شتراوس.. الأسطورة الحيّة

شتراوس.. الأسطورة الحيّة

نوال العلي
آخر معلّمي العصر الذهبي الأوروبي عمره قرن كامل ارتاد طويلاً الأطراف النائيّة عن المركز الأوروبي، وصادق سكّانها الأصليين. عبر أبحاثه ونظريّاته، خلق أبعاداً جديدة لعلم الأنثروبولوجيا الذي زاوجه بالبنيويّة. مؤلفاته التي أعيد إصدارها أخيراً عن «لا بلياد»، باعت 13 ألف نسخة في أقل من ثلاثة أشهر.

العالم النبيل عاش ليطفئ قبل أيّام شمعته المئة نوال العلي من يقرأ كلود ليفي ـ شتراوس اليوم؟ في عصر باتت فيه الأساطير والإثنولوجيا والأنثروبولوجيا محض دراسات متخصصة تغيب في الظلام؟ ها هو يبلغ المئة (28/ 11/ 1908) وقد اختارت دار Gallimard العريقة أن تقدّم إليه في عيده هديّة من نوع خاص: مجلداً وقوراً ضمن سلسلة Pléiade الخاصة بالعظماء. وكان أن باعت «مؤلفات كلود ليفي ـــ شتراوس» ـ التي يبلغ ثمن نسختها الواحدة سبعين يوروـ 13 ألف نسخة في الشهور الثلاثة الأولى فقط من طباعتها. أليست تلك إشارة اهتمام معرفي متجدّد بشتراوس الذي ما زال حاضراً في الثقافة المعاصرة؟ اليهودي الفرنسي البلجيكي المولد، قد يكون آخر الأحياء من عظماء العصر الفكري الذهبي لأوروبا، قدَّم صورة مختلفة لعالِم الأنثروبولوجيا، حتى صار أسطورةً شخصيةً. بدأ كل ذلك بعد دراسته الفلسفة (1931) في الـ «سوربون”وتلقّيه دروساً في علم النفس لدى الفرنسي جورج دوما المفتون بالبرازيل والذي عمل على تأسيس جامعة «ساو باولو”هناك. ولدى اختيار بعثة فرنسية من الأساتذة للالتحاق بالجامعة، كان شتراوس أوّل المغادرين على متن باخرة حجّت إلى البرازيل عام 1934. هناك، وجد شتراوس نفسه رئيساً لبعثة ميدانية إثنوغرافية في غابات الأمازون الماطرة. يمضي العالِم على بغل مع أصدقائه من السكّان الأصليين «النامبيكوارا» و«الكودوفو”و«البورور» إلى قراهم وأدغالهم، حيث ما لا يحصى من المشقّات التي تقرض الأيام من دون طائل، لا مكان للمغامرة في حرفة الإثنوغرافي. وشتراوس يكره «الأسفار والمستكشفين»، لكن عليه أن يرصد كل شيء، حتى «التفاصيل التافهة والحوادث التي لا معنى لها». في تلك الأسفار الاستكشافية، اختبر شتراوس سلطان العالِم العارف النبيل والشاعري، الرجل الأبيض وسط بيئة وحشيّة بدائية، كان عليه أن يعيد فيها اكتشاف نفسه مثلما يستكشف تلك القبائل ذات الطقوس الخاصة. وانتظرت هذه الرحلات طويلاً قبل أن تنشر في كتاب «مداريات حزينة”(1955) بعد 15 عاماً من انقضائها، بعدما أضاف إليها رحلاته إلى الهند والبنغال أوائل الخمسينيات. وعلى امتداد صفحات الكتاب، يصف شتراوس المجتمعات الإسلامية هناك، مسحوراً بمرور العابرين عليه، وبرفعهم يداً للسلام، وبصلواتهم الخمس التي يستجيبون لندائها أينما كانوا، على الأرصفة أو الشاطئ. رأى شتراوس المسلم يعيش ويحمل إلهه معه، ما عليه سوى أن يفرد هذه السجادة و«يرتجل مسجداً». «مداريات حزينة”كان عملاً تمنت الـ «غونكور”لو أنه رواية لتمنحه جائزتها، وقد وضع صاحبه في مصاف كبار علماء الأنثروبولوجيا. بعد عودته إلى فرنسا، كانت الحرب العالمية الثانية تدقّ طبولها، وكان على شتراوس اليهودي المولد، أن ينجو بنفسه بعد سقوط باريس في يد الجيش الألماني. هكذا، شدّ رحاله إلى نيويورك، حيث أسس مع رفاقه من المثقفين اللاجئين «المعهد الحر للدراسات العليا» وهو جامعة للفرنسيّين في المنفى (1940). هناك، التقى رومان جاكوبسون، أحد معلّمي شتراوس، إلى جانب فردينان دو سوسور الذي استند شتراوس إلى نظريته البنيوية في اللغة، متّبعاً روحها ليؤسس مدرسته البنيوية الكبرى. في الواقع، إنّ البنيويّين أنفسهم اختلفوا في أبوّة المشروع الشتراوسي، إذ يمكن أن تلمح أطيافاً لأساتذة آخرين، وشبكة اجتماعية نفسية وفلسفية خلفها. استفادت بنيوية شتراوس من سوسيولوجيا دوركهايم، من حيث معاملة الظواهر الاجتماعية باعتبارها كيانات منفصلة ضمن شبكة أكبر من العلاقات تصيّرها كلاً متكاملاً. ثم استخدمت التحليل الفرويدي، خصوصاً في «دراسة بنيوية للأسطورة»، لتبيان كيف أنّ هذه العلاقات المحكومة بقواعد لا توجد بالضرورة على مستوى الوعي لكنها محكومة باللاوعي أيضاً. وهنا يبدأ أثر جاكوبسون بالظهور في عمل شتراوس. إذ يرى أنّ الحياة الاجتماعية محكومة بمنطق ثنائي من المتناقضات ذي بعد لا يرتبط بالزمن، وله انزياحات تاريخية شبيهة بانزياحات اللغة. أخذت البنيوية مجدها أواخر الخمسينيات، صار شتراوس أستاذاً مشهوراً في Collège de France وواحداً من أكثر المنظرين تأثيراً (1962)، وظل هكذا حتى منتصف السبعينيات، أي حتى بدأت البنيوية انحدارها، وحلّت محلّها الوجودية لتطغى على الساحة الثقافية والفكريّة. لكن شتراوس الأنثروبولوجي واصل طريقه بهدوء، هو الذي استخدم البنيويّة في أطروحته التي نال عنها درجة الدكتوراه «البنى الأساسيّة في القرابة» (1949)، وفيها أعاد تفسير الدراسات الميدانية للقرابة التي رسخت وجوده كمفكر ريادي في فرنسا ما بعد الحرب. إذ ناقش كيف أنّ علاقات القرابة ـ وهي المظاهر الأساسيّة في أي مؤسّسة ثقافيّة ـ تقدّم نوعاً خاصاً من البناء، ويمكن في هذه الحالة أخذ شجرة العائلة مثالاً على نظام القرابة الذي يمثّل البنية. أما إنجاز شتراوس الضخم والأهم، فكان «أسطوريات»، حتى وإن قال عنه مرة إنّه «لا يساوي العناء الكبير الذي بذل فيه». يضم الكتاب أربعة أعمال بدأها بكتابه «النيء والمطبوخ» (1969) و«من العسل إلى الرماد”(1973) ثم «أصل سلوكيات المائدة”(1978) وأخيراً «الرجل العاري» (1981). في هذه السلسلة، درس شتراوس الأسطورة كبناء مؤسس لتفسير الثقافة وعلاقاتها الثنائية كعنوان كتابه الأول؛ فالنيء، متعلق بالطبيعة. أمّا المطبوخ، فمرتبط بالثقافة. تميزت مجموعة «أسطوريات”بإغراقها في الاستعارات، وقد تكون هذه صفة كتابات شتراوس بعمومها. خلص شتراوس في أعماله إلى أنّ الفكر المتحضر لا يختلف كثيراً عن الفكر الوحشي. وبيّن أنّ الأساطير والعادات لدى حضارات عدّة، تؤكد وجود الوجهين. الأساطير كلها تتحدث عن تحول البشر من خالدين إلى فانين، وعادات الطعام تشرح تحوّل الأكل من نيء إلى مطبوخ... وفي رأيه أنّ هذا المجرى التي تتخذه الحضارات هو نظام أساسي مشترك بين شعوب الأرض. قرن مضى، وما زلنا نقرأ شتراوس ونعجب بالروح الرفيعة التي أنصف بها حضارات الشعوب التي راقبها ودرسها. هذا العالِم النبيل يبقى منارة للإنسانيات، ومرجعاً أساسيّاً من مراجع الفكر الإنساني الذي يعبر الأزمنة والعصور.
عن العربي الجديد