مع مجلة العلم للسيد هبة الدين الشهرستاني ودورها الأدبي الرائد

مع مجلة العلم للسيد هبة الدين الشهرستاني ودورها الأدبي الرائد

د. عبود جودي الحلي و كريمة نوماس المدني
شهدت الدولة العثمانية في أعقاب الثورة الدستورية عام 1908 م انعطافة كبيرة وخطيرة، أثَّرت إلى حد ما في أوضاع المجتمع العراقي بشكل عام، وبصورة اختلفت نسبياً من مجال إلى آخر، ومن جهة إلى أخرى، تبعاً لعوامل الترقي في هذا المجال، أو وسائل النهوض والاستجابة في تلك الجهة.

ونجد أنَّ مدن العراق قد تنسَّمت أنسام الحرية والدستور، فلأول مرة عرفت في تأريخها الحديث الانتخابات البرلمانية، والتعددية، وحرية الصحافة، ملامح حياة جديدة برزت نتائجها بصورة أعمق في حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى أي بعد عام 1918 م.

وما يعنينا من هذا الأمر المناخ الجديد الذي طرأ على حرية الصحافة، وحركة النشر، التي لم يشهد العراق مثيلاً لها في السابق فقد صدر في أقل من عقد حوالي تسعة وثمانين إصداراً، ما بين جريدة ومجلة) (، كان من أبرزها مجلة)العلم(لمؤسسها السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني. مجلة العلم أول مجلة عراقيَّة – عربيَّة صدرت في النجف الأشرف في التاسع والعشرين من آذار عام 1910 م، بعد الثورة الدستورية العثمانية، لتكون لسان حال الطبقة الإسلامية الواعية، وكان رئيس تحريرها السيد هبة الدين الشهرستاني) ومديرها عبد الحسين الأزري.
وقد كتب السيد الشهرستاني على صدر المجلة: ( مجلة شهريَّة دينية فلسفية علمية صناعية). وبسبب إصدارها بقوله: مجلة العلم تخدم العلم والدين، وتبحث عن أصول الترقي مادياً وأدبياً . وانطلاقاً من هذه المفاهيم، اتخذ هبة الدين لمجلته عنواناً ذا مغزى واضح بدلالة)العلم(، إلى جانب تزيينه غلاف المجلة ببعض الأحاديث النبوية الشريفة، والأبيات الشعريَّة حثَّت بمجملها على العلم ؛ حباً، وغاية، وسعياً، مثل استشهاده بقول النبي : طلب العلم فريضة على كل مسلمة ومسلمة.
وقد حدَّد السيد هبة الدين أهدافها بموضوعيَّة تتلخص بمحاور جوهرية أهمها: السعي إلى تخليص مجتمعه من رواسب الجمود والعادات البالية، وتأكيد الإصلاح من خلال بث التجديد في أبناء مجتمعه، والتنبيه على عوامل التغلغل الاستعماري في العالمين العربي والإسلامي، والحث على مواجهته بجميع الوسائل العلمية كالمقاومة المسلحة)الجهاد(، أو الفكرية كتأسيس الجمعيات الثقافية، و إصدار دوريات ومؤلفات لها صلة بالموضوع.
وقد كتب في العدد الأول من المجلة نصاً بذلك الهدف المتوخى من المجلة،إذ قال فيه: والأمل من حملة العلم وحماة الدين، ومن يشاركنا في الغاية والغرض أن يسعى في نشر هذه الصحيفة، ويساعدنا بفيض يراعه، ويجد ما يتمناه من غرس أصول الدين والعلم في أراضي القلوب وتكميل الأفكار وإصلاح الشعوب، وفك مقاليد المضرة من عقولهم وقد كشف هذا النص عن منهج المجلَّة وأهدافها العلمية، بما يتناسب وخطَّة الإصلاح التي حملتها حركة الدستور في النجف الأشرف.
استقت مجلة(العلم) معلوماتها وأخبارها من مصادر شتّى، كان من بينها الإنصات إلى أخبار وكالات الأنباء العالميَّة كوكالة(رويتر)، فقد نقلت عنها مختلف المعلومات والأخبار، ومن محطات متعددة لها في آسيا وأوربا، مثل مدينة (محراس) الهندية، وكبرى العواصم الأوربية مثل (لندن، وباريس، وبرلين).
واقتبست الأخبار – أيضاً – من مختلف الصحف والمجلات العربية والأجنبيَّة،بما فيها تلك الصادرة في المهجر (أمريكا الشمالية والجنوبية). وكتب في المجلة عدد منألمع كتّاب العراق وأدبائه، من أمثال: جميل صدقي الزهاوي، ومحمد حسن الشبيبي،وعلي الشرقي، وعبد الرحمن البناء، فكانت مقالاتهم وقصائدهم بموضوعاتها الرائعة صفحات أغنت المجلة فكراً وأسلوباً.
وبلغت مجلة العلم من النضج والرصانة درجة لا يستهان بها فقد اتسم أسلوبها برشاقة الألفاظ وجزالة المعاني، لتخترق بذلك أفئدة قرائها وعقولهم، مبتعدة عن غريب اللغة وشاردها، متخذة من الجمل القصيرة، والبسيطة أقصرالطرق لإيضاح أفكارها.
ويبدو أنَّ المجلَّة قد اشتهرت وعرفت في العالم الإسلامي، وبين المسلمين في ديار أوربا، فصاروا يبادلون صحفهم بها، فقد جاء في المجلة تحت عنوان (مبادلات الصحف مع مجلة العلم)ذكر الصحف المشهورة من الأمصار المتمدنة التي وصلت من الإستانة: الحضارة والعدل وشمس، ومن بيروت: الاتحاد العثماني اليومي
والرأي العام وإقبال والبشير والحقيقة، ومن دمشق: المقتبس والعصر الجديد والحقائق، ومن العراق صحفه جميعاً، ومن القاهرة: المؤيد والمنار والشمس، ومن إيران أكثر جرائدها، ومن الهند: الأخبار اليومية وحبل المتين، ومن أمريكا: الزمان، ومن اليابان: الاتحاد الإسلامي، ومن فرنسا: نهضة العرب، ومن إيطاليا: السياسة المصورة، ومن سنغافورة: الوطن والإصلاح، ومن تونس: مرشد الأمة، ومن الجزائر: كوكب إفريقيا.
ويبدو أنَّ الشباب الواعي وطلبة الحوزة العلمية وجماعة الإصلاح كانوا وراء السيد الشهرستاني في آرائه وأفكاره، فقد كانوا يتلقفون المجلة عند صدورها في الوقت الذي كان طلبة العلم في الحوزة النجفية يطالبون بالدروس المألوفة من فقه وأصول الحديث وتفسير وأدب وفلسفة، ولم تكن المجلات وإن كانت علمية
محببة لهم، لئلا ينصرف الطالب الحوزوي عن دراسته الأساسيَّة، لكن مجلة العلم فرضت وجودها على الجميع، وأرادت الطبقة الواعية من طلاب العلم الاطلاع على المستجدات الحديثة، وما يظهره العلم من مخترعات في الوقت الذي كانت فيه المجلات السورية والمصرية واللبنانية تباع خفية لئلا يتهم رجل الدين والعلمبالانحراف.
وينقل الأستاذ مير بصري عن جعفر الخليلي ما سببته الصحافة للشهرستاني،فقال :كان الشهرستاني أول من غامر وخاطر وضحّى بمستقبله الروحاني ؛ الذي لو حافظ عليه لكان اليوم أحد المراجع الكبرى إن لم يكن المرجع الذي ينفرد بالمرجعية .
أما السيد هبة الدين الشهرستاني فيذكر بنفسه أنَّ بعض الناس كانوا ينظرون إليه نظرة ريبة بعد إصداره المجلة ؛ إذ قال: «إنَّ من مضار المجلة لشخص منشئها سقوطه في أنظار العوام وأكثر المثقفين وقلة من رجال الدين سيما المستبدين.

وعلى الرغم من ذلك استمرت المجلة بالصدور عامين تقريباً، توقفت بعدها في السابع عشر من شهر شباط عام 1912 م، بعد أن أصدرت عشرين عدداً ؛ إذ أثرت في وجدان قرّائها لا في العراق فحسب، بل على مساحة واسعة من الوطن العربي والعالم .
ونشير في هذا الصدد إلى ما كتبه (سلمان الصفواني) في أثر مجلة العلم في نفوس قرّائها، جاء فيه: «فلها الفضل الأكبر في بث الأفكار السامية، ونشر دعوة العلم بين طبقات أفراد الأمة في وقت كان الجهل ضارباً أطنابه في جميع الأنحاء العراقية... كانت تضاهي المجلات الراقية بمواضيعها وحسن عباراتها التي نالت
استحسان أمهات الصحف العربية وتعد مجلة العلم علامة مضيئة في تأريخ الصحافة العراقية لما فيها من آثار في أنواع المعارف جميعاً، فكانت بحق «عاملاً من عوامل النهضة الحديثة والانتقال إلى العصر الحديث الذي وضعت المجلة لبنة في أساسه .
أولت مجلة العلم الشعر عناية خاصة ؛ إذ قلما يخلو عدد من أعدادها من مجموعة من القصائد ذات هدف معين، وهي في أغلبها الدعوة إلى العلم وضرورة التحلي به، وحث الناس على الثورة على أوضاعهم المزرية، لذا نجد ظهور مفاهيم جديدة في بابها كالتغني بالحرية، والدستور، والإصلاح، وحب العلم، فكانت صفحات المجلة رياضاً غنّاء صدحت فيها حناجر الشعراء المجددين من أمثال: محمد رضا الشبيبي، وعلي الشرقي، وخيري الهنداوي، وعبد العزيز الجواهري، وعبد الرحمن البناء، وغيرهم. وبهذا أسهمت مجلة (العلم) بدفع عجلة التجديد الشعري التي كانت مرحلة مهمة من مراحل صراعها المحموم ضد القوالب القديمة.
نجد للشاعر)علي الشرقي( قصيدة بعنوان)العلم وحده) لقد عبر الشاعر في شعره عن أفكار ذات اتجاهات مختلفة منها القومية والوطنية، وهو قد عرف بحسه القومي، فهو يخاطب أبناء العروبة لينهضوا بأوطانهم، فنراه يبتدئ قصيدته بالإيمان، ويجعل حب العلم و الإيمان به من حيث الوجوب كإيمان المسلم بقرآنه وإيمان المسيحي بإنجيله لذلك راح يدعو الشباب إلى حب العلم، والتعلم لبناء الأمة، وتقدمها وقد انماز الشاعر بحسه الدقيق، وسهولة لغته، وعباراته البليغة، والتقاط حاذق للأمثال، حتى انَّ كثيراً من أشعاره ذهب مثلاً، فنراه يستعمل لفظة (العلم) بدلالات مختلفة تصب جميعها في هدف واحد فيجعل العلم إيماناً واجباً على الفرد تعلمه، ثم يجعل العلم في أبيات أخرى من القصيدة كالسلطان، وفي بيت آخر يجعله الميزان الذي يفرق بين الجهَّال والعلماء، ونرى الشاعر يوظف الفن البلاغي)التشبيه(ليرسم صورة جميلة للعلم، فنراه يشبهه بالماء
العذب الذي تروي جداوله كل ظمآن، إذ يقول:
المنهل العذب إذ عبَّت جداوله
عجبت إن قيل فوق الأرض ظمآن
ونرى الشاعر لا يكتفي بهذه الصورة التشبيهية التي رسمها، وإنما لجأ إلى صورة تشبيهية أوسع من تلك الصورة السابقة ؛ إذ يجعل العلم كالشمس التي تشرق على العالم، ولا يختص بنورها وطن دون آخر، فيقول:
ما اختصَّ بالعلم قوم دون غيرهم
كالشمس ليس لها أهل وأوطان
فنجد الشاعر اختار لعرض أفكاره أسلوباً شعرياً هادئاً بعيداً عن العصبية والقلق والثورة، فهو يلاحظ تفكك الوحدة الوطنية في المجتمع العراقي، ولا وسيلة لإصلاحه سوى العلم ومواكبة الحضارة لذلك حققت هذه القصيدة غرض المجلة (مجلة العلم) وهدفها النبيل.
ونجد في عدد آخر من المجلة نوعاً من الشعر الإصلاحي يتميز في بث روح الحماسة وإيقاظ الهمم والعزائم، ويدفع أهل الشرق إلى التغيير والإصلاح الاجتماعي والسياسي، وذلك في قصيدة للشاعر محمد حسن الشبيبي) (تحت عنوان)انهض يا شرق نهضة (، فالشاعر يعقد موازنة بين حال أهل الشرق وما وصل إليه الغرب من حضارة ورقي، ويشير إلى مسألة مهمة، وهي أن ما وصل إليه أهل الغرب هو في الأصل متحصَّل من الحضارة العربية الإسلامية، والشاعر يوضح ذلك بأسلوب استعاري، فيقول: (الطويل) فإنَّ بني الغرب ارتدوا ثوب مجدكم وحازوا لعمري دونكم قصب السبقِ
وكذلك يشير إلى تقاعس العرب عن الهمم العربية للنهوض لاسترداد ذلك المجد الذي سلبه منهم أهل الغرب، وبات من المحتم أن يهبّوا لاسترداد مجدهم عن طريق العلم والتعلم. ونجد في مجلة العلم مختارات شعرية تمثل جانباً من بوادر التجديد في الشعر، من ذلك قصيدة للشاعر عبد الرحمن البناء) (، تقوم هذه القصيدة على عدة محاور قصصية، تمثل حكاية لفتاة اسمها (لبنى).
الشاعر يفتتح شعره التمثيلي بعنوان)الليل(ويبدو أن الشاعر رمز به إلى الظلام، وقد فسرت ألفاظ القصيدة ذلك المعنى بوضوح، فكانت ألفاظها)فتمني الحشى – قرح جفني – يملأ الأفق بالعويل(، وهذا يعني امتداد سعة ذلك الحزن ليشمل الأفق الرحيب الواسع، ونجد الشاعر أيضاً يلجأ إلى توظيف الطبيعةالتي بدأها بعنوان المقطع الأول، وختم بها القصيدة بعنوان (النجم)، وربما كان هذاديدن بعض الشعراء الذين يقصدون من هذا الأسلوب رمزاً يشيرون به إلى دلالات ومعان أخر.
ولاريب في أن احتفاء مجلة العلم بمثل هذه النصوص له قيمته ودلالته من حيث عرض النتاج الشعري ذي القيمة الأخلاقية التربوية الهادفة إلى معالجة القضايا الاجتماعية، والنهوض بالفرد ومحاولة إثارة وعيه لتحسين رؤاه والتفكر الجيد في أحواله الاجتماعية، وإذا ما طرح هذا الأمر بأسلوب الشعر كان أكثر وأكبر
تأثيرا في متلقيه،على أن المجلة حققت أمرا آخر عن طريق نشر هذه النتاجات التي حملت بوادر التجديد فقد عدت ظاهرة الشعر التمثيلي من الظواهر التي «لم يسبق إليه في العراق، وربما سبقت شعر شوقي في مسرحه الشعري وهذا ما يعد إنجازا واضحا لهذه المجلة.
أن مجلة (العلم) على الرغم من قصر المدة التي صدرت فيها كانت غنية جوهراً ومحتوى، وهي مجلة علمية إصلاحية كانت تهدف إلى إصلاح المجتمع العربي بكل وسائل الإصلاح، ومواصلة مسيرة العلم الحديث والقضاء على العادات والتقاليد التي تتنافى مع عادات الدين الإسلامي ومبادئه، وقد بيَّنت هذه المجلةأهمية الصحافة بعدها رسالة ووسيلة نبيلة في كشف الحقائق وتنوير الأفكار إلى جانب إيقاظ الأمة من سباتها العميق.
وأخيرا يمكن القول إن مجلة العلم أولت الجانب الأدبي اهتماماً كبيراً؛ فنشرت العديد من القصائد ذات المغزى الاجتماعي والإصلاحي، واحتضنت الإبداعات الشعرية المجددة، ونشرت أيضاً المقالات والخطب، وأشارت إلى الروايات المبدعة في ذلك الوقت،فكان لها دور الريادة في نشر نتاجات الأدباء وتشجيعهم، وخلق واقع نهضوي يجابه التحديات وما يعانيه الشعب العربي و الإسلامي من تخلف و استعمار.

من بحث (مجلة العلم للسيد هبة الدين الشهرستاني، دراسة وصفية لنصوصها الأدبية)
م. العميد 2012