عبد الفتاح إبراهيم وجذور الفكر الشعبي الديمقراطي في العراق

عبد الفتاح إبراهيم وجذور الفكر الشعبي الديمقراطي في العراق

يوسف محسن
ينتمي عبد الفتاح إبراهيم إلى الرعيل الأول للجماعات التنويرية في تاريخ العراق الحديث، حيث يمثل مدرسة فكرية وسياسية. تلتقي مع جميع الحركات التقدمية والشخصيات الوطنية العراقية، (حسين الرحال، محمود احمد السيد، عبد القادر إسماعيل، كامل الجادرجي ومحمد حديد وجميل توما، وعبد الله بكر وعلي حيدر سلمان وشيت نعمان).

كان عبد الفتاح ابراهيم يسعى الى ايجاد صياغة جديدة للفكر الديمقراطي تتوافق مع خصوصيات المجتمع العراقي ولا تتصادم مع الارث الحضاري والديني والبنيات المجتمعية، فقد سعى من خلال اطروحاته الفكرية في (الشعبية، الديمقراطية، دولة القانون والحكم الدستوري) تأسيس قاعدة التمثيل النيابي كاطار للدولة المدنية،فضلاً عن ذلك دعا عبد الفتاح الى حماية حقوق الانسان، ورفض الاعتراف بوجود صراع طبقي في المجتمع العراقي آنذاك، كما رفض اسلوب العمل الثوري الراديكالي للتغيير السياسي، واعترفت اطروحاته الفكرية(الشعبية) بتنظيمات الاسرة والدين والوطنية وفي ترجماته لممارسات الزعيم الهندي المهاتما غاندي في مجال اللاعنف والعصيان المدني، كان يسعى الى اخراج المجتمع العراقي من السلوكيات العنفية المترسبة داخل الافراد والجماعات.

اسهامات فكرية

قدم عبد الفتاح ابراهيم اسهامات كبيرة للثقافة العراقية، ففي العام 1930 اصدر كراس (مبادئ الشعبية) وقد تبنت هذه الوثيقة جماعة الاهالي، وكما يقول عبد الغني الملاح (يعد هذا الكراس اقدم اطروحة سياسية واقتصادية معروفة في تاريخ العراق الحديث تصلح ان تكون النواة التي تحمل كل شروط النمو من اجل تطور الحركة التنويرية والديمقراطية في العراق. اشترك عبد الفتاح ابراهيم ومحمد حديد وعلي حيدر سليمان في اصدار كتاب (الجذور الفكرية للحركة الشعبية الديمقراطية في العراق) وترجم (ابراهيم) كتاب التربية والتعليم في الاتحاد السوفياتي العام 1932 و(غاندي) العام 1933 وكتباً في علم الاجتماع، مقدمة في الاجتماع العام 1939 ودراسات الاجتماع 1950.

ظهور جماعة الأهالي

في مذكرات كامل الجادرجي يقول (مما لاشك فيه ان السيد عبد الفتاح ابراهيم) يدين اصلا بالماركسية وثقافته كلها مستمدة من الماركسية، غير انه لما كان يعلم بعدم امكان تصريف الماركسية في هذا البلد، فقد حاول مراراً ان يطور الماركسية حسب ظروف العراق فاراد في بدء اشتغالاته السياسية ان يبتدع نظريات جديدة كانت دائما تنقصها الجرأة والصراحة، بالاضافة الى ذلك يعطي لشخصه المقام الاول في جميع اشتغالاته ومحاولاته الخاصة، فهو يعد نفسه زعيم الحركة الفكرية في العراق.
يعود تشكيل (جماعة الاهالي) الى رافدين رئيسين كما يقول عامر حسن فياض، الرافد الاول : تمثل جناحا من اجنحة تلك الجمعية التي اسسها الطلبة العراقيون في الجامعة الاميركية في بيروت العام 1924 – 1925 وعلى رأسهم كان عبد الفتاح ابراهيم و محمد حديد وجميل توما و درويش الحيدري و نوري روفائيل، وفي العام 1926 اصبح عبد الفتاح ابراهيم رئيسا للجمعية، وتحول نشاط تلك الجمعية الى الحقل السياسي الى حد ما يواكب من هناك الحركة الوطنية العراقية، ونتيجة لمضايقات ادارة الجامعة الاميركية وتشدد الرقابة عليها، اتجه عبد الفتاح ابراهيم وصحبه الى تأسيس جمعية اخرى باسم (النادي العراقي) من اجل مواصلة هذه الكتلة اجتماعاتها خارج الجامعة، وفي هذا النادي انبثق تنظيم سري يترأسه عبد الفتاح ابراهيم ويضم كلا من: محمد حديد، وعلي حيدر سليمان، ونوري روفائيل، وجميل توما، وعبدالله بكر ودرويش الحيدري، واصبح هذا التنظيم نواة التفكير السياسي بالنسبة لهذه الكتلة.
اما الرافد الثاني : فيتمثل بالطلاب الذين اسهموا في تظاهرات قضية النصولي وتظاهرات ضد زيارة الصهيوني الفريد موند وعلى رأسهم عبد القادر اسماعيل، وحسين جميل، بالاضافة الى خليل كنه وجميل عبد الوهاب، بعد عودة عبد الفتاح ابراهيم من اميركا العام 1930 اتصل بأعضاء التيار الثاني وعمل جاهدا لتوحيد التيارين الوطنيين، بعد اندماج كتلتين هما (كتلة بغداد) و(كتلة بيروت) وسمي هذا التجمع بـ(جماعة الاهالي).
في صيف العام 1931 عاد محمد حديد الى بغداد بعد تخرجه من جامعة لندن في العلوم الاقتصادية والسياسية، وبالنظر لسبق العمل المشترك بين محمد حديد وعبد الفتاح ابراهيم في الشؤون العامة وهما طالبان في الجامعة الاميركية، فان عبد الفتاح فاتح محمد حديد بالاحاديث بشأن اصدار جريدة يومية سياسية التي اصبح اسمها (الاهالي) يقول حسين جميل: بحثنا في احاديثنا الموضوع من كل جوانبه (المبادئ الاساسية والاجتماعية والاقتصادية وافكارنا في الشؤون العامة ودعوتنا واهدافنا التي نريد تحقيقها وان تكون الجريدة وسيلة من وسائل الوصول اليها)ويضيف الدكتور محمد عويد الدليمي: من خلال استقراء برنامج (جماعة الاهالي) نجدها تقترب من الديمقراطية باعتدال حين تؤكد قيام الدولة بوضع خطة اقتصادية تنسجم مع وضع البلاد وحاجات الشعب وتأمين سيطرتها على الصناعات المهمة وتشجيع الجمعيات التعاونية وتقريب الفروق الاقتصادية وتعترف بالدين وحرية الفرد في مزاولة عقائده والسعي للاحتفاظ بالنظام العائلي وتقترب من الفكر الليبرالي، من خلال التأكيد على حق الفرد واحترام ملكيته وتأكيدها على النظام البرلماني للحكم.
الجذور الفكرية

يتألف كتاب (الجذور الفكرية للحركة الشعبية الديمقراطية في العراق) من عشرة موضوعات وتقع في سبع ابواب وقد حرر الكتاب عبد الفتاح ابراهيم فيما كتب علي حيدر سلمان الباب الثاني تحت عنوان (القومية) اما الباب الرابع (الاستعمار) فقد كتبه محمد حديد وقد صدر الكتاب في العام 1933 عن مطبعة الاهالي في الباب الاول (الشعبية في المبادئ السياسية الحديثة) يحلل عبد الفتاح ابراهيم المبادئ السياسية التي سادت بين شعوب العالم المتمدن في العصر المتأخر كالقومية والديمقراطية والاشتراكية وكذلك الاستعمار الذي كان له في هذه المبادئ التأثير الكبير.ويسرد عبد الفتاح ابراهيم في هذا الفصل المسار السياسي في العصرين القديم والمتأخر في المجتمعات الاوروبية والصينية والهندية واليونانية، ويبين ان المدة بين ظهور الانسان على البسيطة والقرون الحديثة كانت مليئة بمختلف الآراء والمبادئ والنظم السياسية.
اما في الباب الثاني فان علي حيدر سليمان يحلل ظاهرة (القومية) حيث يرى ان المجتمع البشري ينقسم بحواجز افقية الى طبقات اقتصادية وحواجز عمودية الى اقوام وملل، ويرى حيدر سليمان ان الثورة الصناعية كانت سببا من أسباب انتشار القومية، اذ انها قربت بين اجزاء المملكة الواحدة وزادت في احتكاك الناس مع بعضهم، فوحدتهم كما انها قربت بين الامم المختلفة وصادمتهم مع بعضهم، الصدام بين الامم ادى الى نمو الروح القومية، كما ان اتصال الثقافات المختلفة ادى الى شعورها بما بينها من فروق والى تميزها، ويعتقد رنيان ان الركنين الاساسيين اللذين يستند اليهما هذا الشعور هما وحدة الماضي والاشتراك في ذكرياته والرغبة في الاحتفاظ بهذه الوحدة التاريخية وادامتها في المستقبل، اما في (خلاصات الشعبية) لعبد الفتاح ابراهيم وهي المبادئ التي اسست عليها (جماعة الاهالي).

الشعبية

تمثل وجهة نظر في اصلاح اجتماعي يستهدف ضمان الاطمئنان والرفاه والتقدم على اساس فسح مجال المساواة للجميع وضمان حقوق الفرد، حق الحياة وحق الحرية والمساواة وحق العمل بما يتناسب وقابلياته الطبيعية، اما حق الحرية فهو ضمان يمتع الفرد بحريته الشخصية ضمن حدود القانون وافساح مجال التكامل الفكري والروحي، وتقديم ثمرات افكاره وتجاربه الشخصية الى المجتمع لفائدة المجموع.

الدولة وحقوق الفرد في الشعبية

تقوم العلاقة بين الفرد والدولة في الشعبية على اساس حفظ التوازن بين سلطة الدولة من جهة وحقوق الفرد المقررة من جهة اخرى يقصد تحقيق الحد الاعظم من النظام والتعاون والتقدم. ويعد التوازن في الشعبية من اعظم مقومات المجتمع والاخلال به من جانب السلطة في الدولة يؤدي الى الاستبداد، كما ان الاخلال به من جانب الفرد يؤول الى الفوضى ويضر بالصالح العام لذلك فالمصلحة العامة في الشعبية هي الاساس ومن مقومات التوازن بين حقوق السلطة وحقوق الفرد تمتع الهيئة القضائية بالحرية التامة في مقاضاة الهيئات والافراد وضمان المساواة امام القضاء للجميع.

الحكومة في الشعبية

هي مؤسسة تقوم بشؤون الدولة لخدمة السواد الاعظم وتنظيم ومراقبة تعاون الافراد والهيئات، فمن واجبات الحكومة الاساسية في الشعبية سيطرتها على الحياة الاقتصادية سواء بتنظيم الانتاج والاستهلاك او بفرض الضرائب والحيلولة دون تراكم الثروة بأيدي طبقة معينة او بضعة افراد ما يؤدي الى سيطرتهم وتوسيع نفوذهم في الشؤون العامة ويخل بالتوازن الاقتصادي في المجتمع، ويرى عبد الفتاح ابراهيم ان هذه السيطرة تتطلب قيام الحكومة بالمشاريع الاقتصادية العامة التي تكون بطبيعتها مشاريع انحصارية تتعلق بالحياة العامة، سيطرت الحكومة بطريقة اشتراكها في المشاريع التي تتعلق بالحاجات الحيوية التي تتعلق بالطعام والشراب والمسكن والمشاريع الاقتصادية الكبرى وتنظيم ومراقبة انتاج مختلف الحاجات الاخرى التي لا يمكن حصرها في مشاريع ومؤسسات عامة، مع ضمان سير المجتمع على خطة اقتصادية معينة.

السيادة في الشعبية

هي السلطة العليا والنهائية في تقرير شؤون المجتمع الاساسية وهي على نوعين: خارجية تتعلق بالصلات الخارجية وبالتعامل بين الدول وتسمى بالاستقلال وداخلية تتعلق بادارة شؤون الدولة داخل البلاد وتكون ارادة الشعب هي الحاكمة في الشؤون العامة، وسيادة الشعب من اهم الاسس التي تقوم عليها الشعبية، اي اظهار ارادته في الشؤون العامة وجعل الحكومة قائمة لتحقيق منافعه وصيانة حقوق الفرد، وتتطلب هذه السيادة وجود هيئات تمثل الفلاحين والعمال وسائر الطبقات، تمثيلا حقيقيا، قصد اظهار ارادة الشعب، تمكين الافراد من الثقافة والمعرفة في الشؤون العامة وتقليل الفروق الاقتصادية بين افراد المجتمع بحيث لا تكون متفاوتة يحول دون التمتع بالمساواة السياسية.
تعد تجربة (الرابطة) التي تأسست في العام 1944 انموذجا للديمقراطية الشعبية في نقل النظرية الى حيز التطبيق المؤسساتي، حيث تم انتخاب اول هيئة ادارية لها، كان عبد الفتاح ابراهيم مديرا لادارة الجمعية والنادي، وكان مقرها في النادي الملكي وقد صدرت عن الجمعية مجلة (الرابطة) وتألفت جمعية الرابطة الديمقراطية من مجلة وناد ولجنة التأليف والنشر ولجنة المحاضرات والمناقشات ولجنة مكافحة الامية ورابطة الدفاع عن حقوق المرأة ودار التوزيع والنشر ومكتبة ومطبعة. كان الغرض من هذه الجمعية بث الثقافة والروح الديمقراطية وتشجيع النشاط العلمي والاجتماعي بكل ما ينشر لها من الوسائل المشروعة كاصدار النشرات والبحوث واعمال التأليف والترجمة والقاء المحاضرات واقامة اجتماعات البحث والمناقشة والمساهمة بأعمال مكافحة الامية والخدمات الاجتماعية والتعاون مع المؤسسات التي تماثلها في الاهداف، فضلا عن ذلك ان الجمعية لا تتدخل في السياسة وفي الامور الدينية، غير ان السلطة آثرت تصفية الحريات الديمقراطية في العراق بعد اتفاقية (جبر-بيفن) وغلق حزب الاتحاد الوطني وتصفية الجمعيات والروابط اتجه للتجـارة والصناعة.