الجنس في الأسطورة السومرية واغتصاب إنانا عشتار

الجنس في الأسطورة السومرية واغتصاب إنانا عشتار

أوراق
ما زالت الأساطير العراقية القديمة تثير اهتمام الدارسين والمتابعين للأدب القديم وتاريخ الحضارات في الشرق المتوسطي، وخصوصاً الأساطير السومرية لأنها تمثل عتبة مهمة تضيء المستوى الروحي والثقافي الذي ابدع في جنوب العراق، وظل مستمراً ومتمركزاً في تاريخ الحضارة العراقية الطويل، وصاعداً نحو الديانات المجاورة، وتبدّى في العناصر الدينية ونظامها في سورية.

ولشدة التطابق بدت وكأنها منقولة عند ارتحالها لذا فإن للأساطير السومرية مساحة واسعة من التداول والاتصال من هنا كان حجم تأثيرها وهيمنتها، وأكثر الاساطير تعمقاً وتداولاً تلك التي كانت فيها الألوهة المؤنثة ذات دور فعّال ومتأت من طبيعة بلاد وادي الرافدين وخصائصها الطبيعية التي تستدعي اهتماماً بنظام الألوهة المؤنثة، وعبادة الأم الكبرى وصلتها مع عقائد الحياة والخصوبة/ التجدد والانبعاث. ولعب الجنس كنظام دلالي دوره الحيوي في هذه العقائد والشعائر لأن البنية الذهينة الاسطورية لم تتعامل معه باعتباره استهلاكاً للرغبة والنشاط بل كونه فاعلاً في تطوير الحياة والحفاظ عليها وتحقيق توازن في الطبيعة والكون، وحركة الاوقات وانتظام الفصول، وأضفى الفكر العراقي القديم صفة القداسة على طقوس الجنس التي صارت فعلا إلهياً يحتفل به، وانتجت المرحلة السومرية كثيراً من الاساطير والقصائد والاناشيد في هذا لامجال الحيوي بحيث صارت هذه النصور رأسمالاً ثقافياً ساهم بقوة في الاستدلال على طبيعة الحياة وعقائدها، وبالامكان الاشارة لديوان الاساطير/ الكتاب الأول، الذي ترجمه قاسم الشواف بعنوان”اعطني. اعطني ماء القلب”وتمثل تلك الذخيرة مفتاحاً للدخول الى الجنس والحب، وخصوصاً الطقوس الجنسية للزواج الإلهي/ المقدس، كما وفرت لنا حشداً من النصوص المتنوعة والمتناظرة في موضوعة العلاقة مع الألوهة المؤنثة والمقدسة واستمرار تلك العلاقة من خلال عقائد دينية تمركز فيها الجنس وصار وسيلة أساسية في التعبير عن التطور الحضاري، والكيفية التي انتقلت بها عناصر الحضارة من مكان إلى آخر، حتى إن بالإمكان القول أن الجنس هو الحاضنة لكل بذرة من بذور التطور الديني والانتقال الحضاري.
اهتمت الاساطير السومرية بهذا المجال الحيوي واتخذت من الأم الكبرى قطباً ثنائياً مع الألوهة المذكرة في تخصيبها للحياة، وكذلك كانت الآلهة إنانا/ عشتار متمتعة بدور لم يتوفر لإلهة غيرها لأنه ابتدأ في المرحلة السومرية وامتد نحو المرحلة الأكدية والبابلية والآشورية وتداخل هذا الدور مع ادوار الألوهة المؤنثة في سورية/ كنعان.
في كتاب”الجنس في الأسطورة السومرية”للباحث والناقد ناجح المعموري، يحتوي النص الاسطوري من جوانب عديدة ومتسعة بحيث تحقق كشف للأسطورة وعناصرها والمحيط الديني الذي صاغته الألوهة المذكرة والمؤنثة.
تكرس النص بكامله في الفصل الاول، وضرورة أن يتطلع عليه القارئ منذ البداية، ويتعرف عليه ويدرك تفاصيله الكاملة، وانطوى الفصل الثاني على العناصر الإلهية في الاسطورة التي كانت تتمتع بمركز مهيمن في الديانة السومرية، وأعنى بها الإله انكي والآلهة إنانا/ عشتار، اما العناصر الأخرى الداخلة في نسيج الاسطورة فهي النخلة وشجرة الصفصاف والغراب، وأفرد الكاتب فصلاً مستقلاً للنخلة بسبب اتساع دلالتها وتنوع الوظائف الممنوحة لها في الفكر العراقي القديم ومنها وظائف دينية لها صلة مباشرة بقصائد الخصب عند العراقيين القدماء وشعوب أخرى في الشرق الادنى مع تسليط ضوء على وظائفها الاجتماعية/ الاقتصادية كي تتضح بنيتها متكاملة ويبرز دورها في شبكة العلاقات الداخلية في تكوين البنية الأسطورية للنص.
وتوصلت الدراسة إلى الاهمية القصوى التي يتمتع بها عنصر الألوهة المذكرة/ والمؤنثة، أنكي/ انانا – عشتار في الاسطورة لأنه يقدم توصيفاً عن النظام الفكري المميز لكل منهما ويتحول هذا العنصر الى موجّه ومرشد في آن لمن يقرأ لأول مرة مثل هذا الموضوع، أو الذي لا تسعفه معلوماته عن الإلهين بتتبع مسارهما في الاسطورة وعلاقة كل منهما بالآخر، واعتقد أن الاكتفاء بالقراءة التأويلية فقط غير كاف، وربما يضعف الفائدة الفكرية المطلوبة من الدراسة لاسيما وهي طويلة وجديدة في جوانب عديدة ومختلفة.
يعتقد المعموري ان التوصيف الذي بإمكان”عناصر الاسطورة”تقديمه أو تقريبه، ينحصر في رسم العلاقة الدقيقة والقائمة بين أنكي/ وإنانا عشتار، وهو أمر مساعد جداً لاستيعاب كلية القراءة والتوصل للعلاقات الفكرية التي اقترحها وستسهم في اغناء وتطوير التلقي، ودفع المتلقي للمشاركة والمساهمة في انتاج نص جديد، ذلك لأن المتلقي ليس سلبياً، وانما يتمتع بفاعلية وقدرة بناءة ومشاركة في توسيع وحجم دوره في اعادة انتاج النص.
الفصل الرابع من الكتاب يكتفي بعنصري شجرة الصفصاف والغراب، ويقدم لنا فيها كشفاً للأصول الدينية التي منحت الصفصاف تلك المكانة التي تمتع بها، وتمركزت الآلهة عشتار في الفصل الخامس وحاولت الدراسة اضاءة علاقتها السابقة واللاحقة مع المزارعين والفلاحين في اساطير عديدة، أما الفصل السادس والاخير فعاد ليصوغ عدداً من مفاتيح القراءة والتأويل الذي اقترح تقشيراً لغموض الاسطورة وصعود البستان بنية خصب انتجها الإله انكي الذي قدم مساعدة للإلهة ومثل مرات سابقة ولاحقة، ولعل أهم الكشوف في هذه الدراسة العلاقة التناصية بين اسطورة ادابا والخطيئة التنوراتية واسطورة انانا وشوكايتودا حيث سيساعد هذا الكشف في اضاءة الاستبدال والارتحال الحاصل في العناصر الخاصة، بهذه الاسطورة وصعودها نحو اساطير أخرى لأن البنية الاسطورية - كما قال ليفي شتراوس - لاتندثر أبداً وانما تظل يقظة بقوة عناصرها وخصائصها التي تستعيد عافيتها في لحظة من اللحظات وفي حضارة من الحضارات ومحكوم هذا الاستيقاظ بوجود مجموعة من العوامل الذاتية المساهمة بتكوين الحاضنة الجديدة المتولدة لبذرة حاملة بنية النص الاول ومكتسبة عناصر أخرى مضافة.