مظلتان لشخص واحد... تشيزاري بافيزي.. مهنة العيش وهواء الكريستال

مظلتان لشخص واحد... تشيزاري بافيزي.. مهنة العيش وهواء الكريستال

مقداد مسعود..
أكثر من ثلاثين عاماً من الصداقة، بدأت على يد ريجيس دوبرية وهو يحدثني في كتابه الرائع (مذكرات برجوازي صغير بين نارين وأربعة جدران)...(ان هذا الطراز من التأثير هو الذي يصنع الاخلاقي، و، بافيز، أخلاقي، أخلاقي كبير، أن الاخلاقي يبلغ المحسوس..استطاع بافيز بسهولة أن يمر من القصيدة الى الرواية، مروراً بالمذكرات الحميمة.

انها في كل مكان هبة المراقبة الذاتية والكتابة الاستبطانية اللتين يرافقهما الاحساس، إن هذا الأنا المتعذر استبداله يمكن بالمقدار نفسه ان ينتمي الى افراد آخرين. وبالرغم من كبرياء بافيز ولأنه كان يراقب نفسه كطبيب سريري أقل منه كتقني للوضع البشري، فقد كان متواضعاً.. بافيز لاينحاز في اية لحظة الى بافيز حتى ولا الى جانب المعارضة لبافيز. فليس مدهشاً أن يكون بافيز قد استطاع ان يصنع من بافيز شخصيات قصص، كان فيها بما فيه الكفاية، في عذابه، وفي انغلاقه، من أجل ان يموت منها، ولكن ليس بما فيه الكفاية من أجل ان يعيش منها 48- 51).
.توقفت ُ عند الشذرات التي يتحدث فيها عن بافيزي، توقفتُ عميقاً.. بل غصتُ فيها... بعد سنوات سأدسّ كتاب دوبرية في ظرف خاكي كبير، يحتوي كل ما استطعتُ جمعه عن بافيزي: قصاصات جرائد، صفحات مجلات منتزعة، تصاوير، صفحات من صحف عربية..و معها كنت ُ قد حفظت ُ ذلك الكتاب الصغير عن بافيزة، الصادر ضمن (سلسلة أعلام الفكر العالمي المعاصر/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر / بيروت) هذا الكتاب الصغير، وشذرات دوبرية عن بافيزة، كنت ُ أخرجهما بين الحين والآخر، كلما أشتقتُ للحديث مع تشيزاري بافيزة. الآن وأنا احتضن كتابين من مؤلفات بافيزي أسألني: هل يستحق الموت كل هذا التسرع من رجل حيوي مثل بافيزة..؟! وأيّ قسوة في تلك الحبيبة التي أرتبط بها والتي مكثت تنبض فيه رغم مخالبها، فقد عثروا على مكتبه بعد انتحاره مجموعة شعرية (سيأتي الموت وسيكون له عيناك) كأنه للتو انتهى من كتابتها تدور حول حبيبته الممثلة الأمريكية كونتسانس داولينغ،.... أتامل جملته التالية في (مهنة العيش).. وتصنّف جملته سردياً بالمنولوغ..(إفهم بوضوح، مرة والى الأبد، أنك َ إن وقعت في الغرام فهذه مسألة شخصية، مايعني إنها لاتخص المحبوب، حتى لوكان يبادلك الحب. 109) أتأمل نقاط هذه الكلمات.. أراها تتحول حبوباً تتهاطل في راحة كفه، سيقوس الكف ويرفعها صوب فمه.. ثم تسحبه تلك النقاط السود / البيض..إلى برودة ذلك البياض الصلد كالرخام، هل نجد في الكلام التالي مفتاحاً لمحنة بافيزة، فهو يقدس الحب من خلال تصنيفه / تشبهه بالكرستال..لكن يرى الكرستال كرة لأهواء فيها فيبذل جهداً لتمرير الهواء، وهنا معضلة بافيزة : تمرير الهواء في كرة الكريستال.. ألا يؤدي إلى تهشيمها..؟!..والكرة الكريستالية هي فضاء فن الحب.. نعم بافيزة..(يخلق عالماً من كريستال يستمتع فيه بمحبوته. لكنه لن ينسى أبداً أن كرة الكريستال هذه هي خوائية وسيحرص على عدم كسرها في محاولة حمقاء لإدخال الهواء اليها: تنازل، نشوة، أطفال، تكريس، اخلاص.في النهاية: هذه رموز فردية لاتدع الهواء – الإختراق الصوفي للآخر - : يدخل 109)..
*******
التقطت ُ هذه الوحدة السردية من روايته (القمر والنيران).. (أدركت ُ على التو معنى ألا يولد الإنسان في مكان وألا يسري هذا المكان في دمه ومعنى ألا يبقى في هذا المكان شبه ميت مع كبار السن...)..أتأمل هذه الشحنة السردية الملأى بقوة مؤثرية المكان حسب منظور السارد الذي يتقمصه عملاق أيطاليا الأعظم بافيزي أو بافيزة حسب الترجمة اللبنانية.. وأتساءل أين كان غاستون باشلار وهو ينحت كتابه الأسطوري – شعرية المكان – عن هذا الكلام.؟! ولماذا اقتصر باشلار على مرجعيات فرنسية في الصورة والإطار لكتابه ذلك؟!..وأين كان الاسلوبيون الروس عن قوله (الأسلوب هو الذي يعبّر لكنه لايفسّر/ 196)..(أسلوب القرن العشرين زاد الانفصال عن ستنادال الذي كان بدأ في زمن أقدم مع انطباعية الواقعيين. وحدث ذلك بالارتداد الى مفهوم الاسلوب الذي يرى به خالقوه في ليو باردي – ستنادال، آخر أبطال البناء المدبج حسب الاسلوب الشائع..) وفي كتابه (مذكرات برجوازي صغير..) ريجيس دوبريه يشاركه الأفتتان ذاته..(مايجعل من ستاندال الكاتب السياسي الممتاز هو ان جميع آثاره تدور حول علاقة : التمثيل والكينونة والرياء والطبعية والمصطنع والصادق..لحظة السعادة التي ينبغي التقاطها في اللحظة والتعبير عنها على الفور 32- دوبريه) في مجلد يتجاوز الأربعمئة صفحة من الحجم الكبير (مابعد الرؤية المأساوية)..يخبرنا المؤلف موريس بيكام عن ذلك الشغف السردي بين ستاندال والشاعر بايرون..(بايرون بالنسبة لستاندال بركانا.. وتأثر كثيراً بالرجل الانكليزي العظيم/ 111) وقد تأثر ستندال كثيراً بكتاب بايرون بأجزائه الثلاثة.
(تشايلد هارولد).. ويعترف ستنادال أن كان مجنوناً في شخصية (لارا).. وهذا يعني ان تلك الرواية العظيمة التي كتبها ستندال وماتزال تطبع، أعني (الأحمر والأسود).. لاتخلو من نكهة كتابات بايرون..
*******
..بافيزي يرى أن همنغواي هو ستندال القرن العشرين والذي يعجبه في عظمة رواية موبي ديك هو الإيقاع ويستمر إنشغال بافيزي في (مهنة العيش) وهو يناجي نفسه (فكرتك عن الأسلوب بوصفه حياة انسان روحية قيد البناء 261).. ويستمر بافيزي يبحث عن بصمته الأسلوبية، ويثبّتها نقطة في (مهنة العيش) ويطوف حول النقطة ثم يخترقها بصمت وتمهل هامساً لنفسه، طامحاً لكينونة أسلبة خاصه وحميمة به وحده..(أنت تهدف إلى أسلوب من،، كينونة،، 527)..يا الله..أي هوس وأيّ أرق يسكن هذا الروائي المنتصر على نفسه..(مايهم أي فنان ليس هي التجربة، بل التجربة الداخلية 173)....تستوقفه جوهرة غوستاف فلوبير العظيمة، أعني تلك الرواية الصامدة بوجه مؤثرية الزمن (مدام بوفاري).. شخصياً قرأتها في 1974 ثم في 1983 بترجمة الناقد محمد مندور، وكذلك قرأتها في 1999..ولم يتوقف إنشدادي للتقنية أو لشخصية إيما بوفاري، يستوقفني هذا التداخل بين كلمة الخطيب في الأحتفال وبين مايجري من حوار بين إيما بوفاري وعشيقها وهما يستمعان لكلمة الخطيب في الاحتفال نفسه.. تستوقفني هذه الحرفية الخارقة لدى بافيزة..(كن حذراً من أن تأخذ على محمل الجد نقد فلوبير للواقع.إنه مبني على هذا المبدأ لاغير: كل شيء هو وساخة، عدا الفنان حيّ الضمير144)..لكن بافيزي ليس من المنغلقين على الجواني الغاطس في بئر النفس، فهو يرى الآخرين ويفكرهم أيضاً..(كل الناس يحملون في داخلهم سرطاناً ينخرهم، إنحلالاً يومياً: نقطة الصراع بين كينونتهم الحقيقية الهيكلية والتعقيد اللامتناهي للحياة 103).. التقط ُ هذا الحجر الكريم وأتأمله، ثم أحرّكه مشكالاً.. فأرى وجوهها بشرية نكون مرغمين على التعايش معها في ضنك هذه التي تسمى حياة عراقية!! وهذه الطيبة التي كانت أسمها البصرة!!..(الحماس المحترف هو أكثر أنواع النفِاق قرفاً 253)..وتبقى الكتابة هي معشوقة بافيزة يسعى بكل مالديه من توق للتماهي فيها بحلول صوفي مطلق..(عند الشروع بعمل فني. لاشيء جوهري أكثر من أن يضمن المرء لنفسه،، غنى وجهة النظر،، الطريقة الأكثر مباشرة ً، الأبسط للقيام بذلك هو الاستقاء من تجربة بعيدة وغير مألوفة ومقبولة 316).. ورغم النهاية المأساوية التي أنهى بافيزة حياته فهو كان يقدر الحياة تقديراً جمالياً عظيماً..(كل ترف لابد أن يُدفع ثمنه، وكل شيء، هو ترف، وأول الترف هو كونك في العالم 181)..هل ثمة كلام بعد هذا الكلام الحيوي الباذخ؟! وحين كتبه بافيزة من المؤكد شَعَرَه أيضاً، وأنغمر شعورياً بفيوضات اللحظة وكأنه أخترقها وهو على قمتها وأبصر الثمن المسفوك من ترفهه هو ولو بعد حين.. وإلا ّ كيف نفسر انتحاره بعد فوز بجائزة (ستريغا) وهي أرقى التشريفات الأدبية الأيطالية على روايته (الصيف الجميل)..أليس هو الذي يعدد أنواع الفنون ويختمها كاتباً (فن الاستغناء عن الفن. فن أن تكون وحيداً / 180)..إذن هنا يكمن مثنوي بافيزة حصريا ً..(قصصي تدور دائماً حول الحب أو الوحدة 173) وبتوقيت هذا المزاج المثنوي انتصر روائياً وفشل عاطفياً مع الممثلة الامريكية كونستانس داولينغ.. والسؤال ضمن علم النفس الجنائي: من قاتل بافيزة بالاستعارة؟! أليس حبيبته الممثلة الأمريكية..التي ربما أستفزها تفوق عبقريته على إمكانيتها الفنية؟ فأستغلت رهف مشاعره وعزفت عليها لتسلبه ليس فقط لذة الفوز بالجائزة، بل نشوة الحياة التي كان يقدسها ويغمرها بحيويته المعرفية كلها..؟! ربما هي عرفت من خلال علاقتها معه، ضعفه الناصع الجميل وبشهادة بافيزي نفسه (هل كنت َ غير ذلك الطفل الذي كنته يوماً؟129)..وهو الشاعر والناقد، والروائي هو والمترجم الكبير..أطروحته الجامعية في 1930عن الشاعر الامريكي العظيم والت وايتمان، في حقل الترجمة، ترجم لعمالقة الأدب الانكليزي والامريكي: ديفو، ديكنز، جويس، ملفيل، شتاين، فوكنر..خلال أربع سنوات نشر َ ستة كتب: روايات، قصص قصيرة، شعر، مقالات نقدية، نُقلت أعماله إلى السينما والمسرح، وأصبحت رواياته مقروءة في لغات كثيرة: الصيف الجميل، القمر والنيران، الرفيق، الشيطان فوق التلال.. وبافيزة من المثقفين العضويين اليساريين، تصدى لفاشية موسوليني وحكمت عليه المحكمة في 1935 بالأقامة الجبرية.. شخصياً بالنسبة لي كقارئ أستمتعت بقراءة (القمر والحرائق).. يستوقفني هذا الإصرار المحتدم، هذه الطلقة الكاتمة المدوية التي يوجهها بافيزة لحياته الخصبة: (لن أكتب بعد الآن).. وبعد تسعة أيام أنتحر بجرعة مضاعفة من حبوب منوّمة في غرفة فندق.. والسؤال الاهم ماذا كان يفعل بافيزة: في هذه الايام التسعة؟ هل كان يتزاور مع اصدقاء له؟ كان يرّتب بعض أوراقه وهو يحرق مخطوطات أخرى..هل أستروح الآخرون فيه : قراره الأخير؟! هل هناك مَن تصدى لشراسة القرار الصامت؟ ألم يعكس هذا القرار عتمته في عيني بافيزة؟ في نبرة صوته؟ في ارتباكات يديه؟..هل قراره الأخير تشوقاً للذين يحبهم؟! (ليس محزناً أن تموت بينما الكثير من أصدقائك يموتون 269)..هل كان يتقدم نحو نهايته بوعي حاد كشفرة الحلاقة...؟!.