جان كوكتو في حياة بابلو بيكاسو

جان كوكتو في حياة بابلو بيكاسو

عدنان منشد
بابلو بيكاسو أسم مرموق في سماء الفن التشكيلي العالمي، وشخصية فذة شغلت القرن العشرين برمته، وتواترت سيرته وآراؤه التي قلبت موازين الجمال واحتلت حيزاً كبيراً من الثقافة المعاصرة، فالنجاح المتفرد الذي حققه بيكاسو في حياته (1881-1973) يعد أمراً لم يكن له مثيل في تاريخ الفن من قبل.

ولعل كتاب فرانسواز جيلو (حياتي مع بيكاسو) الذي يجمع بين السيرة الذاتية واستعراض التجربة الفنية التي عاصرت بيكاسو من أمثال هنري ماتيس وآندريه مالرو وبول اليوار وشارلي شابلن وارغون وبراك وكوكتو يميط اللثام عن أغرب شخصية فنية ظلت مخفية تحت بهرجة الاعلام الا عن الناس الذين كانوا على تماس حقيقي معها. ربما يعد المخرج والمؤلف والممثل والرسام جان كوكتو من أقرب الناس الى بابلو بيكاسو منذ أربعينيات القرن المنصرم. وهاهي قصة ترويها فرانسواز جيلو حول فشل الاول وتألق الثاني في عمل مسرحي جمع الاثنين.. ننقل القصة كما وردت بصراحة متناهية وبتصرف قليل عن ترجمة الاديبة العراقية مي مظفر التي شابها العديد من الاخطاء.
جاء جان كوكتو في أحد صباحات باريس الشتوية، مع صديقه (جان ماريه) أو (يانوت) كما كان يسميه، ليخبر بيكاسو ان (يانوت) أخذ دور (بيروس) في أنتاج مسرحية (اندروماك) لجان راسين. وقال كوكتو مؤكداً: (سينال صغيرنا يانوت نجاحاً ملزماً) وكان (يانوت) قد قام حتى بتصميم المشاهد والملابس، وراح كوكتو يصف ذلك بأسهاب، وهو يضفي تأكيداً حازماً على التضادد الدرامي مابين الملابس البيض والاعمدة السود للقصر، حتى تصور بيكاسو كم يبدو يانوت ملوكياً بعباءته الارجوانية الساحرة التي يبلغ طولها أكثر من خمسة عشر قدماً، خصوصاً حينما يلقي بنفسه أسفل أحد السلالم، منكباً على رأسه. وكانت ثالثة الاثافي في أحد المشاهد المثيرة جداً، تتعلق بأحتياج يانوت الى صولجان، فهل بأمكان بيكاسو ان يصمم له واحداً؟. فكر بيكاسو للحظة، ثم قال: (هل تعرفان سوق الشارع الصغير في شمال باريس، أعني شارع”وبوسي”). بدت الدهشة على كوكتو ويانوت، ولكنهما قالا أجل انهما يعرفانه.

“ممتاز!”قال بيكاسو:”اذهبا الى هناك واجلبا لي عصا مقشة”. بدا الاثنان في حالة أرتباك بعض الشيء، غير أنهما في النهاية خرجا وعادا بواحدة، أخذها بيكاسو وقال لهما: (عودا بعد يومين سأوجد منها شيئاً). القصة طويلة بين كوكتو وبيكاسو، كما وردت في حياة فرانسواز جيلو، ولكننا نلم شتاتها بالشكل التالي: بعد مغادرة كوكتو ويانوت، أخذ بيكاسو قضيباً حديدياً من النوع الذي يحرك به النار في الموقد الكبير، وراح يحرق الزينة التجريدية لعصا المقشة، ويقصر طولها الى حد معقول، حاسباً عدم اشتباكها بعباءة يانوت الارجوانية ذات الخمس عشرة قدماً، وبوسعه ان يتكئ عليها أيضاً. حين وقت العرض لمسرحية (اندروماك) لجان كوكتو، لم تكم ثمة رغبة لبيكاسو ان يذهب لمشاهدتها، ولا أن يرى يانوت وهو يشهر صولجانه الذي صنعه له. ولهذا أعطى بطاقة الدعوة الى فرانسواز جيلو. وكما كان المرء يتوقع، كانت ممثلات العرض محتشمات بأزيائهن على نحو غث – من الحنك الى الارض – والممثلون يتقافزون ويينططون حولهن مثل جرذان الاوبرا، ويرتدون تنورات قصيرة تكشف عن سيقانهم وبطونهم الى أقصى حد.
أشد مايبعث على الطرافة والاسى في لقاء كوكتو وبيكاسو كما تقول من امتلكت الحياة مع بيكاسو، أعمدة قصر الاميرة (اندروماك) السود، اذ كلما أتكأ الممثل (يانوت) على احداها، يلطخ الدهان المائي الرخيص كفه. وحين يذهب بعد ذلك لمعانقة اندروماك في أخطر لحظة من لحظاته الدرامية، فأنه يترك طبعة من ذلك الدهان على ثوبها الابيض الفضفاض، اذ بات من الممكن ان يزعق المتفرجون، وان تدب حالات الصفير واطلاق الهسيس والدوي.
وهكذا، نحرت وانتحرت مسرحية (اندروماك) لجين راسين، على الرغم من التعاون المشترك بين جان كوكتو وبابلو بيكاسو. ولابأس من القول أخيراً، انه المنطق الاعرج الذي انتهى بمشهدنا المسرحي الى مقلب نفايات الامم.