من مظاهر التحديث في العهد العثماني الاخير

من مظاهر التحديث في العهد العثماني الاخير

كريم الفرج
ظهرت في الدولة العثمانية حركة إصلاح حديثة، تبناها عدد من رجال السياسة والفكر هناك، كرد فعل لما رأوه من حالات التدهور والانحطاط اللذين سريا في مختلف مجالات الحياة في الدولة العثمانية منذ مطلع القرن الثامن عشر، وأرادوا من ذلك إيقاف مسيرة التراجع والتدهور في الدولة والبحث عن السبل الكفيلة للنهوض بها.

وعلى الرغم من كل محاولات الإصلاح التي قام بها السلاطين العثمانيون، وعدد من رجال الدولة المتنورين، إلاّ إن آثارها لم تظهر في العراق إلاّ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وفي مرحلة مبكرة من النصف الثاني من ذلك القرن حاول بعض الولاة العثمانيين، من أمثال نامق باشا ورشيد باشا، تحقيق بعض الإصلاحات في العراق. فشيد نامق باشا عدداً من الأبنية الحديثة في بغداد. وحسبما يذكر الرحالة ويب (Webb) الذي زار بغداد أثناء ولايته، فإنه شاهد سوقاً واسعة بنيت حديثاً، ومستشفى صغيراً، لكنه”كان نظيفاً ومنظما". وكانت لنامق باشا محاولات لإصلاح الزراعة. وأسس رشيد باشا خطا للملاحة في نهر دجلة في العام 1856. وبعد ذلك بعامين وجدت الخدمات البرقية طريقها إلى العراق. ففي العام 1858 بدأ العمل لربط بغداد بالعاصمة العثمانية من قبل مختصين بريطانيين. وبمرور أربع سنوات تم أول اتصال للعراق بالعالم الخارجي عبر التلغراف. وفي العام 1865 تم إنجاز خط بين بغداد والبصرة.
جلب ذلك انتباه المثقفين بصورة ملموسة، لأن هذه الخطوط كان من شأنها أن توصل الأخبار لهم بدلاً من القوافل التجارية والموظفين المعينين حديثاً. ولهذا كان صداها واضحاً بينهم. فقد وصفه عبد الباقي العمري بأنه”مكسب للأمة في عهد السلطان عبد العزيز". وتحدث مثقف عراقي آخر عن”المعجزة البرقية”التي”جمعت سكان الجهات بنقطة واحدة". وفي رأي محمد جواد الشبيبي فإن”خطوط البرق هي التي قربت الشرق إلى الغرب". في حين قيّم فهمي المدرس الخطوط البرقية بما نصه:
“صرنا.... نتكلم بلسان البرق مع سكان الغرب والشرق، فتأتينا الأخبار قبل أن يرتد إلينا طرفنا، ونعلم عصراً ما وقع في الصين ظهراً...". فيما رأى مثقف آخر بأنها نقلة نوعية في حياة القطر لأن”أمور المخابرة... كانت قبل هذا توصل أو ترسل بواسطة (السماعات) ثم انحصرت أخيراً (بالبوسته) وهي البريد.
وإذ أخترع التلغراف صار الرجل الكائن في منتهى الممالك الشرقية يقدر على معرفة الحوادث في أقصى البلاد الغربية في لحظة واحدة". وهذا يعني، بكل بساطة، إن العالم بأحداثه وتطوراته أصبح أقرب إلى المثقف العراقي الذي بدأ يتحرك، ويهتز بحكم ذلك، وفي ضوء مقارنة الأمور بواقعه.
وفي العام 1862 أوصى الوالي نامق باشا المصانع البلجيكية في ميناء إنتر ويب الهولندي لصنع بواخر للعراق، وقد أنزلت ثلاث منها في المياه العراقية في العام 1869. جلب ذلك أيضاً انتباه المثقفين العراقيين، الذين أدركوا أهمية هذه البواخر في حياة القطر، ولاسيما عند تنقلهم بوساطتها بين بغداد والبصرة. فعبد الغفار الأخرس رأى فيها ثمرة من ثمرات تطور الإنسان في الغرب، الذي يسميه”بقية اليونان”وعدها فهمي المدرس”إنجازاً كبيراً”إذ”صرنا.... نطير على أجنحة البخار في الأنهار والبحار.. (فقلت) النفقات، وسهلت المواصلات، وأتسع نطاق التجارة وامتد رواق الحضارة...".
يعد العام 1869 نقطة تحول في تاريخ التحديث في القطر، ففي هذا العام تولى مدحت باشا، الوالي المتنور، الولاية في بغداد، فضلاً عن فتح قناة السويس التي أدت إلى ارتباط العراق بالسوق الرأسمالية العالمية.
يعد مدحت باشا، رائد التحديث في العراق. قيّم المنتمون إلى الفئة المثقفة اصلاحاته بما يجعلها نقلة نوعية في حياة البلد في القرن التاسع عشر. ففي رأي محمد مهدي البصير فإنه”لولا إصلاحات مدحت باشا لكان من الصعب أن نرى في البلاد شيئاً يذكر".
ورأى محمد رضا الشبيبي إن مدحت باشا أدخل بعض مفردات الحياة المدنية إلى العراق،”وترك أثراً محسوساً من آثار التجدد”حسب تعبيره. أما فهمي المدرس فقد أطنب في تقييم إصلاحاته التي رأى فيها”إنجازات كبيرة في مدة قصيرة".
فلا غرو أن يدعو بعض مثقفي البصرة بعد قيام ثورة 1908 إلى إقامة نصب تذكاري لمدحت باشا في المدينة، الأمر الذي رحبت به بلدية المدينة تقديراً لخدماته. وعلى الرغم من ذلك لم ينفذ”لممانعة السلطات العثمانية"، إلا إن مدحت ظل يذكر اسمه في العراق حتى القرن العشرين بوصفه إدارياً متنوراً.
وضع مدحت باشا جملة من الإصلاحات، دخل بعضها حيز التنفيذ، في حين بقي البعض الآخر مجرد مشروعات بسبب قصر المدة التي أمضاها في العراق. وإن ما أنجز من أعمال، مثل خط الترام بين بغداد والكاظمية، وهو الأول من نوعه في القطر، لفت أنظار مثقفــي المرحلة، فكتب الشاعر جعفر الشرقي وصفاً لهذا الإنجاز الجديد. أما إبراهيم الطباطبائي فإنه رأى فيه من إبداع فكر”الإفرنج”الذين كانوا في نظره مصدر الإبداع ومنبع الأفكار الجديدة.
تنوعت إصلاحات مدحت باشا في ميدان تحديث العراق، من منطلق جعل النفوذ العثماني مركزياً فيه. فعلى سبيل المثال نظم إجراءات الحجر الصحي، واستخدم طبيباً من مدينة البندقية مديراً للصحة العامة. وأنشأ حديقة عامة في بغداد خططها المهندس البولوني الذي رافقه من ولايته في الدانوب.
وكانت المدارس الحديثة التي أدخلها مدحت باشا من أكثر العوامل المؤثرة في التطور الفكري للفئة المثقفة العراقية. فقد درس وتخرج فيها عدد من المثقفين العراقيين. فعلى سبيل المثال درس معروف الرصافي في المدرسة الرشدية في بغداد، التي وصفها بأنها كانت بالنسبة له”حياة جديدة"، حتى الأزياء فيها كانت مختلفة عما كان سائداً في المدارس الأهلية، فهي عبارة عن”البدلة الإفرنجية مع الطربوش". ودرس مثقف آخر، هو شكري الفضلي، في المدرسة الرشدية العسكرية في بغداد. وتخرج فيها المؤرخ العراقي المعروف عباس العزاوي، والمحامي حسن غصيبة الذي عمل في ميدان الصحافة في العقد الثالث من القرن العشرين.
كان لهذه المدارس صدى مؤثر في أوساط المثقفين. فمنذ بداية إنشائها حظيت بتقديرهم واهتمامهم، لاسيما إنها كانت تدرس عدة لغات، فطالب البعض منهم أن يترك الأبناء المدارس التقليدية، جاء ذلك على لسان مثقف عراقي مجهول بصورة معبرة حين كتب في”زوراء”يقول:
"عجباً ما المادة المجبرة لبقاء أولادنا في المكاتب التي لا يستفيدون منها سوى الجهل والغباوة، وما هي الأسباب الموجبة لنا بترك أولادنا... وإضاعة أعمارهم العزيزة هباءً منثورا".
واحتلت جريدة”زوراء”التي صدرت في عهد مدحت باشا، موقعاً مهماً في التأثير على التطور الفكري لدى الفئة المثقفة العراقية. فبتأثير مدحت باشا، الذي كان من المتنورين بأفكار الثورة الفرنسية، حيث نقلت”زوراء”أحياناً أفكار المثقفين المتأثرين بمبادئ تلك الثورة في عهد ولايته. فقد وردت إشارة صريحة فيها إلى الثورة الفرنسية، وإعلان حقوق الإنسان في مرحلة مبكرة من صدورها، إذ كتبت ما نصه:
"قامت فرنسا من أقصى الغرب قبل هذا بمدة (تسعين) سنة بكمال الهيجان والإقدام ونادت بحقوق البشرية والسلاح بيدها، حتى إن مملكة الصين هي التي في منتهى الشرق صارت (ذات) حصة من الأمنية وذلك في حياة الإنسان....
وأصبحت باريس في نظر المثقفين”مركز دائرة مدنية عصرنا، وأنموذج الترقي والعمران في الكرة الأرضية”و"حديقة العالم،ومسرح أنظار كافة الأمم"، وأصبحت فرنسا في نظرهم الدولة الأوربية الأولى في مضمار نشر المدنية. وإن”الذين يرومون تنوير الأبصار في كل مملكة مجبورون على مراجعة الكتب الفرنساوية، حتى إن القواعد المدنية التي وضعها فلاسفة ألمانيا قد نشرت بمعرفة الفرنساويين في أقطار العالم".
الأكثر من ذلك فإن رجل الشارع عرف منذ مرحلة مبكرة مكانة فرنسا، فبمجرد”سماعه أسم باريس”كان يقبل على شراء”الحاجة مهما غلا ثمنها”حسب تقييم”زوراء”للموضوع.
ومنذ مرحلة مبكرة من صدورها غذت”زوراء”أذهان المثقفين العراقيين بمعطيات ذات معان ثورية، فكتبت مراراً عن أحداث كومونة باريس، وكيف استلمت السلطة في العام 1871، مع العلم إن الجريدة نفسها دافعت عن السلطة في فرنسا ووصفت رجال الكومونة بأنهم”العصاة الذين هم في هوى حماية الحقوق العمومية.
ولأول مرة على ما يبدو أطلع المثقف العراقي عن طريق”زوراء”على معلومات بصدد إضرابات عمالية في أوربا دفعت السلطات إلى تحسين مستوى الأجور، وتحديد ساعات العمل بعشر ساعات. وقدمت”زوراء”تقييماً رائعاً لحقوق الإنسان في العالم المتمدن، إذ كتبت بهذا الخصوص تقول:
"أما الحقوق فإنها دخلت تحت حماية أفكار العمومية، حتى إن إعدام النفس الواحدة (تتراءى) في البلدان المتمدنة أشكل من إحيائها".
وفي السياق نفسه نشرت دفاع الكاتب الفرنسي الكبير فيكتور هوجو (1802-1885) عن مجموعة من الأشخاص، صدر بهم حكم إعدام في روسيا القيصرية، وكيف إن هوجو من خلال”حكاية آخر ساعة لمحكوم"، وهي نتاج أدبي مؤثر كتبه بهذا الخصوص، طلب فيه من القيصر إعفاء هؤلاء الأشخاص، استطاع أن ينقذ حياة هؤلاء حين لبى القيصر الروسي طلبه. وعليه قيمت”زوراء”هوجو بأنه”بلغ درجته في حكمة الشعر أو شعر الحكمة"، وعادت الصحيفة للكتابة عن هوجو فيما بعد.
أسهمت تلك الصحيفة في تنمية الوعي السياسي لدى المثقفين العراقيين، إذ من خلالها عرف هؤلاء مفردات سياسية جديدة مثل”الجمهورية”و"الاشتراكية". ففي العام 1871 تحدثت”زوراء”عن الأوضاع السياسية في فرنسا، فنشرت بهذا الشأن”إن تلون أفكار أهالي الفرانسة، في أي درجة من الدرجات. ففي ظرف سنة... نقلوا حكومتهم الإمبراطورية ومنها إلى الحكومة المؤقتة ومنها إلى الجمهورية التابعة للجمعية التي سميت بالاشتراكية...".
مما له مغزاه إن محاولات التغيير في تلك المرحلة امتدت إلى مجالات أوسع وأشمل، منها الأدب الذي بدأ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر يبحث عن أشكال جديدة للتعبير، وعن مضامين كانت تهم المجتمع وتتعلق به أكثر من المضامين التقليدية، التي بدأت هي كذلك تعبر بشكلٍ أو بآخر عن الأفكار الجديدة. فعلى سبيل المثال أنتقد أحد المثقفين المبالغات في الشعر، واستنكرها، وأثنى على الشعراء العرب القدماء الذين وصفهم”بالقوة"، إذ ليس”في أشعارهم من المبالغات التي وجدناها في يومنا هذا، وإن تشبيهاتهم أيضاً نشاهدها بصورة تنبسط لها الطبيعة".
وشدد مثقف آخر على أهمية ما سماه"صناعة كتب القصص”ونتاجها ومالها من أثر في تعميق الفكر. وانتقد النظرة الشائعة لها، ووصمها بالنظرة الخاطئة،لأن القصص”غير خالية من الأهمية”حسب تقييمه. وقد تعززت هذه النظرة بما كانت تنشره”زوراء”عن كبار الكتاب العالميين.
قدمت الصحافة العراقية، في الوقت نفسه، قرائن ذات معان ديمقراطية، وجدت طريقها بالتدريج إلى أذهان المثقفين، فعلى سبيل المثال نقلت الصحيفة”خبراً مفاده خروج الشاه القاجاري إلى السوق منفرداً، مما لاقى الترحيب، وأثنت”زوراء”على ذلك. وأشارت نقلاً عن جريدة”الجوائب”إلى الحرية التي كان يتمتع بها الشعبان البريطاني والسويسري، وحقهما في إنشاء نوادي سياسية وممارسة نقد السلطات القائمة في بلديهما. وقيمت أيضاً نقلاً عن جريدة”وقت”التركية حرية الصحافة في بريطانيا بأنها”دخلت بحكم العرف والعادة".
من دون شك فإن مفاهيم دستورية وصلت أيضاً إلى أذهان المثقفين العراقيين في سبعينيات القرن الماضي، لم يكن بوسعهم تجاهلها، أو عدم الانتباه إليها. فعلى سبيل المثال نشرت”زوراء”خبراً أشار إلى انتخاب الرئيس الأمريكي غرانت للمرة الثانية إثر انتهاء مدة رئاسته الأولى لأنهم”لم يروا أليق منه لكرسي الرئاسة.
تعمقت هذه المفاهيم في ذهن المثقف العراقي بتأثير من الثورة الروسية عام 1905، التي كتبت عنها الصحافة، وأثنى عليها الكتاب، و”الثورة الدستورية”الإيرانية (1905-1911) وأكثر من هذه وتلك بتأثير ثورة الاتحاد يين عام 1908، وقبول السلطان عبد الحميد الثاني بالدستور، وتأسيس”مجلس المبعوثان"، الموضوع الخطير الذي تحدثت عنه الصحيفة هكذا:
"إن أصول المشورة والمشروطية التي لم يستطع الأوربيون إستحصالها إلا في كم عصر بهذا القدر.. من سفك الدماء... ولما كانت أصولاً أمرنا بها من طرف ديننا قد حصل بها الاستحسان

من طرف سلطاننا... ولقد كان تمدن الشرق متوقفاً على أصول المشورة هذه، وأصول المشورة هي أساس مدنية الشرق.
شهدت بغداد آنذاك أول تجربة لها في هذا الميدان حين إرسل”ثلاثة نواب”يمثلونها إلى أول مجلس”للمبعوثان"، وهم عبد الرزاق بك وعبد الرحمن بك ودانيال أفندي. مما كان له صدى لدى مثقفي المدينة، لاسيما إنهم كانوا يمتون إليهم بأكثر من صلة. ومن المفيد أن نشير إلى إن لوريمر عد أحد هؤلاء”من أكثر السياسيين تقدمية في تلك الأيام"، الكلم الذي يؤشر واقع الفئة المثقفة العراقية يومذاك بصورة أو بأخرى.

عن رسالة (الاب انستاس ماري الكرملي)