حتى جاء يقول؛(إنمّا الحُبّ ما لبث... وكل حُبٍّ يزول فليس بحُبٍّ... وكل حُبٍّ يتغيّر ليس بحُبِّ).
حافظت (بشرى) في سياق تقديم بعض مخابئ مشاعرها وسيول عواطفها في رصف قصائد منثوراتها الشعريّة على منوال روح السرد وبراعة التقطيع المتبع في نفس وسياق الكتابة الدراميّة التي تمرّست وقدّمت فضلاً عن مقالات صحفيّة كثيرة ومتنوعة إلى جنب وجذب تثويرات لمواقف إنسانيّة فيما يخص وضع العراق بعد ما أُصطلح عليه بـ(الجديد)، لذا تبارت -هنا- مع ذاتها الواثقة والصريحة بوهج نهج تخاطري يكاد يلامس اليومي من استحضارات لصور من (ألبوم) الذكريات جدحت تتساوق لكي تتماهى مع مجريات واقع محسوس جرى تمريره عبر تهويمات أحلام ولذائذ عتاب ولحظات تمرّد واعٍ عبر سيل مهارات حفرٍ متوازن ما بيها من حيث كونها (عاشقة ولهى) و بين من تطلب منه (أن لا يُشفى منها) من حيث هو (معشوق سلبي) أو غير متكأفئ، وتلك معادلة لا تخلو من ثقة حضور لصوت الأنثى في لجج دواخلها وأنساق تعابيرها البارعة في عدم تمرير اللبس والدس وسوانح الغموض في بنية اشتقاقاتها وتطويعها لموضوعةٍ واحدة هي (الحُبّ) الذي حاولت رميه برذاذ الورد لا بنار الرصاص كما فعلت من قبل(غادة السمّان)، الحبّ الذي هو أعذب درسٍ في القوة التي تمترّست على التحلّي بها (الهلالي) على مدار سنوات اكتشافها لطاقة الشعر الكامن في قيعان دواخلها، كما يشهر هذا التهديد المعلن عن نفسه في نص حمل عنوان (الموت رمياً بالحبّ) حيث حفلت تبوح فيه:)أعلن عليكَ../ حرب الشوق/ سهامها عمياء/ تُطلقها أيادٍ جائعةٌ../ لاقتناص../نبضات القلب/ كرصاصة عمياء/ أسكتَ النسيانُ/ نبض قلبك/ مضرجة باليأس/ تُفلتُ قبضةُ الروح/ أحلاماً كانت/ تحرسُ بوابته/ على باب الحبّ/ وقفنا معاً/ تقدمتُك../ بصدرٍ مكشوف/ لم يخش وابل الشوق/ وكنت..منشغلاً/ بإحكام درعك/ الواقي من القلق..) المجموعة ص32
مغامرة الشعر... علناً
شاء لهذه المجموعة أن تنحصر بالسنوات التي بدأت منها (بشرى) خوض مغامرات الشعر العلنيّة على هذا النحو الشاخص والمُتخصص- على وفق ما أشرنا ونوهنا - عبر توالي الأعوام 2013و2014و2015 والتي نحتت خلالها خمسة وأربعين نصاً توّسدت جميعها في هذه المجموعة فيما أنفرد نص واحد أصطف بعنوان (صفحات لا تنسى) كُتب في العام/2009 فيما النص الثاني الذي أستظل بعنوان(لهفة) جاء موثقاً في العام/2012، لتصبح المجموعة بملاك التام سبعة وأربعين نصاً مُتخماً بكل لوازم الدفاع عن بهاء أشياء الشاعرة ونوازع متنفساتها الوصفيّة والدلاليّة، بل حتى التعويضيّة منها في نواحي استبدالها لأدوات الكتابة التي أعتدناها حيال خواص وضوح حضورها في محراب الصحافة أو مرتهنات الكتابة الدراميّة الناشطة، بغية توريد نبل مشاعرها والتعبير عن صدق انتهالاتها من ينابيع الشعر،ربما على سير هدي ذلك المنحى الاجتراحي الماثل الذي أفاض فيه الروائي (فؤاد التكرلي) في محنة إيجاد مصيرٍ مناسب لبطل روايته (توفيق المولى) في(الأوجاع والمسرات) فنراه يُورد على لسانه هذا التبرير؛(ربما تكون ممارسة الشعر أحسن وسيلة لعدم الإنضباط في هذا العالم) وبما قد نتلّمسه يقترب من رأي (سوزان سونتاغ) التي ترى في الشعر؛(هو التخلص من المكان)، أو هو (نقد الحياة) من جهة نظر أخرى، مع الأخذ بعين الاعتبار استحالة تحقيق ذلك- كما هو حاصل في مُنهمكات (بشرى الهلالي) الشعريّة ولواهب استعاراتها في هذه المجموعة في الأقل، وبعد كل ما ورد- دون توافر الظفر بتلك القدرة الفائقة على إثارة العواطف الحقيقة كالتي توافدت وتشبثت في جذوة ذلك الوجد ووطأة شدة العصف الجوي والجنون؛(ما الفرق.. / بين صباحٍ/يصحو على”أحبك"/ وصباحٍ../تغسل وجهي الدمعة؟/ سوى../ أنك أمتطيتّ الغياب) المجموعة ص129.
قصائد ومدن... وهم واحد
نتقصّد أن ندنو كي نتوقف تمليّاً في فحص وقنص السنوات وأسماء المدن (بغداد/ بوسطن) بحضورهما الواضح في محبرة توقيع نزف هذه المجموعة، فيما لم يلمع أسم (نيويورك) سوى مرة واحدة فقط تحت أحدى نصوصها، سعياً منا لجس ولمّس بعض خواص ما انجزت الكاتبة من حوافل مشروعها عبر منعطفات هذا التتابع الثري والمتوثب من صدق مشاعر وملفات كشف سّر تدّفئها بجمرات الجوى وأغاني النوى أو التلذذ بسَكرات النجوى وتعويضات مخاضات تداخليّة يكون فيها (الوطن) كخلفيّة أو بُعداً تكميليّاً لصورة المشهد العام، فيما تكون البطولة المطلقة ماثلةً في تقريظ مواقف الحبيب الغائب كما يرد حصراً في ثنايا هذا النص الذي أستثنيناه- هنا قصداً - عن بقية نصوص المجموعة حيث تبدو فيه صورة العراق واضحة تماماً عبر تمائم ما ورد فيه من تسميات مباشرة تشير إليه، فضلاً عن إضاءة العنوان؛(دونك أتغرب عن وطني) تقول الشاعرة فيه:(لأني أرى الوطن فيك../ أحببتُك/ في عينيك.../ أستشعرُ قلقه/ في شفتيك../ ألمحُ إبتسامةَ حزنِه/ في يديك../ يغمرني حنانً دجلتِه والفرات/ في ضحكتك/.......... الخ) المجموعة ص 141.
اتسقت قصائد هذه المجموعة واتضحت معالمها بفيوضات ذكاء نوعي تذوب في أتونه أصداء روح صادحة بعذوبة غناء يشاطئ ضفاف الحزن ويتحدّاه، وبما يؤاخي ما بين حلاوة طعم الحبّ وما بين لذوعة مرارة الشوق متكسّراً بعثرات بأوجاع قصص العشق التي لا تنتهي إلأ بفراق يديم من صلة الوجد مرميّاً على جثة البُعد وأوصال الحنين الممزق بسكاكين اللوعة وسهام الهجر.
حاولت الشاعرة أن تعرّش بأشجار العناد وأغصان الكبرياء لتكتب مطويّات من أوراق رحلة حبّ لا يريد أن تنتهي؛(في ليلٍ يتيمٍ تذكرتك/وفي صباحٍ نديّ.../اغتسلتُ من ذاكرتي/ بنقاء طفلٍ.../أهديتُك قلبي/لففته بكبريائي/ عطّرته بنثيث روحٍ/غافلت وجع السنين) المجموعة ص 73، وفي أن تستجير ببعض الصور والمقاطع المألوفة والمتواردة والمحفوظة بخزائن الذاكرة الجمعيّة من حيث الاستعانة المدهشة ببيت شعر شعبي من إحدى قصائد (مظفر النوّاب) كما في نص(علامات استفهام) ص117 من دون أن تشير إليه؛(تعال بحلم وأحسبها إلك جيّة) أو بأغنية للمطرب(حسين نعمة) في نص(عيديّة) ص 126(جثير أعياد مرّن وانت ما مرّيت) أو في التقاطات جرت على نحو متتابع في نص (لا ترحل) ص129 الذي تعددّت فيه عدة أصوات، الأم العراقية وهي تندب؛(جا لوالدة مضيعة ولد... آه الولد) أو ملامح من أنفاس أحدى قصائد (لميعة عباس عمارة) و(نزار قباني) وأغنية (عبدالحليم حافظ) (أهواك... وأتمنى.. لو أنساك...) تداخلت عذبة مسترخيةً في أنساق هذا النص الذي بقي محافظاً بذكاء خاص على الجو العام لقصائد الهلالي في مجموعتها (لن تُشفى مني).