طرائف وحقائق عن محمد مهدي البصير في سنواته الاولى

طرائف وحقائق عن محمد مهدي البصير في سنواته الاولى

علي كاظم الكريعي
ولد محمد مهدي البصير في بيت من بيوت محلة الطاق القديمة في مدينة الحلة الذي تعاقبت عليه السنون، فأثقلتهُ بوطأتها، وتركت عليه آثارها البارزه، لكنهُ قائم حتى الآن يتحدى الزمن ويطاول السنين. أما عن تأريخ ولادته، فتحدثنا الوثائق الرسمية، وسجلات الأحوال المدنية ((هوية الأحول المدنية – شهادة الجنسية العراقية))، انه ولد سنة 1896م.

وذكر محمد مهدي البصير في أواخر حياته، وقبل وفاته بأحد عشر شهراً تقريباً، خبراً جاء فيه :ـ
((ولدتُ في الحلة فى غرة المحرم الحرام سنة 1313هـ)). وعلى هذا الأساس سار كل من أرّخ ولادته. وقد أشارت بعض المصادر، الى ان محمد مهدي البصير، ولد سنة 1895م. كما أرخ الشاعر مجيد العطار. سنة ولادته, وهو حمل في بطن أُمه، معزياً أبيه الشيخ محمد بوفاة ولد له اسمه ((علي)) ومبشراً ومهنئاً أباه بالمولود الجديد الذي سوف يولد قريبا بقوله :ـ

محمد وافتك البشائر بالــهـــنا ولاح هلال السعد في مطلع المجد
لئن غاب بدر من سماك فأن ذا هدى أرخوه نلت بالخلف المهدي

وكانت العادة قد جرت عند الكثير من الناس، ان يبدو أسماء أبنائهم بمحمد، تبركاً وتيمناً باسم الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وعلىآله وسلم) وعلى قاعدة خير الأسماء ما حُمّد وعُبّد صار اسمه محمد مهدي.


ينحدر محمد مهدي البصير من أُسرة تنتسب الى قبيلة بني كلاب العدنانية. العربية العريقة، نزحوا من الحجاز. واتخذت هذه الأسرة من مدينة الحلة، موطناً لها وذلك في حدود القرن التاسع عشر للميلاد. المعروف من هذه الأسرة، هو الشيخ شهاب الدين بن عبيد بن أحمد بن حسن من آل تويم جد عشيرة التويم الكلابية، مؤسس هذه الأسرة. في بداية القرن التاسع عشر الميلادي. وهي أُسرة دينية معروفة، تتناوب المقام المنبري على سبيل الإرث، إشتهر منها بضعة رجال في العلم والأدب.
كان الشيخ شهاب الدين، معروفا في مدينة الحلة، واعظاً دينياً، وخطيباً على المنابر الحسينية محباً لآل البيت، نظم بحقهم الكثير، وظل الشيخ شهاب الدين – والناس تسمى أُسرته في الحلة بآل شهيب - في مهنته هذه، حتى وافاه الأجل سنة (1311هـ/ 1893).

فرثاه الشاعر حسن القيّم. بقصيدة مطلعها :ـ

صبراً وان طرقت عظـيمة فالمرء قد يسلو همومـه
ويــروح عـلــم عــن امـور وهـي قـد هدت حلومــه
نادمه بالسلوان عــن تلـك الــرزيـــة يــا نـديـــــمه
أمسـى ابـو الـحسـن فقـيد نظيـره فـيـهـا عـديـــــمه
فــيــهــا المـــكــارم كلــها تـمـت ومـا شـدوا نميمه

وأشار القيّم في قصيدته الى أبنائه الذين ورثوا عنه الوعظ والأرشاد فقال فيهم :ـ

عـنه ورثتــم منـــــبـراً فـيكم تــزن يانجومه
من كل وجه فيه تجلى ظلمة الليل البهــيمه.

وبعد وفاة شيخ شهيب، ورث عنه أولاده مهنة الخطابة والوعظ،
وإرتقاء المنبر الحسيني، فنهض ولده الشيخ عبد الحسين ((جد البصير))
بهذه المهمة. ولد عبد الحسين في مدينة الحلة سنة (1261هـ/ 1840م)،فأخذ يعظ الناس ويذكرهم بأهل البيت واعدائهم، والى رثاء الحسين (عليه السلام) وما حل به واهله في واقعة الطف بكربلاء المقدسة، حتى أصبح من مشاهير خطباء مدينة الحلة في زمانه.
كان الشيخ عبد الحسين، ضعيف البنية، معتل الصحة، إلا أنه متزوجا من أربع نساء.
توفي عبد الحسين شهيب في اليوم الثاني من ذي القعدة سنة(1324هـ /الموافق لليوم الرابع عشر من شهر مايس سنة 1903م)، عن عمر ناهز الثلاث والستين سنة، ورثاه معظم شعراء مدينة الحلة، ومنهم يعقوب والد محمد علي اليعقوبي، الشاعر المعروف بقصيدة رثى فيها الشيخ وعزى أولاده بالأبيات الشعرية الاتية :ـ

قـد أوحشـت منك المنابر وزهت بمرقدك المقابر
عثر الزمان وفي نظيرك لم يكن في الناس عاثر
وبـرغم انـفـي ان خـدك في الثـرى قد بات عافر
أأبا محـمـد مـن حـــــوى غير المحامـد والمفاخـر

وللشيخ عبد الحسين شقيق أصغرمنه سنا. هو الشيخ محمد رضا شهيب. ولد في الحلة سنة (1288هـ/1867م). وكان هو الآخر خطيباً وشاعراً معروفاً في الحلة، أنجب العديد من لأولاد منهم،عبد الغفار شهيب والد وليد الحلي، توفي شيخ محمد رضا سنة 369هـ/1948م).
بعد وفاة الشيخ عبد الحسين، نهض ولده شيخ محمد ((والد البصير)) بمهمة الوعظ والأرشاد. ولد شيخ محمد في الحلة أيضاً سنة (1280هـ / 1860م). فكان خطيباً واعظاً دينياً على المنبر الحسيني. يتنقل بين مجلس وآخر، وخاصة في الأيام العشرة الأولى من الشهر المحرم الحرام. وظلالشيخ محمد في مهنته هذه، ما يقارب الثمانين سنة، فكانت له منزلة كبيرة ومحترمة عند أهل الحلة، حيث كان أحد أبرز رجال مدينة الحلة في قراءة التعزية. فقد أفنى عمره الطويل في خدمة قضايا أهل البيت، فقد كان يعظ الناس، ويتحدث اليهم عن السيرةـ النبوية الشريفة، وأيام الخلفاء الراشدين، وعن الكثير من أحوال الأمويين والعباسيين، وعن نسب الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وعلى آله وسلم). وما روي عن آبائه الطاهرين، كما روى الكثير من خطب الأمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) مستخلصاً من ذلك كله، الى رثاء الأمام الحسين (عليه السلام)، فكان شاعراً مقلاً، تفجرت شاعريته على الخصوص في أثناء أدائه فريضة الحج سنة 1332هـ / 1914م). فكان يرسل البرقيات شعراً، ويتلقى أجوبتها شعراً كذلك.
نقتطف هنا بعض الأبيــــــات من البرقية التي أرسلها من ((عانة)) قائلاً:
يا آل عبـد الحســين عوذتكم بالحســين
هل من جواب لطيف يكـون قــرة عيني
فجاء الرد عليها بهذه الأبيات :ـ
يا سارياًً للحج لا نشتكي اليـك إلا الـــــــم البعـد
ذا تسلمنا منتظم عقـــده بشراك يا واسطة العقد.
كان الشيخ محمد متزوج من أربعة نساء. أنجب العديد من الأولاد. كان البصير الأبن البكر من زوجته الأولى زهراء محمد. توفي الشيخ محمد الشهيب، ليلة العاشر من صفر سنة(1380هـ / المصادف ليلة 13-14 تموز سنة 1962م). ودفن في مقبرة الشهيب في مدينة النجف الأشرف.(وله عدد من الأخوة هم كل من الشيخ ناجي، الشيخ راجي،الشيخ حسن، الشيخ باقر، الشيخ كاظم، والشيخ صادق. وهذا الأخير أعدمه العثمانيون في واقعة عاكف المشهورة في الحلة((سأتطرق اليها في المبحث الأول من الفصل الثاني)) وقد إرتقى هؤلاء جميعاً، المنبر الحسيني وقراءة الشعر والأدب.

نشأ محمد مهدي البصير في أحضان اسرته المعروفة في الحلة بأسرة ((الشهيب))، وهي أسرة أدب وشعر. هذة الأسرة التي إتخذت من الخطابة على المنبر الحسيني مهنةً لها. وإذا كان هذا حال الأسرة، فليس غريباً أن ينشا البصير نشاةً دينية وأدبية. فتعهده أبوه وعني بتربيته. وأخذ البصير يدرس على يديه أولا، فكان يرعاه ويجتهد في تربيته، ليقتفي في ذلك أثر أُسرته في الخطابة. ولما بلغ البصير السنة الخامسة من عمره، عزم أبوه على إرساله الى
الكتاب، وذلك ليتعلم القراءة والكتابة، وحفظ القرآن والحديث، ودراسة العلوم الشرعية والعربية، فلاقت رغبة أبوه هوى في نفس ولده الذي أظهر إندفاعاً قوياً في التعلم.
وتحدث البصير عن حياته الأولى قائلا :ـ
((وما كدت أبلغ الخامسة من عمري، حتى أبديت رغبة شديدة في الذهاب الى الكتاب، لا لأتعلم القراءة فحسب، ولكن لأتفوق على عم لي يكبرني قليلاً، وهو يتعلم القراءة في كتاب تديره أمرأه من آل مبارك، يقرب سنها من الستين، تمُت الينا بصلة قرابة بعيدة، وكان لهذه المرأه منزلة محترمة بين أفراد عائلتها، ولها ستة أولاد. وكان هؤلاء يقيمون مجلس التعزية صباح كل يوم سبت، وقارئهم هو أبي شيخ محمد)).

ويواصل البصير حديثه قائلا :ـ
((وكان اكثر مايريده مني أبي، هوأن أحفظ القرآن الكريم)). فبرزت فيه ملامح التفوق مبكرة، فنبغ فيها، وذلك لشدة ذكائه وقوة ذاكرته.
وما أن أُرسل محمد مهدي البصير، وهو في سنة الخامسة من عمره الى الكتاب، حتى أُصيب بنكبة كبرى، وكارثة عظمى، فقد جرم القدرعليه أن لا يرى سناء الشمس، وجمال الطبيعة، وروائع الكون، وبدائع هذه الحياة، فإنتهت به الى الأصابة بمرض الجدري، فلم يكد يرى النور حتى أنطفأت عيناه، ففقد باصرتيه، حتى أصبح كفيفاً، لكنها منحته قلباً هو سراجٌ منير، ووهبته ذكاءً وقاداً، فأصبح يرى بقلبه ما لايراه بعينه، ويدرك الأشياء بذكاء لا تدركه عيون الناظرين.وروى البصير ذلك الحادث قائلاً :ـ
((وكنت أستيقظ مبكراً جداً كعادتي، وكنت قد لقّحت منذ بعض الوقت ضد
الجدري، وخرجت الى الشارع فأبصرت كلباً اسوداً ضخماً للغاية، فخفت خوفاً شديداً، ورجعت الى فراشى، فنمت نوماً عميقاً لم أستيقض منه إلا وقد انتشر الجدري في جسمي، وشفيت من الجدري في الوقت المناسب، ولكني قد فقدت بصري)).
وعلى هذا الأساس لقب محمد مهدي بـ((البصير)) من باب تسمية الشيء بضده، وقد انفرد بهذا اللقب من بين أفراد أسرته. ومنذ ذلك الوقت حُرِمَ محمد مهدي البصير من أعظم نعمة يهبها الله عز وجل للانسان، لكنه جل شأنه،عوّضه بنورالبصيرة، التي هي أجل شأناً، وأسمى قدراً ومنزلةً، فقد عوّضهُ بقريحة متفتحة،وذكاءاً وقاداً،وحافظةً نادرةً، يفتقدها الكثير المبصرين، جعلتهُ ذا شأنٍ في الحياة السياسية والاجتماعية والعلمية والأدبية. وكأن هذا المصاب قد استفز قدرات الطفل، فاذا به يبدي ذاكرة عجيبة، وحافظة فذّة، أصبحتا فيما بعد مضرباً للأمثال عند جميع معارفه وطلابه وابناء مدينته.
تابع أبوه الشيخ محمد تعليمه، على الطريقة التقليدية ((الكتاتيب)) وهي الطريقة المتبعة آنذاك. وذكر البصير ذلك حيث قال:
((لقد صمم أبي على أن أحفظ القرآن، فكنت أحفظ مرة وأنسى تارة، وكان النسيان يكلفني ثمناً باهضاً، وكنت أجد صعوبة في إستظهاره، فقد تنقلت في سبيل ذلك من كتّاب الى آخر حتى انتهى بي المطاف الى كتّاب يديره بالأشتراك كل من أخي الشيخ عبد الحسين والشيخ رزوقي الذي عرف فيما بعد بالشيخ عبد الزاق سعيد، وكان الأخير خير من درّس العربية في الحلة. وكان بعض أدبائها يختلفون الى زيارته، وعندما كنت تلميذاً، تعرفت الى أديب يدعى الشيخ أمين الحمزاوي، وتعرفت في الكتاب على أديب اسمه أمين عوض، فحفظت له الكثير. وذات يوم طلب اليّ محمد ضياء القزويني أن أملي عليه ما أحفظ من شعر الأقتباس، لأنني وزملائي من أسرة القزويني أخذنا ننظم الشعر الذي نقتبس فيه آيات أو بعض آيات من القرآن الكريم، كنا نسميه ((شعر الأقتباس)) فامليت عليه ما وعت ذاكرتي منه، فأرتجلت له البيتين التاليين :ـ
سلساك ثغرك يا رشا لم يرو منه العاشقون
وبريقك المعسول فَلْ يتنافس المتنافســــون

((وأعلنت ان البيتين لي، وكنت في نحو الرابعة عشرة من عمري. ومنذ ذلك الوقت أخذت، أقرض الشعر لأول مرة، وأنا في الكتاب، كما درست علوم العربية والدين والنحو)) 0 كما تعلم البصير القراءة والكتابة في حياته الأولى، أيضاً على يد جده الشيخ عبد الحسين، حيث كان له هو الآخر دور كبير في تعليمه وتدريسه على حفظ الشعر فترة لا بأس بها حيث أكد البصير ذلك قائلاً :ـ ((كان جدي الشيخ عبد الحسين، أرأف أفراد أسرتي بي، فكان يدنيني منه كثيراً، ويحفظّني بعض مختارات من الشعر، وينقّدني قرشاً مقابل كل عشرة أبيات، أحفظها حفظاً جيداً، وربما كانت الأبيات التالية من أول ما حفظتهُ من قصيدة
الشيخ صالح الكواز))0
وذكر البصير الأبيات الشعرية التالية :ـ
ويلاه من قوم أســاءوا صحبـتي
من بعـد أحسـان لكـل قرين
قد كدت لولا الحلم من جزع لما
القاه اصفـق بالشمـال يميني
قلبي يفل من الهمـوم جبالهـا
وتسيخ عن حمل الرداء متوني.
قُيض للبصير أن يتتلمذ في حياته، بعد أُسرته، على أيدي نخبة من أكفأ أساتذة اللغة والأدب والعلوم الدينية في مدينة الحلة، منهم الشيخ حسن البصري والشاعر أمين الحمزاوي، وكان هذا معجباً بالمتنبي وكثير الحفظ لشعره0 كما عرف عنهُ ولعهُ بالقائه شعر المتنبي على سامعيه بنغمة خاصة، أثرت في البصير وملكت لبه، وجعلتهُ يلازمهُ للأستزاده من إنشاده، وكذلك الشيخ أمين عوض، الذي به عرف البصير شعر مهيار الديلمي
عن رسالة (محمد مهدي البصير ودوره السياسي)0